من مر على مصر أو قرأ أخبارها وتابع أحداثها يعلم أن معركة شد وجذب حامية الوطيس تدور رحاها بشكل واضح، لكن غير مباشر، وبأسلوب حاسم يصل أحياناً إلى درجة التجاذب العنيف. فمنذ تفجر أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، وما تبعها من أحداث وحوادث جسام كشفت عن حجم توغل وتغول جماعات الإسلام السياسي، ومعها المد الديني المتطرف، الذي وصل إلى العديد من أجهزة الدولة ومفاصلها، وجهود تبذل على استحياء لاستعادة الوعي المصري، واستمالة عقول وقلوب الملايين، التي تركت نهباً لقيل تفسيرات دينية متشددة، وقال ثقافات تكفيرية متطرفة.
شد وجذب
شد وجذب مكتومان تدور رحاهما في المجتمع المصري على مدار ثماني سنوات منذ تقلد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مقاليد السلطة. فالسلطة السياسية متشابكة ومتداخلة على مر العصور مع السلطة الدينية التي كانت "رسمية" فقط حتى تاريخ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في عام 1928، حين بدأت السلطة الدينية الرسمية نفسها في التداخل والتشابك مع السطوة الدينية المتغلغلة في أرجاء المجتمع المصري.
وقبل ثماني سنوات طالب الرئيس المصري بتجديد الخطاب الديني وتطهيره مما علق به من شوائب التطرف والتشدد والجمود والأفكار المغلوطة التي تؤدي حتماً إلى إرهاب باسم الدين، وانبهر البعض لمطالبة الرئيس الأزهر ومؤسسات الدولة الدينية الإسلامية الرسمية القيام بالمهمة، إذ "لا يعقل أن مفردات وآليات كان يتم التعامل بها من 1000 سنة تكون صالحة في عصرنا"، ما استشف معه مقاومة شديدة واستمساكاً رهيباً بالغمامة الثقافية الدينية التي ظللت البلاد على مدى نصف قرن.
جهود التعديل
من مر على مصر أو دأب على متابعة مجريات الأمور بها يعرف أن جهود تعديل المسار واستعادة الهوية المصرية حيث الوسطية في التدين والعقلانية في الاختيار والمطالبة بتجديد الخطاب الديني، جزء من معركة الوعي التي تحوي تطويراً في التعليم، وتحديثاً في الثقافة واهتماماً بالرياضة، ورفعاً من شأن الأوضاع الاقتصادية للجميع، وكل منها معضلة تحتاج سنوات لحلها، لا سيما في ظل هيمنة رهاب التغيير ومقاومة التحديث.
وعلى الرغم من التغيرات الجذرية والتحولات الجوهرية التي طرأت على الشخصية المصرية بفعل تقلبات الوعي الحادة إلا أن القاعدة العريضة من المصريين ظلت عاشقة للدراما متيمة بالسينما والمسلسلات. هذه العلاقة الوثيقة بين المصري وشاشاته التلفزيونية، لا سيما في رمضان، دفعت الدولة لخوض معركة الوعي بقوة الدراما.
يقول الباحث السياسي إيهاب عمر في دراسة نشرها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية تحت عنوان "الدراما الوطنية تطارد فلول الوعي الزائف"، إن الدولة المصرية منذ 30 يونيو (حزيران) 2013 عزمت على تصفية خطاب المؤامرة وروافده وفلوله، وأنها بحثت عن قنوات الاتصال اللازمة للتواصل مع الشعب المصري عبر سنوات بين تحديث صفحات الدولة المصرية وتدشين نشرات أخبار وبرامج "توك شو" تقدم التوعية الوطنية جنباً إلى جنب مع فقرات الترفيه حتى لا يكون المحتوى أشبه بنص حكومي صارم، مشيراً إلى "أن مصر بعد سنوات من العمل عبر منصات التواصل الاجتماعي والصحافة والإعلام وجدت ضالتها في الدراما الوطنية".
