لولا مشاهد الدمار والخراب التي تخترق الوجدان مباشرة، ولولا أصوات الطلقات والتفجيرات التي تصم الآذان فعلياً، ولولا إحصاء الجثامين وعد الجرحى والنازحين واللاجئين بعدادات مرئية، ولولا قواعد بيانات تشي بأي جيش يتفوق على الآخر في الذخيرة والعتاد والجنود، لتفوقت حرب الإعلام بروافدها، والأخبار والتدوينات والتغريدات والفيديوهات والصور، وكل ما من شأنه أن يدق مسماراً أو يبني فكرة أو يخلق توجهاً أو يغير دفة أو يحمل مادة مرئية أو مسموعة أو مقروءة، لا سيما المواد التي تفنى وتستحدث من عدم.
حرب المادة الإعلامية
حرب المادة الإعلامية الخاصة بحرب أوكرانيا ليست الأولى من نوعها، لكنها الأكثر تفرداً والأعتى أثراً والأعلى تعدداً وتنوعاً والأقل حياداً واتزاناً، ويكفي أن المادة الإعلامية التقليدية والعنكبوتية، وما بينهما، تتفجر من كل ركن من أركان المعمورة، وفي كل تفجر ألوان تفضح انتماءات وتعكس مصالح وتعبر عن رغبات محمومة في توجيه الحرب إلى اليمين قليلاً أو نحو اليسار كثيراً.
يمين الإعلام ويساره يعكسان يمين دول العالم ويسارها. اليمين عامر بمحتوياته، فمن يمينية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المشبع برغبة محمومة في الترويج للمجد والفوقية والهيمنة الروسية، إلى يمينية توجهات وجماعات وأفراد في أوكرانيا تتأرجح بين اليمين المتطرف والنازية الجديدة، إلى تيارات يمينية راديكالية من كل شكل ولون في أرجاء العالم من أميركا غرباً إلى الهند واليابان شرقاً، وبينهما دول أوروبية عدة مثل النمسا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا، ولا يستثنى منها دول لاتينية عدة، وكذلك اليمين الإسلامي المتمثل في جماعات متشددة تؤمن بأفضليتها وفوقيتها، يزخر العالم، وبالتالي منصاته الإعلامية التقليدية والعنكبوتية، بكل أطياف اليمين وتوجهاته. أما اليسار فيعاني تراجعاً ويئن من الهزال، لكنه يعوض ذلك بصخب إعلامي على الأثير بأنواعه.
أثير الأوكرانيين
أثير الأوكرانيين لم ينقطع طوال أسابيع الحرب. أوكرانيا الباقية "أون لاين" تصنع فروقاً هائلة في الحرب وتوجهات الرأي العام ومواقف دول العالم والخطابات العدائية المتبادلة بين المتصارعين. بقاء أوكرانيا ومن فيها "أون لاين"، سواء أبناء الشعب الأوكراني، أو أفراد القوات الروسية، أو المتطوعون في "فيلق الأجانب"، أو المرتزقة في الصف الروسي، يعوض جانباً من فجوة الحجب وهوة الإغلاق التي فرضتها كل الأطراف على كل الأطراف.
وعلى الرغم من ذلك فإن المادة الإعلامية الواردة من الداخل لا يمكن وصفها بـ"المنزهة عن التوجهات" أو "البعيدة من الأهواء" حتى لو كانت مفهومة ومنطقية.
المنطق في حرب الإعلام الدائرة حالياً يصعب الوصول إليه، ناهيك عن فهمه، لكن فهم ما يفعله الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على أثير الإعلام غير التقليدي سهل ومنطقي.
أصبح الرئيس الأوكراني بين حرب على بلاده وضحاها الضبابي أيقونة تعدت حدود الـ "سوشيال ميديا" إلى آفاق الإعلام التقليدية، ومنهما إلى داخل كل بيت على ظهر المعمورة. الرئيس الشاب نسبياً الوسيم نسبياً الهادئ نسبياً، تمرد على قواعد نظرية النسبية، يحلق يومياً على مدار الساعة منذ بدء الحرب في فضاء الإعلام، بمقطع فيديو هنا ولقاء عبر "زووم" هناك، ومناشدة على "تويتر" أو تدوينة على "فيسبوك" أو صورة على "إنستغرام"، وغيرها بشكل مطلق. حوّلت الحرب أو حوّل زيلينسكي الحرب في أوكرانيا إلى مصلحته عنكبوتياً، وهو الصالح الذي تمتد آثاره إلى أثير الإعلام التقليدي.
