صدت المدينة محاولة هجوم روسي بنجاح. هدأ وابل الضربات الصاروخية ونيران المدفعية: انتاب القائد ألكساندر أوساداتشي شعور بالتفاؤل ما لبث أن تبدد بعد أن أتاه الاتصال الذي كان يخشاه من شقيقه. وقد قتلت والدتهما ماريا البالغة من العمر 85 عاماً أثناء القصف على قريتهم كاميانكا، في المنزل الذي عاشت فيه الأسرة لأجيال، وهو منزل رفضت مغادرته إلى منطقة أكثر أمناً حتى مع اشتداد القتال.
"كانت امرأة شديدة العزيمة، ولم تكن لتغير رأيها"، يقول الكابتن أوسادشي... "ومثل كثيرين من أبناء جيلها، كانت ظروف حياتها شاقة، من المؤسف أنها انتهت بذلك الشكل التراجيدي".
كان النقيب أوسادشي، من "كتيبة كوزاك" 226 المتطوعة، يخبرني عن الحصيلة المرتفعة من الضحايا المدنيين في خاركيف، فيما تواصلت أعمال العنف في المدينة الثانية في أوكرانيا على بعد 25 ميلاً فقط من الحدود الروسية. ثم توقف عن الكلام. وأضاف بهدوء أنه علم بوفاة والدته منذ 24 ساعة فقط. ويقول متأملاً: "في الحقيقة، لقد توفيت منذ بضعة أيام. حاول أخي وآخرون الاتصال بي، ولكن المكالمات صعبة جداً الآن كما يمكن للمرء أن يتخيل. ما زلت أحاول استيعاب هذا الخبر، ولكن لدينا الكثير لنفعله. ربما هذا ليس أمراً سيئاً [وتُرتجى منه فائدة]، فمن الأفضل أن نبقى منشغلين".
بقي شقيق النقيب أوسادشي، أندريه، وهو جندي سابق، في المنزل لرعاية والدتهم... "في اليوم التالي لدفن والدتنا، ذهب إلى سلوفيانسك [في دونباس] وانضم إلى الجيش. نحن ندافع عن بلدنا وشعبنا وأسرنا ومجتمعنا، كما أننا ننتقم لمن قتلوا. نسمع أحاديث عن المفاوضات، ولكننا سنستمر في محاربة الغزاة إلى أن نحقق السلام الحقيقي بجلائهم عن بلادنا".
يخضع مفهوم "العائلة والمجتمع والشعب" في هذه الأنحاء لإعادة تقييم مؤلمة.
كرر فلاديمير بوتين عدة مرات في المرحلة التي سبقت الغزو قصة مفادها أن أوكرانيا حجر أساس في البيت الروسي، وأن الحرب تهدف لتحرير الجماعات ذات الأصول الروسية في أوكرانيا التي يقمعها الفاشيون والنازيون الجدد، وأنها تهدف لتصحيح خطأ تاريخي.
يتحدث نحو 74 في المئة من سكان خاركيف البالغ عددهم الإجمالي 1.4 مليون نسمة اللغة الروسية. وزعم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قبل اندلاع الصراع بأن موسكو ستحاول الاستيلاء على المدينة بحجة "حماية" هذه الجماعات - في خطوة "ستكون فاتحة حرب واسعة النطاق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما تشكل خاركيف القاعدة [البؤرة] الرئيسة للسياسيين الذين يعتبرون موالين لموسكو، مثل يفهين موراييف، وهو عضو سابق في البرلمان الأوكراني الذي حددت الحكومة البريطانية أنه زعيم اختاره بوتين لنظام الدمى في أعقاب الغزو والاحتلال. كان ذلك الزعم تحديداً مبالغاً فيه، ولكن الشكوك متجذرة هنا بوجود "طابور خامس".
أعلن بعض المتحدثين بالروسية أنهم غير مستعدين لحمل السلاح ضد روسيا أبداً.
قال لي أحدهم بنبرة غاضبة حين زرت المدينة قبل شهر من اندلاع الحرب، "إنه من المستحيل بالنسبة لي ولأصدقائي أن نحمل السلاح لقتال الروس. لقد عشنا طيلة عمرنا معاً وهناك الآن أشخاص يحاولون قلبنا إلى أعداء وسفك الدماء".
اتهم كيريل سيمينوف مهندس الكهرباء البالغ من العمر 48 عاماً الولايات المتحدة والغرب باستخدام أوكرانيا ضد روسيا. وأراد الإشارة إلى إنه "في حال اندلاع القتال بالفعل، هل سيأتي الناتو إلى هنا لمحاربة الروس؟ كلا بالطبع، لأنه قال أساساً [مسبقاً] إنه لن يفعل ذلك".
