اليمن يمثل مجهولا بالنسبة للمواطن الكندي العادي، إذ لا يجد فيه ما يثير فضوله، فهو ليس جاذباً للاستثمار، ولم يكن يُذكر في الإعلام الغربي إلا عند حدوث عملية إرهابية أو اختطاف سياح غربيين. كنت أقول للراحل السفير عبدالله الأشطل في اتصالاتنا اليومية كل صباح إن موقع بلادنا اليمن ليس معروفا إلا إذا قلت للسائل إنها بجوار السعودية، أو إن سمع بحادثة اختطاف أجنبي وقعت فيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كانت مهمتي في كندا مريحة للغاية لقلة الضيوف أولا، ولم يكن في العلاقات بين البلدين ما يعكر صفوها. سعيت لزيادة الدعم الكندي في مجال التنمية وكان محدودا لأن اليمن ليس ضمن مدار السياسة الخارجية الكندية في مجال المساعدات الخارجية، إذ كانت في أغلبها موجهة لدول الكومنولث والدول الفرانكفونية، ولم يكن اليمن جزءا منهما، واستطعت بجهد شديد، بالتعاون مع أعضاء البعثة، رفع مستوى المساعدات الكندية، وكان أغلبها يمر عبر منظمات غير حكومية أو عبر منظمات الأمم المتحدة العاملة في اليمن، لأن عددا كبيرا من الدول الغربية لا تقدم مساعدات مالية مباشرة للحكومات وخاصة المعروفة بفساد المسؤولين فيها، وكان اليمن متقدم للأسف في هذا المقام.
فجأة في 9 ديسمبر (كانون الأول) 2002 أوقفت البحرية الإسبانية سفينة كورية شمالية في المحيط الهندي متوجهة إلى اليمن تحمل 15 صاروخ سكود، مما تسبب في أزمة دبلوماسية بين اليمن والولايات المتحدة وإسبانيا، لأن التوقيف تم بناء على معلومات استخباراتية أميركية، ثم فوجئت الحكومة الإسبانية بطلب الإفراج عنها مما تسبب في حرج شديد لها. استدعتني الخارجية الكندية للاستفسار عن سبب شراء أسلحة دمار شامل في وقت يقرع سفراء اليمن والمسؤولون الأبواب للحصول على مساعدات إنسانية. أبلغت صنعاء، ووصل بعدها تعميم تم توزيعه على سفاراتنا به توجيهات بأن يكون تبريرنا لشراء صواريخ سكود هو (أن التنمية تحتاج إلى استقرار، والاستقرار يحتاج إلى جيش قوي). وضعت التعميم في المحفوظات لأنه كان تعبيرا عن محاولة تغطية ساذجة وغير مقنعة.
كانت تلك الأزمة محل متابعة قريبة من الولايات المتحدة، وقد استطاع الراحلان عبد العزيز عبد الغني وعبد الكريم الارياني من امتصاص الأزمة ومعهما الدكتور القربي الذي كانت أول تجربة دبلوماسية يواجهها كوزير للخارجية، وتم الإفراج عن السفينة بعد اتصال بين صالح ونائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني تعهد فيه بعدم نقل الصواريخ إلى طرف ثالث وأنها ستستخدم لأغراض دفاعية. لكن الأزمة لم تنته، إذ ظلت مسألة عالقة يثيرها كل مسؤول أميركي يزور اليمن. خلال زيارة جون بولتون إلى صنعاء في يونيو (حزيران) 2003 أعاد طرح الموضوع على صالح الذي برره بأنها صفقة قديمة وقّع عليها الحزب الاشتراكي أثناء حرب صيف 1994 ولما كانت الحرب قد انتهت بسرعة فقد تأخر وصولها إلى اليمن، وتغاضت واشنطن لحاجتها إلى تعاون صالح في حربها ضد الإرهاب.
زيارة عبد العزيز عبد الغني إلى كندا
في منتصف 2000 قام الراحل الشهيد الأستاذ عبد العزيز عبد الغني رئيس مجلس الشورى بزيارة إلى مدينة كالغاري غرب كندا في نهاية 2002 لحضور الحفل السنوي الذي كانت تقيمه شركة Canadian Nexen، المنتج الأكبر للنفط في اليمن، واستطاع "عبد الغني" إقناعها بتخصيص عشر منح دراسية كل عام للطلبة المتفوقين ووضع برنامج أشرف عليه بنفسه ووضع له معايير قاسية للراغبين. اتصل بي "عبد العزيز عبد الغني" قبل وصوله فذهبت لاستقباله في مدينة تورنتو ثم توجهنا معا إلى كالغاري Calgary حيث بقينا لثلاثة أيام.
كان الشهيد "عبد العزيز عبد الغني" رجل دولة من طراز فريد، صاحب رؤية واضحة، ومن أعظم السياسيين اليمنيين ثقافة وتواضعا وذكاء، وأكثرهم عمقا وصمتا، وأدرك أهمية التعليم كمدخل جاد وطريق وحيد لإحداث تنمية بشرية حقيقية. كان "عبد العزيز" قادرا على الرؤية الواضحة لاحتياجات وإمكانات اليمن التنموية المستدامة بعيدا عن المزايدات، ولم تستهوه أضواء الإعلام وتحاشاها، وكان همه وشغله الشاغل كيفية إعداد جيل من الخريجين بمؤهلات جادة وحقيقية، كما كان يدرك بحكم تجربته السابقة مديرا لكلية بلقيس في عدن مطلع الستينيات ألا سبيل للخروج من دائرة الفقر إلا بالتعليم.