رمضان ومعركة الوعي
وإذا كانت دعوات تجديد الخطاب الديني وتنقيح المحتوى الثقافي واعتناق أفكار ومفردات تناسب القرن الـ 21 قوبلت بمقاومة عنيفة كامنة ورفض رهيب ساكن، لا سيما أن جانباً منه ينبع من مؤسسات رسمية، فقد تحول رمضان على مدى العامين الماضيين إلى منصة مساهمة في معركة الوعي وتجديد الخطاب، وذلك عبر عدد من الأعمال الدرامية التي مزجت بين تجديد الخطاب الديني وتسليط الضوء على الفرق بين التدين والتطرف والالتزام والتشدد وقبول الاختلاف ورفض الآخر، إضافة إلى فضح تاريخ وأجندات ونيات جماعات الإسلام السياسي مع جرعة تأريخ سياسي معتبرة، اشتملت على توثيق عدد من الهجمات الإرهابية التي شهدتها مصر في أعقاب انقلاب الإرادة الشعبية على حكم جماعة الإخوان المسلمين عام 2013 واستهدفت قوات من الجيش والشرطة ومدنيين.
أبرز الأعمال الرمضانية التي تصدت لتلك المهمة مسلسلات "هجمة مرتدة"، و"القاهرة – كابول"، و"الاختيار" بجزأيه الأول والثاني. وحققت هذه الأعمال نسب مشاهدة غير مسبوقة، وأقبل الجميع باختلاف الأطياف والتوجهات والانتماءات على المتابعة وإن اختلفت الأسباب والنيات. هذا النجاح المعضد بقناعة باتت راسخة لدى صناع القرار بأنه لا مفر من ضلوع الدولة في معركة تجديد الخطاب الجامد وعلاج جروح الانتماء وتضميد قيم الوطنية المهدورة أديا إلى تكرار الكرّة في رمضان 2022.
دراما رمضان "الوطنية" المؤرخة من وجهة نظر النظام الحالي حازت على إعجاب وإشادة ورضا قطاع عريض من المصريين الرافضين خلط الإسلام السياسي بالدولة والمطالبين بوضع حدود لهيمنة السلطة الدينية بشقيها الرسمي والجماعات على السلطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، لكنها تسببت في الوقت نفسه في موجات استنكار بين قطاعات أخرى أغلبها من المنتمين والمتعاطفين مع جماعات الإسلام السياسي في داخل وخارج مصر، إضافة إلى قطاع من غير المنتمين للإسلام السياسي، لكن الرافضين لضلوع الدولة في رسم نهج الدراما أو التدخل أو الهيمنة على صناعة الدراما بغية احتكار الرؤية.
الرؤية الخاصة بوليمة رمضان الدرامية المصرية في العام الحالي تشير إلى أن الجرعة الوطنية مكثفة وموجهة ولم يعد يعنيها تشكيك أو سخرية أو اعتراض أو وصم بـ "البروباغندا". العامان الماضيان شهدا نشاطاً إخوانياً محموماً على منصات الجماعة المختلفة المباشرة وبالوكالة لمهاجمة "الدراما الوطنية". هذا النشاط المحموم "اتهم" الدراما الرمضانية بتشويه جماعة الإخوان "المسلمة" وتلطيخ تاريخها "الدعوي" وزرع الفتنة بين المصريين المحبين للدين (على اعتبار أن الجماعة هي الدين) والجماعة.
قادة الإخوان
ومع بدء عرض الجزء الثالث من مسلسل "الاختيار" مع أول أيام شهر رمضان الحالي تحول النشاط إلى "حمى"، إذ لم يكتف المسلسل بعرض بطولات أفراد الجيش والشرطة أمام جماعة الإخوان "الإرهابية" في أعقاب أحداث يونيو 2013 والأعمال الإرهابية التي راح ضحيتها المئات، بل يظهر الممثلون وهم يجسدون شخص الرئيس السيسي وقت كان وزيراً للدفاع ووزير الدفاع الراحل المشير حسين طنطاوي وقيادات الجماعة من المرشد محمد بديع ونائبه خيرت الشاطر وكذلك الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي.
