يعود تاريخ التوتر في علاقة أوكرانيا وروسيا، أياً كانت الأبعاد السياسية والثقافية، لصراع ممعن في القدم، وكون هذا الصراع الهوية الوطنية وترك بصماته في الأدب والفنون خصوصاً، وفي الثقافة الأوكرانية والموروث الشعبي عموماً، على الرغم من الجذور السلافية المشتركة بين الشعبين، وعلى امتداد العلاقة بين الشعب الأوكراني والشعب الروسي سواء في فترة روسيا القيصرية أو الاتحاد السوفياتي أو مجدداً خلال السنوات الأخيرة مع روسيا الاتحادية، وربما ما قبل ذلك بكثير، فإن جميع النظم الروسية عملت وبفترات مختلفة على ارتكاب فظاعات بحق الشعب الأوكراني تجلت في ممارسة عمليات تهجير (القرم عام 1954 مثالاً) و مجاعات متواترة، كان أبرزها "مجاعة هولدومور" أو ما أطلق عليه الأوكرانيون "القتل بالتجويع" عام 1932، إذ قضى في تلك المجاعة أكثر من 3.5 مليون من الفلاحين الأوكرانيين وسكان المدن الأوكرانية لاحقاً. وهي وقعت ضمن إطار خطة ستالين للإصلاح الاقتصادي على حساب الجمهوريات السوفياتية لمصلحة اقتصاد الاتحاد السوفياتي، امتدت هذه الفظائع الجماعية لتشمل الكتاب والأدباء الأوكرانيين في ما بات يعرف لاحقاً بـ "النهضة المشنوقة"، وهو ما يؤكد الصلة العميقة بين الثقافة والسياسة ويفسر المقاومة الباسلة التي يخوضها الشعب الأوكراني الآن ضد الغزو الروسي.
تمرد ثقافي
بدأت في عشرينيات القرن الماضي حملة تمرد في جمهورية أوكرانيا السوفياتية قادها المثقفون والكتاب والعلماء والفنانون، بلغت ذروتها إثر المجاعة الكبرى في "هولدومور" عام 1930-1931، وتجلت أكثر ما تجلت في خروج هؤلاء على نهج الاشتراكية الواقعية في الأدب وباقي المنتجات الثقافية، وشهدت أوكرانيا في ذلك الحين حراكاً أدبياً وثقافياً أزعج سلطات الكرملين، وبادر ستالين على إثره بحملة اعتقالات واسعة بين صفوف المثقفين والعلماء عام 1925، امتدت حتى عام 1939 وأكثر. كان أكثرها سحقاً للنهضة الأدبية الأوكرانية ربما ما جرى بين عامي 1932 - 1933 أكثر من 400 مثقف وعالم، على من الرغم أن غالبية هؤلاء كانوا يؤيدون الشيوعية وشارك العديد منهم في الجيش الأحمر منذ الثورة البلشفية عام 1917، فسلسلة الفظاعات التي ارتكبت بحق الشعب الأوكراني كانت الدافع الأكبر لهذه النخبة الأوكرانية في الإقبال على نشر التعليم ، لكن باللغة الأوكرانية ضمن حملة القضاء على الأمية التي قادها ستالين لتعليم اللغة الروسية في الجمهوريات السوفياتية كافة، بخاصة في صفوف العمال والفلاحين والأجيال الشابة. استغل المثقفون والعلماء تلك الحملة لكن في استنهاض الشعور القومي الأوكراني، بخاصة بعد أن فرضت اللغة الروسية على عموم الجمهوريات السوفياتية، سواء في التعليم والإدارات الحكومية كما في الثقافة والأدب والعلوم.
كان هذا الحراك فعل تمرد ورغبة في الاستقلال تزامن مع التقرب من القيم الغربية في أوروبا التي تسمح في التعبير عن الفرد وقلقه الوجودي الذي انتشر بعد صراعات أوروبية دامية توجت بالحرب العالمية الأولى.