زيلينسكي رب العائلة
صورة زيلينسكي الأسرية وهو يجلس إلى جوار زوجته وابنتهما خلفهما وابنه الصغير أمامه، وكل من الأب والابن يظهر بوجه ملون بطلاء مبهج، تظهر ملايين المرات للملايين من متصفحي "إنستغرام" يومياً. حساب زوجته أولينا زيلينسكي يحوي مئات الصور الأسرية، وأخرى من الحرب وثالثة من فعاليات حول العالم تدعم أوكرانيا ضد روسيا. حساب زوجها الرئيس يحوي مئات الصور كذلك، لكن الصورة نفسها مذيلة بكلمات قالها أثناء خطاب ألقاه لدى تقلده منصب الرئاسة عام 2019. وتقول الكلمات، "لا أريد صوري في مكاتبكم. الرئيس ليس أيقونة ومحبوب الجماهير. علقوا صور أبنائكم وانظروا إليها في كل مرة تنوون فيها اتخاذ قرار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن ما حدث أن المسار الإعلامي الذي انتهجه زيلينسكي ونقله عنه هذا الجزء من العالم المؤيد لأوكرانيا ضد روسيا حوّله بالفعل إلى أيقونة ومحبوب الجماهير. صوره وكلماته الموجزة وحتى "تي شيرتاته" الخضراء الشبيهة بملابس الجيش التي لا يرتدي سواها منذ بدأت إطلالاته العنبكوتية عقب الحرب، أصبحت بمثابة صرعات محمومة يتداولها الملايين، لدرجة أن أحدهم بدأ يبيع "تي شيرت" زيلينسكي عبر تطبيق "أمازون"، وقال إن الأرباح ستذهب إلى الشعب الأوكراني.
لكن الأرباح الإعلامية الناتجة من "تي شيرت" زيلينسكي والهالة والحالة اللتين صنعهما لنفسه أكبر وأهم. أصبح زيلينسكي "سوبر هيرو" أو بطلاً خارقاً. مواصفاته مختلفة وبطولاته لا تتشابه وبطولات "سوبرمان" أو "بات مان" أو حتى "سبايدر مان"، لكنها تبقى بطولات يجري تداولها ملايين المرات يومياً، وتعاد بسببها صياغة سرديات الحرب ومآلاتها. بعضهم يرى في تحول زيلينسكي عبر الـ"سيلفي" والـ"زووم" وغيرها من المنصات الافتراضية خير ما يدحض آلة الحرب الإعلامية الروسية ومن يؤيدها ويقف معها ويقدم مثلها، لكن بعضاً آخر يبدي تخوفاً وتحفظاً من تحول الرئيس الأوكراني إلى بطل خارق بفعل الأدوات الإعلامية.
هناك تخوف من أن يجري تحويل زيلينسكي من بطل يمثل الديمقراطية ويرمز إلى الحرية ويعكس الخير والحق إلى بطل سياسي ديمقراطي خارق، وفي السياسة، لا سيما تلك التي تصنف نفسها ديمقراطية، لا مجال للقوى الخارقة. شعرة رفيعة قابلة للخدش والكسر تفصل بين البطولة الخارقة والتحول صوب الديكتاتور والزعيم الأوحد.
قواعد الديكتاتورية
قواعد الديكتاتورية كثيرة، وبعضها يتعلق بالإعلام، إذ يعتقد أن التضليل والتعتيم والتطويع والتوجيه الإعلامي أحد أسلحة الأنظمة الديكتاتورية للهيمنة على الشعوب، وكان يتوقع أن الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي ستأتي ومعها معاول هدم الديكتاتوريات لتفتح أبواب الحريات الإعلامية وتداول المعلومات وتشارك الحقائق، لكن ما حدث أنه لا أبواب فتحت ولا معلومات وحقائق منزهة عن الكذب والفبركة هيمنت.
هيمنة كاميرات الهواتف المحمولة في أيدي المدنيين والعسكريين والمتطوعين والمرتزقة، إضافة إلى الصحافيين الموجودين في حلبة الصراع، جعل كل منهم صانع قصة وموجه رأي عام، مع سبق الإصرار أو من دونه. آلاف الصور ومقاطع الفيديو لمواطنين أوكرانيين بين الحطام وفي المخابئ وعلى خطوط القتال، ومثلها لآخرين يلتقطون الصور والفيديوهات لمن يوثق المجريات بهاتفه. كل هذه الصور والفيديوهات يتم تحميلها على الشبكة العنكبوتية مصحوبة إما بتعليق حول فظائع روسيا في أوكرانيا أو أكاذيب أوكرانيا عن روسيا أو إصرار الأوكرانيين على مواجهة الروس أو ترحيبهم بهم أو انتصارات أوكرانية أو فتوحات روسية، والقليل فقط يترك للمتلقي أن يكوّن رأياً ويبني موقفاً.