وعلى الرغم من أن المسلسل الذي أثار الجدل والوجل ثم الإعجاب الشديد والشجب العنيف ما زال في بداياته، إلا أنه يؤتي ثماره، فذاكرة المصريين العاديين التي بدأت تحيل ذكريات الإخوان إلى خانة الأرشيف أعيد تنشطيها، وبدأ المصريون يتناقشون مجدداً حول عام صنفه بعضهم بـ"الأسود" من حكم الإخوان وما نقلوه إلى المجتمع المصري من أفكار وتوجهات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أن ظهور قادة الجماعة بشكل مباشر في المسلسل حرك مواجع وألب ذكريات فاشتعلت منصات التواصل الاجتماعي سباً لمن دعم إنهاء حكم الجماعة وقذفاً لمن أسهم في "الإطاحة بالناس بتوع ربنا" (المتدينين)، وهو ما أدى إلى عودة إخوانية صارخة عبر صفحات التواصل الاجتماعي ومنصاتهم الإعلامية إلى "المظلومية".
ويقول الباحث السياسي إيهاب عمر إن "الضربة الكبرى في الدراما الرمضانية تكمن في المناقشة والرد على مرجعيات المظلومية الإخوانية أو المظلومية الشعبية التي صنعها الإخوان، سواء عبر جماعتهم أو باقي تنظيمات الإسلام السياسي التي تعمل تحت عباءة مكتب الإرشاد، وحتى عبر الظهير المدني للإخوان في التيارات اليسارية والليبرالية والحقوقية، في اشتباك حاد لم يعتده حتى أولئك الذين امتلكوا ناصية تشكيل الوعي الجمعي المصري طوال 40 عاماً من غياب دور الدولة في تنظيم وضبط إيقاع قطاعات الصحافة والإعلام والتلفزيون والسينما والفكر والثقافة والوسط الأكاديمي حتى نجحت المؤامرة في مصادرة القوى المصرية الناعمة وأصبحت قوى ناعمة في أرصدة المؤامرة وخنجراً في ظهر الشعب المصري في أحلك الأوقات".
أحلى الأوقات وأحلكها
أحلى الأوقات لدى المصريين هي تلك التي يجتمعون فيها أمام شاشة التلفزيون وهي تبث الدراما الرمضانية، وللعام الثالث على التوالي تتطابق أحلى أوقات المشاهدة مع أحلك أوقات المعيشة عبر الخدش الدرامي المقصود لجراح اجتماعية ودينية وثقافية وسياسية عايشها المصريون منذ سبعينيات القرن الماضي. وبعيداً من غضب "الإخوان" والمتعاطفين معهم جراء المحتوى الدرامي الرمضاني الحالي تتواتر ردود فعل مصرية عدة جراء اعتناق الدولة سلاح الدراما لـ "تصحيح المسار" وقرارها خوض المضمار الذي قوبل برفض مبطن ومقاومة شديدة من البعض، وأثبت صعوبة رهيبة وتعقيدات كثيرة في حال انتظرت مصر تطوير التعليم وتحديث الثقافة وتعميم الرياضة.
أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق يقول إن "قوة الدراما تكمن في الرسائل القوية المقنعة السهلة التي تؤثر في الرأي العام، والتي هي أسرع وأعمق من أي مقالة أو كتاب.
وبناء على ذلك يمكن فهم تأثير مسلسل "الاختيار" في كسب دعم الرأي العام وكذلك تسببه في هذا الكم المذهل من انتقاد الإعلام الإخواني المكرر والسريع لمثل تلك المسلسلات القوية، وهذا يثبت أهمية الدراما".