لم يحمل السيد سيمينوف السلاح، ولكنه يشكل الآن جزءاً من فريق من المدنيين يوزع الطعام على القوات الأوكرانية ومن يحتاج إليه من المواطنين، كما ينظف المناطق بعد تعرضها للهجمات الصاروخية والمدفعية.
ويقول السيد سيمينوف، "كنت محقاً بقولي إن الناتو لن يتدخل للقتال بجانب الأوكرانيين، أليس كذلك؟ علينا كأوكرانيين أن نساعد أنفسنا. وما زلت أعتقد أنه كان بالإمكان تفادي الحرب". يضيف وهو يشير بيده إلى دمار مبنى سكني من عشرة طوابق في منطقة نيميشليانسكي، حيث يقطن، "ولكن لا مبرر أبداً لهذا النوع من القصف ولقتل المواطنين العاديين مثل قاطني ذلك المبنى". توفي 8 أشخاص في الهجوم على ذلك المبنى.
لم يهدأ القتال يوماً واحداً حتى في خاركيف وفي محيطها. قتل أول جنرال روسي من أصل السبعة الذين فقدوا حياتهم في الحرب، الجنرال فيتالي غيراسيموف، على مقربة من هنا هذا الشهر. أطلقت نحو 220 قذيفة مدفعية وهاون في فترة 24 ساعة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية، وفقاً للأوكرانيين، وأصاب بعضها المنشأة النووية للمصدر النيوتروني داخل معهد خاركيف للفيزياء والتكنولوجيا.
ولم تهدأ وتيرة القصف فوق ثلاث مناطق شملها - وهي سالتيفكا وأوليكسييفكا وبياتيهاتكي - حيث تراوحت الأهداف بين موقع شركة تصنيع ألومنيوم وأحياء سكنية.
داخل مبنى سكني في سالتيفكا - 90 في المئة منه فارغ بما أن معظم السكان قد هربوا - لا يفهم يفغيني أفونين لماذا يستمر المبنى المؤلف من 11 طابقاً، حيث بقي 4 سكان فقط هو أحدهم، بالتعرض للقصف المستمر.
ويقول، "قتل أربعة أفراد من عائلة واحدة في أول أسبوع من القصف. ثم وقعت عدة وفيات أخرى وجرح أشخاص ورحل الجميع تقريباً".
"ولكن القصف يدور ليلاً ونهاراً. أحياناً، يأخذون استراحة لعدة ساعات، لكنهم يستأنفون القصف بعدها، كما تسمع".
في نقطة أبعد من الشارع نفسه، كان فالنتين ملنيك يسير على عكازين. دخلت شظايا في رجله اليسرى من قذيفة سقطت على الطريق فيما كان يقود سيارته متوجهاً إلى منزله.
ويسرد الأحداث فيقول، "كنت أحاول العودة إلى المنزل قبل موعد حظر التجول. فجأة دوى انفجار أمامي وبدأت بعض السيارات المركونة في الطريق بالاشتعال. اخترقت قطع من المعدن باب السيارة وانغرست في رجلي. خضعت لعملية واحدة. يقول الأطباء إنني سأحتاج لعمليتين إضافيتين، ولكنهم لا يعلمون إن كنت سأتمكن من السير مجدداً بعدها حتىى".
من أكبر المفارقات الساخرة والمأساوية أن أسوأ قصف في "حرب التحرير" التي شنّها الرئيس بوتين قد طاول مدينتين - هما ماريوبول وخاركيف - يتحدث سكانهما إجمالاً اللغة الروسية. وما يقوله السكان هو أنه نتيجة لذلك، واجهت القوات الروسية مقاومة شرسة، بدل أن تستقبل بحفاوة.
يعدد رئيس بلدية خاركيف، إيهور تيليخوف، الدمار الذي لحق بالمدينة منذ بداية الحرب: دمر 1177 مبنى سكنياً، إضافة إلى 15 مستشفى و69 مدرسة و53 حضانة أطفال. وفقاً لجهاز الطوارئ الأوكراني، قتل نحو 520 شخصاً في القتال الدائر.
ويشرح السيد تيليخوف، "إن الجيش الروسي، جيش العدو، يتعمد قصف الأحياء السكنية. لم تتعرض منازل فردية فقط للقصف، بل أحياء بأسرها".
ويقر رئيس البلدية بأنه "قبل بدء الحرب، كان شخص من كل أربعة تقريباً يتواصل مع أقرباء ومعارف وأصدقاء عديدين في روسيا. لطالما اعتبرت خاركيف موالية لروسيا إلى حد ما، ولكن الموقف تجاه روسيا المعتدية قد تغير جداً اليوم، وكل واحد منا مستعد للدفاع عن المدينة حتى آخر رمق".
ويعلق الرقيب الأول في كتيبة القوقاز، أوليغ بوسوهوف، بقوله "يخط الروس نسختهم الشخصية [الخاصة بهم] عن التاريخ، ثم يغضبون حين لا يتطابق الواقع معها. لم يكن شعب خاركيف سيقف على الحياد ببساطة ويتفرج فيما تدخل قوات بوتين المدينة".
ويضيف الرقيب أول بوسوهوف "برأيي، نحو 30 في المئة من سكان المنطقة كانوا متعاطفين مع روسيا، وأصبح 25 في المئة منهم الآن يدينون بالولاء لأوكرانيا. أما الخمسة في المئة المتبقين، فمن بينهم بعض الجواسيس والمخربين، لقد قبضنا على بعضهم، كانوا يمررون المعلومات والصور للروس بغية مساعدتهم في القصف ومحاولة دخول المدينة".
أجبرت القوات الروسية التي دخلت خاركيف على التراجع. أثبتت الأسلحة المضادة للدبابات، الجافلين التي قدمتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهي تصنف ضمن الجيل الجديد من الأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات، فعاليتها الكبيرة في القتال على المدى القريب، كما تقول القوات الأوكرانية. ويشير أحد الجنود إلى مثال ناقلة جنود روسية مدرعة دمرت حديثاً على الطريق الشرقي وما زال الدخان يتصاعد منها.
يضيف الرقيب أول بوسوهوف "لكننا لا نملك ما يكفي من السلاح المضاد للدبابات فعلياً. إن كانت الأسلحة من طراز جافلين ومن الجيل الجديد من الأسلحة الخفيفة المضادة للدبابات باهظة الثمن، أعطونا إذن بعض قاذفات الصواريخ من طراز آر بي جي 7. سوف تكون مفيدة في المسافات القريبة، ولطالما تمتع الأوكرانيون بمهارة في القتال".
يزعم أعضاء كثر من الكتبية 226 بوجود دم قوزاقي يجري في عروقهم، وهذا ما أعطى الكتبية اسمها.
"أحد أجدادي كان قائداً عسكرياً قوزاقياً، ولدى العديد منا روابط قوزاقية، ولكننا من قوقاز أوكرانيا وليس روسيا. قائد كتيبتنا، ميخايلو كوتيفيتس، قوقازي، وقد حارب ضمن صفوف الجيش السوفياتي في أفغانستان، ولذلك يعلم ما هي نقاط ضعف الروس".
في مقر إحدى أكثر الوحدات العسكرية الأوكرانية فاعلية وخبرة، تحت الأرض في خاركيف، تناول الجنود طعام الغداء بسرعة قبل الخروج في مهمة. يمتلك أوليغ سوباريكا الذي يؤسس فريق قتال، هو الآخر خبرة في الخدمة ضمن القوات السوفياتية، إذ أرسل للقتال في أول حرب في ناغورنو كاراباخ خلال منتصف تسعينيات القرن الماضي.
ويقول القائد سوباريكا، "أرى، بالنظر إلى ضعف أدائهم في هذه الحرب، أن الكثير ما زال على حاله، وهناك فساد وعدم فاعلية كبيرين. ظللت على اتصال بالجيش الروسي لفترة، وكان الوقت الذي يقضونه في الواجبات الرسمية الاحتفالية أطول منه في التدريب على القتال".
ومثل مقاتلين كُثر غيره على الجبهة الأمامية، لم يشعر بالتفاؤل لجهة أن تفضي جولة المفاوضات الحالية إلى حلول السلام في المستقبل القريب.
"تدور هذه المفاوضات منذ وقت طويل، سنرى ما سيحدث. يتحدثون، ولكن في هذه الأثناء، يستمر الروس بمهاجمة هذه المدينة".
كانت مجموعة من السكان تزيل كمية كبيرة من الركام خارج مبنى كبير طاوله القصف الصاروخي.
ويقول دنيس زورافلوف، أحد المتطوعين في فريق التنظيف، أستاذ التاريخ المساعد في جامعة كارازين في خاركيف، "هذا المبنى لديه ماضٍ لافت".
"كان مقر الجيش الأحمر في عام 1919، ثم أصبح مقر الحرس الأبيض المعارض للثورة تحت إمرة الجنرال (أنتون) دينيكين. وتحول بعدها إلى محكمة مشهورة [ذائعة الصيت] حتى تاريخ هذا الاعتداء".
"لا يسع المرء سوى أن يشعر بأن هذا مثال آخر على محاولة الروس محو تاريخنا".
© The Independent