حتى أسابيع قليلة مضت كان الحديث عن "تيك توك" خارج إطار المؤثرين الشباب وجامعي الأرباح من الهواء ونشر النكات بالفيديوهات غير وارد. اليوم بات "تيك توك" ومعه "إنستغرام" و"تويتر" آلات حربية وسياسية ودعائية وعدائية. جنود أوكرانيون يوثقون تفاصيل القتال وأسّر جنود روس وتبادل نكات في ما بينهم وتهديداً ووعيداً لفظياً للروس بأن "أيامهم المقبلة سوداء"، وبأن النصر حليف أوكرانيا والعار والهزيمة مآل العدو الروسي. شخصيات عامة ومؤثرون وفنانون أوكرانيون تحولوا من التأثير بالأزياء والموضة والتجميل إلى التأثير بالحرب والسياسة والإعلام، وأقرانهم في الجانب الروسي يفعلون الشيء نفسه، فما يبدو احتلالاً وفظائع ودماراً هنا هو استحقاق واستسلام وبناء هناك.
في تلك الأثناء يستمر تراجع الإعلام التقليدي الذي يتأرجح بين عراقيل التدقيق قبل النشر وملل التيقن قبل البث وفخ النقل والقيل والقال على منصات التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من أن المشهد الحالي، حيث السياسة المتشابكة مع الأمن والمتداخلة مع العمليات العسكرية والمنقولة عبر أثير هواتف المواطنين المتحللة والمتحررة من قيود الإعلام التقليدي وحساباته وتوجهاته وتوجيهاته، تكرر بضع مرات في العقد الماضي، لكن نسخته الحالية شديدة التفرد.
إن جوانب عدة من التغطيات الفردية للحرب في أوكرانيا والتي تصب رأساً في شاشات يملكها مليارات البشر حول العالم، متلونة بألوان الحرب والغايات والأيديولوجيات والتوجهات والمصالح.
عداد المشاهدات يتصاعد بجنون، وساعات البث العنكبوتي لا تعترف بجدول أو تتقيد بقواعد أو مواثيق عمل صحافي. المقاطع المصورة التي تبثها الصفحات الشخصية لجنود أوكرانيين أثناء أسر جنود روس، على حد قولهم، تناقض وتعارض قوانين الحرب والمواثيق الدولية الخاصة بالأسرى، لكن يجري تداولها بجنون، والإعلام التقليدي واقع في مأزق لا يحسد عليه، فقيمه وقواعده لا تسمح له ببث هذه المقاطع الجديرة بتحقيق أعلى المشاهدات، لذا يكتفي بالإشارة إليها، مما يثير شهية القراء والمشاهدين الذين يهرعون للبحث عنها في مصادرها العنكبوتية.
آلات الحرب الإعلامية المتأرجحة بين الدفاع والعداء وإخبار الرأي العام، كل بطريقته وبحسب توجهه، ليست الوحيدة المستخدمة على الساحة، فمعها، ولكن في مقصورة مجاورة، آلات حرب الإعلام التقليدي من صحف ومجلات وقنوات تلفزيونية وإذاعية ومواقع إخبارية إلكترونية في أنحاء الكوكب تعاني قدراً غير قليل من الفوضى التي لا تخلو من تخبط. المنصات الإعلامية الغربية الكبرى، بما في ذلك المصنفة مستقلة، وجدت نفسها جزءاً لا يتجزأ من موقف بلادها الذي يمليه عليها التاريخ والجغرافيا والسياسة والأيديولوجيا، وإلى حد ما قواعد حقوق الإنسان التي لم تكشف عن وجهها المثالي بالقدر الكافي في العديد من وسائل الإعلام في أحداث مماثلة سابقة شهدت اجتياح جيوش دول دولاً أخرى، وإشهار الرغبة في تغيير النظام السياسي القائم، واجتياح الدول والرغبة في تغيير أنظمتها سابقاً أمور لم تستدع قدراً وفيراً من التغطيات الإعلامية المرتكزة على جوانب حقوقية كتلك السائدة حالياً.
