"ما هي الأنوار؟" سؤال طرحه إيمانويل كانت وأجاب عنه بنفسه قائلاً: "هو خروج الإنسان من حالة الوصاية التي يكون هو نفسه مسؤولاً عنها". وإذا تأملنا هذا التعريف ببعده الفلسفيّ، نجد أنّ الأنوار مصدرها العقل، وشرطها التحرّر.
ووفقاً للمنظور الكانتيّ، تُمثّل "الأنوار" ثورةً على حالة القصور والعجز عن استخدام الفكر. ومن هذا المعنى، يأتي عنوان المعرض الحالي في غاليري أليس مغبغب "أنوار" (يستمرّ حتى 13 مايو/ أيار).
وليس عبثاً انتقاء هذا العنوان تزامناً مع عودة افتتاح الغاليري بعد إقفالٍ دام لأشهرٍ عدة بسبب "العتمة" التي غرقت فيها بيروت. ولمن لا يعرف، أقُفل غاليري أليس مغبغب خلال أزمات بيروت الأخيرة، مرّتين. الأولى قسراً عقب انفجار المرفأ، قبل أن يعود بمعرض "هذه الأرزة التي تقطع"، حيث التفّ فنانون محترفون حول تيمة "الأرزة" احتفاءً بلبنان وبالأرض وبالجذور.
وفي المرّة الثانية، أغلق بقرارٍ من صاحبته التي تحدثت إلى "اندبندنت عربية" قائلةً: "هذه عودة بعد أشهر من الإقفال. في يوليو (تموز) 2021، قطعت شركة كهرباء لبنان إنتاجها للطاقة وأغرقت البلاد في ظلام دامس. وكان علينا الخضوع لحسابات "رجال الموتيرات". لكنني ارتأيت العتمة على أضوائهم المزيفة. لكننا نعود اليوم لاستكمال دورنا الثقافيّ في مدينة النور، بيروت، من دون أن نكون تحت رحمة متعهدي الموتيرات والجهات السياسية التي تقف خلفهم. لقد استعنّا بمصدر طاقة جديد يُغذّي الصالة من الشمس مباشرةً. أرادوا لنا أن نغرق بالعتمة. لكنّ طاقتنا تنبع من داخلنا".
أضواء فنية
هذا الضوء، بمعناه الفعليّ والرمزيّ، يتراءى لك في أرجاء المعرض. ضوءٌ منبعثٌ من أربعة وأربعين عملاً فنياً لستّ فنانات يملأن المكان بطاقةٍ إبداعية مشعّة، وهنّ: اللبنانية هدى قساطلي من لبنان، البلجيكيتان جانين كوهين وكليمنس فان لونين، البولندية مالغورزاتا بازكو، الصينية ولي وي، إضافة إلى الفنانة والشاعرة الكبيرة إيتيل عدنان التي رحلت أخيراً في مقرّها الباريسيّ.
تتنوّع الأعمال بين لوحاتٍ ومنحوتاتٍ وصور فوتوغرافية، وتؤكّد أليس مغبغب أنّها تُعرض جميعها للمرّة الأولى. "هذه الأعمال كلّها حديثة. تقول مغبغب. حتى لوحات إيتيل عدنان هي آخر ما أنجزته قبل رحيلها". وتُضيف مغبغب أن مجموعة عدنان موجودة الأحدث حاضرة في قاعتها، وبعض هذه الأعمال قد عُرض سابقاً في باريس ونيويورك، لكنّ اللوحة المشاركة تُعرض للمرة الأولى من خلال معرض "أنوار".
وإذا تأملنا في تواريخ الأعمال، نجد أنها أُنجزت بمعظمها خلال فترة الحجر الصحي، حيث اتخذ "الضوء" بُعداً آخر باعتباره معادلاً لـ"خارجٍ" لم يعد مُتاحاً أمامنا. مرّةً نراه عبر منشآتٍ ضوئية ومرّة أخرى نتخيّله عبر تركيب هندسي على شكل نافذة. نلمحه حيناً في بياض القماش المبهر، بينما يتجسّد أحياناً على شكل صدفةٍ منحوتةٍ بلونٍ أبيض لؤلؤيّ.
أنجزت إيتيل عدنان لوحات مجموعتها الأخيرة "اكتشاف المباشر" قبيل وفاتها بفترةٍ وجيزة. ففي خريف عام 2021، اختارت عدنان أن تواجه "عزلة" العالم برسومٍ تنفذ إلى الخارج، متمثلاً بالطبيعة الصامتة والأشجار والجبال، رسمتها بخط واحد باللون الأسود، بينما يُشرق النور من القماش الأبيض الباهر.
