على الرغم من انشغاله الدائم بالإجراءات القانونية لإثبات ملكية المنزل الذي يعيش فيه، وقلقه الواضح من أن يتم إجباره على إخلائه في أي لحظة، يشارك بشير سمرين (45 سنة) أطفاله الصغار بهجة تعليق زينة رمضان في باحة منزلهم المهدد بالهدم. فداخل حي عين اللوزة في بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى حيث يقطن سمرين، هناك نحو 180 منشأة تجارية وسكنية ومركزاً طبياً ومسجداً مهدداً بالهدم. فبلدية القدس وبحجة "البناء من دون تراخيص على أرض عامة"، رفعت دعوى قضائية على العائلات الفلسطينية في الحي لإخلاء المنازل وهدمها. لكن المحكمة الإسرائيلية وفي نهاية مارس (آذار) الماضي، أمرت بمنح العائلات مهلة إضافية ومددت أوامر الهدم حتى بداية مايو (أيار) المقبل، ما دفع ببلدية القدس إلى استئناف قرار المحكمة "المركزية"، وطالبت بإلغاء كل التمديدات على أوامر الهدم بحق منشآت حي عين اللوزة، وتنفيذ أوامر الهدم بشكل فوري، وهو ما أجبر عشرات العائلات المقدسية هناك على حزم الأمتعة خوفاً من تنفيذ القرار وافتراش الشارع.
هدم وتشريد
ويقول سمرين "في مسعى لعدم هدم منزلنا التي تزعم البلدية أنه بني بشكل غير قانوني، قمنا باتخاذ إجراءات عدّة، إذ طُلب منا إقامة مخطط هيكلي تنظيمي لحي عين اللوزة لاستصدار تراخيص، وتم استيفاء كل الشروط المطلوبة للحصول عليها، ودفعنا أموالاً باهظة مقابل ذلك، لكننا تفاجأنا أن بلدية القدس رفضت المخطط بالكامل، بل ورفضت المدة التي منحتها المحكمة للساكنين لهدم منازلهم مع بداية مايو المقبل. هذه تصفية غير إنسانية وغير أخلاقية لوجودنا العربي في القدس، وتعجيز الناس وحرمانهم من البناء سيدفعهم إلى الرحيل نهائياً عن البلدة، ضمن مخطط مدروس لتغيير هوية الحي تاريخياً وديموغرافياً، عبر تقليل عدد السكان وطردهم".
ويضيف "كان من المفترض أن نشعر بأجواء شهر رمضان ونعيش روحانياته الجميلة على مائدة الإفطار والسحور وزيارة الأهل والأصدقاء، لكن أصبحنا لا نخرج أبداً من المنزل خوفاً من هدمه أثناء غيابنا، وكلما سمعنا أصوتاً أو ضجيجاً خارج المنزل تبادرنا فكرة أن تكون جرافات البلدية وموظفوها حضروا للهدم. لم نفرح برمضان ولن نفرح بالعيد على ما يبدو في حال نفذ قرار البلدية".
أزمة حقيقية
وحسب "مركز معلومات وادي حلوة" في القدس، هناك 23 ألف منزل ومنشأة مهددة بالهدم باعتبار أنها بُنيت من دون ترخيص، أي أن 32 في المئة من سكان القدس تسلموا فعلياً أوامر هدم وإخلاء، ونحو 6870 أمر هدم سُلّمت في بلدة سلوان وحدها. وهدمت السلطات الإسرائيلية أكثر من 170 منشأة سكنية وتجارية وزراعية في القدس وضواحيها، خلال العام الماضي، في حين رصدت مراكز حقوقية مقدسية هدم 55 منشأة في القدس منذ بداية العام الحالي. وأشار تقرير مراقب لحقوق الإنسان والسكن في القدس، إلى أن المقدسيين بحاجة إلى 27 ألف وحدة سكنية في الأقل لحل الأزمة السكانية في المدينة، لكن لم يتبقَّ للفلسطينيين سوى ثمانية في المئة من الأراضي، بما فيها تلك المقام عليها المساكن والخدمات.
وبحسب جمعية "عير عميم" الإسرائيلية التي تتابع نمو المستوطنات في القدس، فإن 3000 فلسطيني قد يفقدون بيوتهم في القدس، وبشكل خاص في حي الشيخ جراح وسلوان، وأن الممارسات الإسرائيلية ستمس بأي احتمال للعودة إلى عملية سلام.
وقالت يهوديت أوبنهايمر، المديرة التنفيذية لمنظمة "عير عميم" (غير الحكومية)، إن ما يوصف بالبناء غير المرخص في القدس هو في الواقع امتناع السلطات الإسرائيلية عن إصدار تصاريح بناء للفلسطينيين، يجب وضع خطة بناء للفلسطينيين، فضمن أي سيناريو سياسي، سيضطر الإسرائيليون والفلسطينيون إلى العيش معاً في القدس.
عضو لجنة الدفاع عن بلدة سلوان فخري أبو ذياب يقول "لإحاطة البلدة القديمة والمسجد الأقصى وأحياء بلدة سلوان بمشاريع تهويدية استيطانية محكمة، يخطط الاحتلال لإقامة حدائق تلمودية وتوراتية ضخمة، وهو يريد هدم المنازل وعدم منح تراخيص للفلسطينيين لإفساح المجال أمام إقامة تلك المشاريع ضمن مشروع (الحوض المقدس)، الذي يبدأ من الشيخ جراح وصولاً إلى سلوان جنوب الأقصى. وما يجري هو تصفية الوجود بشكل كامل في بلدة سلوان، لنصبح أقلية مجزأة خصوصاً وأننا الأقرب إلى المسجد الأقصى. لذلك تسعى البلدية إلى اقتلاع ديموغرافية المنطقة لصالح زيادة عدد المستوطنين، ضمن مسلسل تهويد الأحياء، وإظهار المكان على أنه يهودي إسرائيلي وليس عربياً فلسطينياً. سكان حي عين اللوزة ليسوا وحدهم في معترك الهدم والملاحقة والطرد والتشريد للنساء والأطفال وكبار السن التي قد تطالهم في رمضان أو عيد الفطر، بل هناك أيضاً أحياء وادي حلوة، وحي البستان، ووادي الربابة، ووادي ياصول وجبل المكبر، كلها تعاني بشكل مجحف تسلط المستوطنين على منازلهم وطردهم منها بحجة أنها عقارات يهودية مستأجرة قبل عام 1948".
ويضيف "الممثلة القضائية لبلدية إسرائيل قبل أشهر عدة، قالت ضمن جلسة في المحكمة العليا فيما يخص منازل عين اللوزة، إن عدم قبول مخططات السكان التنظيمية والهيكلية، كان بسبب سياسي لا هندسي، وهو صادر من وزارة الداخلية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنظيم وتطوير
من جهتها، أشارت بلدية القدس عبر صفحتها الرسمية إلى "أن تنظيم المدينة هو أحد أبرز وأهم الأولويات لديها، وأن البناء من دون تنظيم أو ترخيص سيهدد حياة السكان والمحيطين بهم، وقد يعرض حياة من فيها لخطر كبير". كما نوهت بأن المخططات الهيكلية والتنظيمية يجب أن تُعد على أيدي مهندسين متخصصين على دراية تامة باللوائح القانونية والتنظيمية في المدينة. وقالت البلدية إنها تسعى لإنجاح الخطة الحكومية الخاصة بسد الفجوات الاجتماعية والاقتصادية وتنمية مرافق الاقتصاد في شرق القدس، ومن بينها "خلق فرص عمل لأكثر من عشرة آلاف شخص من سكان شرق المدينة وزيادة وتعزيز الثقة".
وأكدت البلدية لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، أن "أوامر الهدم تنفذ بطريقة منصفة ووفقاً لقرارات المحكمة". فيما أشار نائب رئيس البلدية أرييه كينغ في وقت سابق إلى أن "هدم المباني غير المرخصة لا يشكل انتهاكاً، وإنما يهدف لإزالة خطر حضري واجتماعي وبيئي في قلب القدس".
ناشط محلي من سكان سلوان "نريد البناء بشكل قانوني... نريد أن نتبع القانون. المقدسيون الذين يبنون منازلهم من دون ترخيص يفعلون ذلك رغماً عنهم لأنهم لا يملكون خياراً آخر".