إعلام عاكس للأنظمة
السائد حالياً في العديد من المنصات الإعلامية الغربية يعكس الدائر في كواليس السياسة، فهناك قدر غير قليل من التخبط وضبابية الرؤى في ما يتعلق بالخطوات التالية التي ينبغي اتخاذها للرد أو لردع الجانب الروسي، كما أن القدرة على التنبؤ بما ستسفر عنه الأوضاع تكاد تكون منعدمة، وحتى التوقعات التي تملأ أعمدة الرأي وفقرات التحليل الإخباري مفعمة بالأمنيات أكثر من التكهنات، وفي الأمنيات كثير من نبرات التهديد وتلميحات الوعيد لدرجة تشبه مشجعي المباريات الذين يتوعدون الفريق المنافس.
وإذا كانت أعمدة الرأي وفقرات التحليل مساحات يسمح فيها بإعلان التوجه والمجاهرة باتهام الطرف الآخر بما لذ وطاب من اتهامات سياسية وتاريخية واستعمارية، فإن الأخبار لها شأن مختلف، لكن الملاحظ أن التغطيات الخبرية يشوبها كثير من التوجهات الأيديولوجية. وبزغت فجأة عبارات ومفردات تشبه إلى حد كبيرة تلك التي كانت سائدة إبان عصور مناهضة الشيوعية والمعسكر الشرقي.
ليس هذا فقط، بل إن نبرة تعظيم التغطية العسكرية الدائرة على منصات التواصل الاجتماعي من قبل أفراد تجتاح العديد من وسائل الإعلام الغربية. وعلى الرغم من معرفة أن ما ترسمه الـ "سوشيال ميديا" من واقع للحرب يظل عرضة لأن يكون افتراضياً، أو في الأقل واقعاً من وجهة نظر واحدة، لكن التأييد عارم وجارف ووصل الأمر إلى درجة التلميح باتهامات تأييد الجانب الروسي لمن يحذرون من الاعتماد على صور يجري التقاطها عبر الأقمار الاصطناعية من حيث الدقة والتوقيت، أو فيديوهات ربما لا تكون بالضرورة في المكان والوقت الذي يذكرهما صاحبها، أو من تأليه الـ "سوشيال ميديا" الحربية من منطلق أنها هي ذاتها "سوشيال ميديا" الأيام العادية، قد تخطئ وقد تصيب.
"بروباغاندا" روسية
على الجانب الإعلامي الروسي وإعلام الدول المؤيدة لها لا يقل الوضع غرابة، فالتغطيات الخبرية مثلاً على "روسيا اليوم" تحوي كثيراً مما يقال عن روسيا في الغرب من دون تعليق أو تنديد، لكن آلة الإعلام الروسية عتيدة، وبالطبع تعتبر "العملية العسكرية" الروسية دفاعاً عن حقوق وتأميناً للبلاد والعباد، ناهيك عن الانتقادات العنيفة للعقوبات الغربية وإجراءات التضييق والمصادرة لثروات الـ "أوليغارش" (رجال الأعمال الروس) المحسوبين على النظام الروسي.
واللافت في هذه الحرب وقوع منصات غربية في فخ الـ "بروباغندا" الذي طالما انتقدته وحاولت تقويمه والتحذير منه، وبعض هذه المنصات، لا سيما الـ (سوشيال ميديا) بما في ذلك التابعة لمؤسسات رسمية، تحولت إلى وسيلة تجنيد للمقاتلين، كما أصبحت أداة فعالة غير تقليدية لبث أخبار بعينها شبه رسمية، فصفحة رئيس جمهورية على "إنستغرام" أو حساب رئيس وزراء، أو صور زوجة قيادي سياسي، ليست مصادر معتادة للأخبار لكنها أصبحت كذلك، إضافة إلى كونها حلبة للتراشقات السياسية والمعلومات والدعاية والتسويق وتشكيل الرأي العام.
والمؤكد أن الحرب الإعلامية تطرح نفسها في الأحداث الجارية، ليس فقط كعامل مساعد أو عنصر مؤجج، بل كطرف رئيس يتجاذبه الجميع من دون استثناء، ويطوعه الكل بحسب المقاس والرغبة والهدف، وحتى إجراءات منع قنوات من البث وحجب مواقع، لم تعد حكراً على دول غير ديمقراطية، بل أصبحت سلاحاً للجميع، وإن اختلف الغرض المعلن بين "العقاب على كذبها" أو "حماية الشعب من خطرها" أو "لأنها غير محايدة"، فيما يظل الحياد الضحية الإعلامية الكبرى لحرب روسيا على أوكرانيا، بشقيها العسكري والإعلامي، وإعلامها التقليدي والجديد والمختلط.