كسر العزلة
إيتيل عدنان اختارت أن تكسر عتمة العزلة بريشتها. أمّا هدى قساطلي، فارتأت المواجهة بآلة التصوير الخاصّة بها. في ربيع 2020، أنجزت قساطلي مجموعتها الفوتوغرافية الأحدث بعنوان "متألّقة، شارع دمشق". الشارع البيروتيّ المهجور، بسبب الإغلاق والأزمة، ظلّ مادةً جاذبةً في عين الفنانة. وعلى مبدأ فنسنت فان غوغ القائل: "ابحث عن النور والحرية، ولا تتعمّق في تأمّل شرّ الحياة"، راحت قساطلي تتتبّع ذاك الضوء المنبعث من بين أشجار بيروت. فالصور لا تنقل تراجيدية المدينة وواقعها. وإنما تنفذ إلى ما فيها من جمالٍ ونور. صورٌ تتفحّص مثلاً أوراق أشجار الجكارندا وأغصانها. وعبر الصورة المقرّبة، تُبرِز قساطلي ثنائية الأسود والأبيض بما يُرسّخ جمال الطبيعة وكمالها.
وفي مجموعة "شرفات"، تضعنا مالغورزاتا باشكو أمام ضوءٍ منبعث من أشعة الشمس. خيوط النور تتسلّل من بين أغصان شجرة الكستناء المخضوضرة وتعبر إلى جسد رجلٍ مستلقٍ على أرضٍ، مفروشة بظلالٍ زرقاء وانعكاسات وردية. وإذا كان للنور صفةً في مجموعة مالغورزاتا فإنّه من دون شكّ هو النور المتلاشي.
أمّا الفنانة لي واي، فاختارت في مجموعتها "الإصغاء إلى الثلج" أن تُصوّر "النور" بعينٍ مختلفة. تتجاوز بأعمالها الصور النمطية حول فكرة الضوء. فلا تُلاحقه باعتباره معادلاً لفصل الصيف، وشعاع الشمس. بل إنها تغوص في صمت الطبيعة لتكشف عن "نور" الشتاء الساطع. هكذا، ترسم لي واي المناظر الطبيعية بالحبر الأسود المخفّف على حرير أبيض، من خلال وضع نقاط صغيرة وخطوط متقطّعة منحرفة في تشكيلة لامتناهية من الرماديّ. وبهذه التقنية اللافتة، تمنح الفنانة "النور" بُعداً آخر بعيداً من العاديّ والمتوقّع.
نوافذ جانين
ولعلّ "نوافذ" جانين كوهين المصنوعة كتركيبات هندسية خشبية، ومبنية بواسطة عيدان خشبية مسطّحة تُعيد إلى الأذهان فكرة الضوء المُتخيّل، أو الأصحّ قولاً المُشتهى. فما هي رمزية النافذة إن لم تكن بمعنى الخروج إلى الضوء؟ ولا شكّ أنّ مفهوم "النافذة" نفسه أخذ بُعداً أعمق عقب جائحة كورونا التي فرضت علينا أن نُغلق أبوابنا ونوافذنا لنبقى سجناء الداخل، بعيداً من ضوء الخارج وأفقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتميز مجموعة كوهين، وعنوانها "الخروج عن السيطرة"، بتركيبات هندسية ومنشآت ضوئية مميزة بأفكارها وأشكالها وألوانها المنعكسة على الحائط، راسمةً هالة مضيئة بتلوينات قوس قزح الدقيقة، متوِّجة منظراً خياليّاً.
تُشارك كليمانس فان لونين في هذا المعرض من خلال "روكاي"، وهي منحوتة خزفية، تمثّل مزيجاً من المنسوجات الملفوفة والمرصّعة بالأقراص الخزفية والخصل النسيجية والأصداف. شكل المنحوتة أشبه بجمجمة تعكس حقيقة الفكر ومتاهاته. في حين ينبعث النور من الطلاء الرماديّ اللؤلؤيّ ذات اللمعان المعدنيّ، والذي يغلّف طيّات القماش.
في صالة "أليس مغبغب" (بيروت)، تتجاور الأعمال الفنية فكأنها تتحاور داخل فضاءٍ إبداعيّ يشعّ بـ"أنوار" الفنّ والجمال والتنوّع والانفتاح. ومن هنا تردّنا كلمة "الأنوار" إلى معانٍ تجسدت في القرن الثامن عشر، عندما أرست الحركة "التنويرية" مبادئ الحداثة ونشرتها في العالم، فأخرجت الإنسانية من "ظلامية" الجهل إلى "أنوار" العلم. وفي سياقٍ موازٍ، تنقلنا تيمة المعرض هذه إلى عصر النهضة، الصورة الشرقية للأنوار الغربية، حيث انفتح المشرق على معاني التقدّم والحرّية. ثمّ يُطالعنا السؤال أخيراً: إذا كانت مدينتنا قد عُرفت قديماً بأنها منارة الشرق، فمن يُعيد إلى بيروت اليوم نورها؟ وهل الفنّ وحده قادر أن يُخرجنا من هذه العتمة المحدّقة فينا؟