كان الحراك الأدبي الأوكراني طريقاً يجنب الشعب الأوكراني التجاذب التاريخي لأوكرانيا بين شرق أوروبا وغربها الذي ما تزال تعيشه حتى الآن، والتحرر من مجرد اعتبارها سلة خبز أوروبا وأمنها الغذائي كقدر تاريخي وجيو-سياسي، وعاشت بلدان أخرى متاخمة الأزمة الوجودية نفسها في بولندا وليتوانيا ومولدوفا ولاتفيا ورومانيا وبلغاريا، كما عايشت هي الأخرى التجاذبات نفسها، فقد شهد غرب أوكرانيا أيضاً ما يشبه "مجاعة هولدومور" حين احتل هتلر عام 1941 أراضيها الزراعية الشاسعة بوصفها سلة غذاء لا أكثر. وأجبر الأوكرانيين على العمل بالسخرة كعبيد في أراضيهم لمنفعة الرايخ الثالث والاحتلال النازي، تماماً كما فعل ستالين بهم قبل 20 سنة.
النهضة التي أعدمت
يعود مصطلح "النهضة المشنوقة" أو "النهضة التي أعدمت" للإعلامي البولندي جيرزي جيدرويك والباحث الأدبي الأوكراني يوري لافرينيكو الذي استخدم عنواناً لكتاب ضم مختارات لكتاب وأدباء تلك الفترة ممن اعتقلوا وأُعدموا أو تم نفيهم وتهجيرهم بعيداً من أوكرانيا. ظهر كتاب "النهضة المشنوقة": مختارات من1917 -1933: الشعر - النثر - الدراما - المقالة" للمرة الأولى بمبادرة وتمويل من "جيرزي جيدرويك" في مكتبة الثقافة في باريس عام 1959. ولا يزال أهم مصدر في تاريخ الأدب الأوكراني عن تلك الحقبة، وقدم أفضل الأمثلة على الشعر والنثر وكتابة المقالات باللغة الأوكرانية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ 20.
تمتلك أوكرانيا 1000 عام من الأدب، وتعود بدايات الأدب الأوكراني إلى تاريخ تكون دولة "روس الكييفية" نسبة إلى العاصمة الحالية كييف، ومع ذلك كان أسلاف الأوكرانيين في عصور ما قبل التاريخ الأوكراني، أي قبل القرن التاسع يمتلكون أدباً شفوياً متطوراً، كان أول أثر بارز مكتوب في دولة "روس الكييفية" يطلق عليه اسم "حكاية السنوات الماضية". وهو سجل زمني للأحداث لكنه لم يكن مصدراً للمعلومات التاريخية فقط، بل كان كتاباً مدرسياً للأغاني الملحمية وأساطير "روس الكييفية"، لكن الأثر الأبرز هو "حملة حكاية إيغور"، وهو تحفة شعرية من الأدب القديم ضمت في ثناياها أفضل الأمثلة عن الفن الشعبي في ذلك الوقت، وأصبحت لاحقاً فخراً للعالم السلافي برمته، وتزامن ذلك مع بدايات تشكل الهوية الأوكرانية في القرنين الـ 10 والـ 11، شملت دولة روس الكييفية الشطر الغربي من أوكرانيا الحالية وبيلاروس وقسم كبير منها يقع على أراضي روسيا الحالية.