قضينا معا الأيام الثلاثة بعيدا عن الضجيج، وحدثني بالكثير من التفاصيل عن أحوال اليمن، وكان يعبر عن حزن شديد من تفشي الفساد، وقال إنه صار سياسة تمارسها وترعاها الحكومة، وأسلوب إدارة لم يعد الفاسدون يخجلون من ممارسته، ولكن أكثر ما كان يزعجه ويؤلمه هو انهيار النظام التعليمي. تسبب قرب "عبد العزيز" الشديد من "صالح" في تحميله جزءاً من مسؤولية أخطاء العهد وفساده، وأدى إلى أن صار الناس ينظرون إليه بسلبية، خاصة الذين لا يعلمون تفاصيل الحكم وكيفية إدارته والحدود التي وضعها "صالح" لكل من عمل معه، وكانوا يتوقعون منه لعب دور البطل أمام حاكم مثل صالح أو الحمدي أو الغشمي الذين عمل معهم جميعا.
اغتيال جار الله عمر ومقتل يحيى المتوكل
في 28 ديسمبر (كانون الأول) 2002 وصلني خبر اغتيال الشهيد جار الله عمر أثناء إلقائه كلمة أحزاب المعارضة في المؤتمر العام الثالث لحزب الإصلاح، وكانت فاجعة بحكم ما ربطني به من علاقة صداقة وإعجاب منذ تعرفت إليه في مايو (أيار) 1990. كان "جار الله" يمثل النضج السياسي بأرقى تجلياته، متحررا من قيود التطرف الفكري الذي عاش فيه سنوات شبابه، وتحول إلى رجل حوار من طراز رفيع، بعيدا عن التعصب الحزبي، متميزا بسعة صدره وتقبل النقد دون ردود فعل متعجلة وترفع عن الدخول في متاهات الخلافات الصغيرة، رافضا السعي وراء أي وظيفة عامة ليتفرغ لنشاطه الحزبي، وتمثلت فيه صفات القائد السياسي الذي يتجنب صغائر الأمور. كان اغتيال "جار الله" خسارة شخصية ووطنية فادحة وللحزب الاشتراكي.
أغضب وأحزن اغتيال "جار الله" الذين كانوا يعرفون مهاراته القيادية ونزاهة مقاصده وعدم انجراره وراء الأضواء والشعارات البراقة، وفي نفس الوقت أراح غيابه كثيرين من الذين رأوا فيه خطرا علـيهم لقدراته ومهاراته وانفتاحه السياسي ومقدرته على الحشد والتحريض الإيجابي.
استغل "صالح" الحادثة ليشن حملة إعلامية على حزب الإصلاح محملا إياه مسؤولية الاغتيال بمبرر أن القاتل "علي جار الله السعواني" درس في جامعة الإيمان التي كان يديرها الأستاذ "عبد المجيد الزنداني"، بينما حاول معارضو "صالح" إلقاء التهمة على الأجهزة الأمنية وأنها سهلت خروج "السعواني" من السجن الذي كان فيه بتهمة الارتباط بجماعات متشددة.
بعد أقل من شهر على اغتيال "جار الله" توفي الصديق "يحيى المتوكل" في 13 يناير (كانون الثاني) 2003 بانقلاب سيارته في محافظة لحج جنوبي اليمن، حين كان في الطريق لحضور مهرجان للمؤتمر الشعبي استعدادا للانتخابات النيابية التي جرت في أبريل (نيسان) 2003، وقد حاول البعض إلصاق التهمة بصالح ما اضطره إلى إحضار خبراء يابانيين لمعرفة سبب الحادث الذي اتضح أنه كان بسبب فشل ميكانيكي غير متعمد.
كان "يحيى المتوكل" شخصية سياسية متعددة الأدوار فقد كان من الضباط الذين انضموا إلى صف ثورة 26 سبتمبر (أيلول) 1962، ولم يكن هناك أي شك في ولائه للنظام الجمهوري ودفاعه عنه، لكن طموحه الجامح وذكاءه السياسي وعلاقاته الاجتماعية الواسعة، جعلته دائما محل شك أي حاكم، فقد استبعده "الحمدي"، ثم استخدمه "صالح" برغم شكوكه القوية تجاه طموحاته، والتي كان يعالجها بإبقائه دوما قريبا منه، وزاد من الحملة على "المتوكل" كونه ينتمي إلى أسرة هاشمية ما جعله في مرمى انتقادات وتشكيك من الذين يرون في كل هاشمي شرا يجب التخلص منه. رغم ذلك ظل "المتوكل" يبدي ولاء ظاهريا لصالح، ويعمل إلى جانبه في المؤتمر الشعبي العام، ويبذل جهوداً استثنائية لتعزيز قاعدته الانتخابية في المناطق التي كان "الإصلاح" يوجد فيها بقوة، لأن "المتوكل" كان يرى أن البقاء إلى جانب صالح يساعد في منع حزب الإصلاح من زيادة تأثيره على الساحة السياسية.
كان "جار الله" و"المتوكل" ينتميان إلى مدرستين فكريتين مختلفتين حد التناقض إلا أن علاقتهما الإنسانية كانت متميزة، وقد خلق الرجلان لهما عداوات وخصومات اختلط فيها العام بالخاص كما يحدث دوما حين يتدنى مستوى العمل السياسي، ومثـّلا غيابهما خسارة سياسية فادحة.
(وللحديث بقية).