قانون "كامينتس"
في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2017، أدخلت السلطات الإسرائيلية التعديل 116 لقانون التخطيط والبناء حيّز التنفيذ، وهو المعروف باسم "قانون كامينتس"، ونقل القانون صلاحيات فرض غرامات وإصدار أوامر هدم من المحاكم إلى مفتشي البناء، من دون السماح للفلسطيني بعرض معاناته وظروفه الشخصية والعائلية والاقتصادية للقاضي. كما فوض القانون مفتشي البناء بإصدار إخطارات إدارية بغرامات تصل إلى 300 ألف شيكل (94 ألف دولار) بسبب البناء غير القانوني، ولا يحق للمحاكم تخفيضها إلا في ظروف خاصة. ومن التغييرات الإضافية التي أدخلها القانون، زيادة عدد السنوات القصوى لعقوبة السجن في تجاوزات البناء من سنتين إلى ثلاث سنوات.
وزيرة الداخلية الإسرائيلية إيلييت شاكيد، كانت قد صرحت لوسائل إعلام إسرائيلية أخيراً أن "تشديد العقوبة بموجب قانون كامينتس يهدف إلى زيادة العقوبة والردع في الوسط العربي، مع تطبيقه بأثر رجعي على البناء غير القانوني السابق، حتى لو تم رفع دعوى قضائية ضده في الماضي".
العواقب الوخيمة لهذا القانون على الفلسطينيين، بحسب مركز حقوق المواطن (غير حكومي)، أنه يزيد من شدة العقوبات وصرامتها وسرعة تنفيذها من خلال أوامر وغرامات إدارية، وقد تشمل هذه العقوبات المباني التي شيدت قبل سن القانون، وتقع على كل من قام بالبناء من دون ترخيص، أو استخدام الأرض أو المبنى خلافاً للهدف الذي خصصت الأرض من أجله في الخارطة، أو لعدم الامتثال لأمر إداري بوقف الاستخدام أو وقف البناء. وتشمل العقوبات بحسب المركز، مالك الأرض أو المبنى ومستخدمها والمهنيين والحرفيين الذين شاركوا في عملية البناء أو العمل في الأرض، حتى المسؤول عن تخطيط العمل والإشراف عليه.
ضغوط وتضييقات
ويرى مراقبون أن السير بـ"قانون كامينتس" سيؤدي إلى انهيار المجتمع الفلسطيني، لا سيما أنه سلب من المحاكم صلاحياتها بتأجيل أمر الهدم لأكثر من سنة من أجل أن يتمكن الفلسطينيون من ترخيص البناء، فقد بات من المعروف في القدس أن سنة واحدة لا تكفي لإنهاء المعاملات في مؤسسات التخطيط.
فيما أشار موقع "واينت" الإسرائيلي إلى أن الضغوط والتضييقات المترتبة بفعل "القانون"، قد تُودي بالمواطنين الفلسطينيين إلى الاندماج أو التعامل مع عصابات إجرامية لسد الغرامات المالية أو تفريغ مشاعر الغضب والإحباط.
المحامية في قسم الأرض والتخطيط في مركز "عدالة" ميسانة موراني، اعتبرت في مقالة تحليلية، أن "قانون كامينتس" يتجاهل، كلياً، الأسباب التي أدت إلى ظاهرة البناء غير المرخص، كما أنه يتجاهل مسؤولية الدولة تجاه هذه الأزمة. وأضافت "يغض القانون النظر عن نتائج تشديد فرض القانون على مئات العائلات التي ستبقى من دون مأوى ومن دون حل سكني ملائم. يجب النظر إلى هذه الظاهرة باعتبارها جزءاً من أزمة المسكن الخطيرة، التي يعانيها العرب في إسرائيل والقدس، ونتاجاً لسياسات حكومية تمييزية طويلة الأمد. كذلك، لا يمكن قراءة التشديدات في تطبيق القانون بمعزل عن السياق العام لتعامل الدولة مع المواطنين العرب في كل ما يتعلق بالأراضي. وقانون كامينتس يعطي الدولة أدوات أنجع وأسرع في محاولة لتضييق مساحة الوجود العربي وتهويد الحيز وتصميمه لخدمة أهداف الدولة".
وكشفت معطيات من حركة "السلام الآن" التي تُعرف نفسها بأنها حركة إسرائيلية تدعو إلى السلام من خلال الضغط الجماهيري، وتناصر حل الدولتين، عن أن عدد التجمعات الاستيطانية في القدس ارتفع منذ عام 2009 من 102 تجمع استيطاني كان يسكنها 2000 مستوطن، إلى 142 تجمعاً أي بزيادة نسبتها 39 في المئة، من بين هذه التجمعات 31 تجمعاً في مواقع تاريخية، وأربعة في البلدة القديمة، وخمسة في مواقع أخرى في قلب الأحياء الفلسطينية في المدينة. ويعتبر تقرير "السلام الآن" أن هذه المعطيات تعكس "عملية الاقتلاع الكبرى التي تعرض لها السكان الفلسطينيون في قلب بلدة سلوان، خلال السنوات الأخيرة".
وتبين معطيات الحركة أيضاً، أنه بينما ازداد عدد المستوطنين في القدس الشرقية، ازدادت الميزانية المخصصة لحمايتهم وحراستهم من قبل وزارة البناء والإسكان الإسرائيلية، من عشرة ملايين دولار في سنة 2009 إلى أكثر من 25 مليون دولار، أي بزيادة نسبتها 119 في المئة.
ورداً على الادعاءات، قالت جمعية "العاد" الاستيطانية لـ"تايمز أوف إسرائيل" إنه "يُسمح لليهود بكل تأكيد شراء عقارات والسكن في هذه المنطقة من القدس. هذا حقنا القانوني الذي تضمنه دولة إسرائيل".
مطالبات أممية
وفي نهاية فبراير (شباط) الماضي، دعا منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، تور وينسلاند، السلطات الإسرائيلية إلى إنهاء تهجير الفلسطينيين وعدم إخلائهم من بيوتهم في القدس، بما يتفق مع التزاماتها بموجب القانون الدولي. وقال "ما زلت أشعر بالقلق إزاء احتمال إخلاء عدد من العائلات الفلسطينية من بيوتها التي عاشوا فيها منذ عقود في حي الشيخ جراح وسلوان بالقدس الشرقية، وإن خطر حدوث هذا سيكون بمثابة تصعيد للعنف"، وأضاف "من دون آفاق واقعية لإنهاء الاحتلال وتحقيق حل الدولتين على أساس قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي والاتفاقات السابقة بين الطرفين، فسوف نواجه أمراً لا رجوع فيه. إنها مسألة وقت فقط قبل أن نواجه انهياراً خطيراً للوضع الأمني وعدم استقرار واسع النطاق".
من جانبها، دعت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة، السفيرة ليندا توماس غرينفيلد في وقت سابق، إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى الامتناع عن "الخطوات الأحادية الجانب" التي تفاقم التوتر، مجددة دعمها خيار "حل الدولتين".
وقالت غرينفيلد خلال جلسة مجلس الأمن الدولي، إن "هذا العام يوفر فرصة لإعادة التزامنا بالتوصل إلى حل سياسي للصراع، ولذا نعيد تأكيد دعمنا القوي لحل الدولتين، حل تعيش فيه إسرائيل اليهودية والديمقراطية في سلام جنباً إلى جنب مع دولة فلسطينية ديمقراطية ذات سيادة وقابلة للحياة".
في حين جدد الاتحاد الأوروبي وفي تغريدة نشرها مكتبه في القدس على "تويتر"، دعوته إلى وقف عمليات الهدم وأي ممارسات أخرى غير قانونية تجبر الفلسطينيين قسرياً على ترك منازلهم.
وقال الاتحاد إن عمليات هدم المنازل والمنشآت أو الاستيلاء عليها زادت بنسبة 21 في المئة عام 2021، وهو ما أدى إلى زيادة بنسبة 28 في المئة في عدد الفلسطينيين الذين هُجّروا قسرياً من أماكن سكنهم.
يذكر أن نحو 210 آلاف مستوطن يعيشون في القدس الشرقية، بينما يزيد تعداد الفلسطينيين فيها على 300 ألف. ويرغب الفلسطينيون في جعل الشق الشرقي من المدينة عاصمة للدولة التي يتطلعون إليها.