كسر حلقة الهيمنة
ويعتبر الباحث إيهاب عمر أن "الدراما الوطنية" كسرت حلقة الهيمنة الإخوانية المفرغة لقدرة السرد وقوته، فهي "تأتي بعد سنوات من الحق الحصري للـ "إخوان" وظهيرهم المدني في سرد التاريخ وروايات الواقع وتوزيع صكوك الوطنية والخيانة والثورة والدين على الرئاسة والجيش والشرطة والنيابة ورجالات الدولة وحتى المواطن الرافض للانخراط في دروب الإخوان وظهيرهم المدني".
المؤشرات الأولى لضلوع الدولة عبر "الدراما الوطنية" في رمضان الحالي تؤكد أن المساحة الفارغة في معركة الوعي، وإخفاق أو مقاومة أو حاجة المؤسسات الرسمية الأخرى لمزيد من الوقت لتتمكن من إحراز أهداف في مباراة الوعي ستملؤها الدراما "الوطنية" بشكل أو بآخر.
الكاتب الصحافي أحمد رفعت يلفت الانتباه إلى دور الدراما "المكتشف" حديثاً لاستعادة ما فقده المصريون من وعي وثقافة وهوية في مقالة عنوانها "حماية الدراما الوطنية"، قال فيها إن "الدراما لديها القدرة على فعل الكثير في معركة الوعي، وأن العمل الفني يؤدى فعل عشرات بل مئات الكتب والمقالات والندوات والمحاضرات، وهو التأثير نفسه الذى يدركه إعلام الشر (الإخوان)، ولذلك يبدأ هجومه المبكر في محاولة لتشويه هذه الأعمال وإشاحة الأنظار عنها".
وفي المقابل، هناك من يرى أن مهمة الدراما تختلف عما يتم تقديمه في الدراما "الوطنية. الكاتبة الصحافية كريمة كمال كتبت في مقالة عنوانها "مزيد من القيود" منتقدة ما سمّته "احتكار وتقييد وضوابط" الفن المصري، مشيرة إلى "أن هذه الضوابط تنص على إفساح المجال لمعالجة المواضيع المرتبطة بالدور المجيد الذي يقوم به أفراد المؤسسة العسكرية ورجال الشرطة في الدفاع عن الوطن، وعلى الرغم من إدراكنا لهذا الدور إلا أن الدراما ليس دورها الدعاية، بل دورها أن تقدم فناً خالصاً قائماً على وجهة نظر صانعيه للواقع مع قدر كبير من الخيال، وهو ما يتعارض مع النص في ظل هذه الضوابط".
الضوابط مثار خلاف
وتبقى الضوابط مثار اختلاف في وجهات النظر حيناً، ونقطة تصيد يستغلها أنصار جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان، ومهمة تقتصر على التعليم والثقافة وليس السياسة أو الدراما، وتبقى كذلك معركة الوعي مثار شد وجذب بين توجهات عدة في المجتمع المصري، حيث الإصرار على خلط الدين بمفاهيمه المختلفة بين جماعات إسلام سياسي ومؤسسات دينية رسمية بالسياسة حيناً، وتخليص الاشتباك حيناً وتطويل أمد الاشتباك أحياناً، إذ تعثر تطوير التعليم ومقاومة التجديد وتربص المتربصين.
المسلسلات الرمضانية الحالية تضرب عصافير عدة بحجر درامي واحد، فمن عوار في مفهوم الوطنية وتحوله إلى معنى منافس للدين إلى خلل ضرب قيمة الانتماء للثقافة المصرية إلى تمكن للتطرف والتشدد الديني من مفاصل التفسير وسطوة لرجال الدين منافسة لرجال الدولة، تدق دراما رمضان المؤرخة لأحداث العقد الماضي على وتر معركة الوعي بعد تعثرها المتكرر بقصد أو من دون قصد.