يحتاج رصد الجذور القومية الأوكرانية والثقافية وأثرها في الأدب الأوكراني قديماً وحديثاً إلى جهود جبارة بسبب الفظاعات الهائلة التي عايشها الشعب الأوكراني في تاريخه الحديث كما القديم، وأقله في ظل الاحتلال النازي لأوكرانيا في الحرب العالمية الثانية كما أسلفنا أعلاه، وسبقه التعنت الشمولي الذي استمر طوال فترة الحكم الستاليني وما بعده في المرحلة السوفياتية، تركت جميعها بصمات عميقة في الأدب الأوكراني الحديث وفي الموروث الشعبي والوعي الجمعي أدت في تلك الفترة إلى نشوء مدارس أدبية عدة، نحا بعضها إلى المدرسة الكلاسيكية وأخرى إلى الرومانسية فضلاً عن أخرى اشتغلت على تطور الأدب الأوكراني على خلفية الكلاسيكيات العالمية. وجاء جزء مهم من النخبة الأوكرانية الجديدة من بين جماهير الطبقات الدنيا "الخدم والكهنة والعمال والفلاحين"، وهي فئات لم تتح لها في كثير من الأحيان الفرصة لتلقي التعليم النظامي بسبب الحرب والمجاعة والحاجة إلى كسب الخبز اليومي. تمكنت هذه النخبة من العمل "على حافة الممكن" ومحاولة استغلال كل فرصة للتعرف إلى ثقافة العالم وفرد أجنحة الإبداع، وتشبعت بأحدث الاتجاهات المتنوعة وخلقت أقله أدباً محلياً قومياً.
إنتصارات وهزائم
ووفقاً للباحث بافليشنكو أتت هذه النخبة مع عبء أخلاقي من الانتصارات والهزائم في النضال من أجل الاستقلال الوطني، وتزامن مع فهم جديد لطريق أوكرانيا في تاريخ العالم، مستقل برؤاه مع أفكار متنوعة حول تطور الأدب الأوكراني، وحصل هذا الجيل على جمهور أوسع بكثير من أي وقت مضى، وارتفع مستوى تعليم هذا الجمهور، وللمرة الأولى عمل في الأدب عدد كبير من الكتاب والمثقفين، وللمرة الأولى تحدث العلماء الأوكرانيون إلى جمهور الجامعات الوطنية، وللمرة الأولى تم التمييز بسرعة بين الاتجاهات والمجموعات والمدارس الفنية والأدبية المختلفة، ومع ذلك فإن الميل إلى تحديث الحياة الثقافية تعايش منذ البداية مع اتجاه مواز سعى إلى إخضاعها للأيديولوجيا ومن ثم إلى التدمير الكامل".
كان أبرز هؤلاء المثقفين ميكولا جوروفيتش كوليش وكان مسرحياً أوكرانياً ومعلماً وجندياً في الحرب العالمية الأولى، ومحارباً في الجيش الأحمر، وكان إحدى الشخصيات الرائدة في عصر "النهضة المشنوقة"، إذ أعدم لاحقاً بعد سنوات من الاعتقال في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1937 وهنات خوتيفيتش الذي أعدم في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1938 رمياً بالرصاص في ساحة ساندراموخ. وكان كاتباً وإثنوغرافياً وكاتباً مسرحياً وملحناً وعالماً موسيقياً وعازفاً على الآلة الوترية الأوكرانية "الباندوري"، لكن كان أكثرهم وضوحاً في رسم معالم هذه النهضة هو ميكولا خفيلوفي، وكان خفيلوفي ورفاقه يدعمون التوجه نحو ثقافة أوروبا الغربية بدلاً من الثقافة الروسية، وكانوا يرفضون ما وصفوه بـ "هوس الكتابة الحمراء" بوصفها كتابة أيديولوجية سياسية. كان كاتب رواية، بل يعد من أشهر كتاب وشعراء بدايات الحقبة السوفياتية 1920 – 1930، لكنه أول من كسر التقليد في الرواية الأوكرانية وخرج على أسلوبها الساخر، وأعدم في الـ 13 من مايو (أيار) عام 1933، لكن قيل أيضاً إنه انتحر أو دفع للانتحار، وذلك في حملة التطهير الكبير للتخلص من نخبة المجتمع الأوكراني ومثقفيه في محاكمات صورية أودت بالآلاف إلى السجن والنفي والإعدام والإسكات أو الانتحار، ومع أن أوكرانيا السلافية والأرثوذوكسية كانت شديدة الارتباط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بروسيا، لكنها استقلت دينياً العام 2018 عن الكنيسة الروسية، وحمت نفسها بالكنيسة الأرثوذكسية في إسطنبول، وكانت النهضة الثقافية التي أعدمت في ذروتها مقدمة للاستقلال عبر "أكرنة" الأدب والثقافة أو وطننتهما، وكان انخراط ميكولا خفيلوفي في النهضة الأدبية ونقاشاتها الأولى تعبيراً عن خيبة الأمل بالثورة البلشفية والتناقضات الصارخة لتي شابت ممارسات الاتحاد السوفياتي، فضلاً عن انفصام إنسان ذلك الزمان.
تناقضات صارخة
كانت روايته "يا رومانتيكا" أو "أنا رومانسي" ذات دلالة عميقة حول هذه الخيبة والتناقضات الصارخة، فالشخصية الرئيسة هي شخص بلا اسم، وبالتالي بلا شخصية وبلا روح، يقتل والدته من أجل الثورة ويوبخ نفسه لاحقاً بالسؤال، "هل كانت الثورة تستحق مثل هذه التضحية؟ وظهرت في ذلك الوقت للمرة الأولى في الأدب الأوكراني عناصر من الفلسفة الوجودية كما في رواية "المدينة" لفاليريان بيدموغيلني، سعت فيها الشخصية الرئيسة وراء المتعة، لكن تجاذبتها الرغبة في إشباع حاجات الجسد والوصول إلى أعلى الحاجات الدينية، وفي موضوع معقد كهذا لا يحول الكاتب الرواية إلى سرد بسيط لفلسفة الناس، بل يتناول الموضوع بشكل إبداعي عبر تطبيقه على منظور قومي أوكراني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فضلت الباحثة في الأدب الأوكراني يارينا تسيمبال تعبير "النهضة الحمراء" كاستعارة أكثر ملاءمة من "النهضة المشنوقة" لوصف ما حدث، ولأنها لقب ذاتي ظهر للمرة الأولى في عام 1925 عندما نشر كتاب "عصر النهضة في الأدب الأوكراني" لألكسندر ليتيس وقصيدة "نداء النهضة الحمراء" بقلم فولوديمير جادزينسكي في وقت واحد وبشكل منفرد.
في العام نفسه صدرت مجلة "نيو لايف" مع مقدمة كتبها أيضاً جادزينسكي جاء فيها "بالنسبة إلينا ليس الماضي سوى وسيلة للتعرف إلى الحاضر والمستقبل، وخبرة مفيدة وممارسة مهمة في بنية النهضة الحمراء العظيمة".
ظل التنكيل بالمثقفين والعلماء الأوكرانيين مستمراً حتى بعد رحيل ستالين إلى أن وصل عددهم لـ 30 ألفاً بحسب إحصاءات "اتحاد الكتاب الأوكرانيين في المهجر".
بلغت حملة ستالين ذروتها في التطهير الكبير بين عامي 1937 و1938 وتزامنت مع الاحتفال بذكرى مرور 20 عاماً على انتصار الثورة البلشفية، ومع ذلك لا توجد أرقام دقيقة عن عدد الأدباء والأديبات الأوكرانيين الذين اقتصت منهم حملة ستالين، لكنها تتوافق هذه البيانات بقوة مع الأرقام التي يوردها الكاتب المتخصص في ضحايا الستالينية أوليكسي موسيينكو في كتاب "مذبح الحزن". أحصى الباحث الأوكراني موسيينكو 246 كاتباً وكاتبة أعدموا مع بداية حملة ستالين 1931 -1932 من غير أن يرف له جفن، وكانوا أولى ضحايا "النهضة المشنوقة" التي شكلت جزءا أصيلاً من عمليات القمع والتنكيل بحق الأدب والأدباء في عموم الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية.