العراق في محنة "مثلثة"، محنة الغزو الأميركي عام 2003، ومحنة الهيمنة الإيرانية عبر وكلاء مسلحين، ومحنة الديمقراطية القائمة على أحزاب طائفية ومذهبية وإثنية بعد السلطوية التي ضربت الأحزاب الوطنية.
وليس "الانسداد السياسي" الحالي بعد نصف عام من الانتخابات النيابية سوى واحدة من علامات المحنة المستمرة التي فشلت ثلاثة تطورات في إخراج العراق منها، "ثورة أكتوبر" الشعبية السلمية التي استمرت في الساحات على الرغم من مواجهتها بالقمع والعنف والخطف والسجن، والتسليم الاضطراري بتأليف حكومة برئاسة رجل من خارج الأحزاب والميليشيات الطائفية والمذهبية هو مصطفى الكاظمي الذي تسلح بقوة "الوطنية العراقية" وسعى إلى تحويل البلد من ساحة للصراعات الإقليمية والدولية إلى "جسر للتعاون والتكامل" بين القوى الإقليمية، والانتخابات النيابية المبكرة التي أجريت على أساس قانون انتخاب جديد خارج القوائم المعلبة، حيث التصويت للمرشح باسمه، فما خرج من صناديق الاقتراع، مع أن أكثرية الثوار من الشباب أخطأت في مقاطعة الانتخابات ترشحاً واقتراعاً، بدا مفاجأة. تزايد عدد النواب المستقلين، وخسارة الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران لمعظم ما كانت تحوزه، وحصول أنصار مقتدى الصدر على العدد الأكبر من المقاعد بين الأحزاب، وتفوق "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود البارزاني على بقية الأحزاب الكردية، وظهور كتلة سنيّة قوية مؤلفة من حزب بزعامة محمد الحلبوسي وآخر بزعامة خميس خنجر.
لكن الوقت مر من دون القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية وتعيين رئيس للوزراء يؤلف حكومة، والسبب هو العمل على الطريقة الإيرانية المطبقة في لبنان، الإصرار على اعتبار المشكلة هي الحل، مشكلة منع الأكثرية من الحكم ورفض الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران الجلوس في مقاعد المعارضة ولو خسرت الانتخابات، وفرض "الديمقراطية التوافقية" عبر إدخال الجميع في الحكومة حيث يتعطل القرار بسبب الحاجة إلى الإجماع. إنها مشكلة الحرص على "الثلث المعطل" الذي منع قرارات وأسقط حكومات في لبنان ومنع انعقاد الجلسات النيابية التي تحتاج إلى أكثرية الثلثين لانتخاب رئيس الجمهورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في لبنان استمر المنع بقوة "حزب الله" عامين ونصف العام لفرض انتخاب مرشحه العماد ميشال عون، وفي العراق لا يزال المنع مستمراً منذ أشهر، ومن المفارقات أن فالح الفياض رئيس هيئة "الحشد الشعبي" يتهم السنّة والكرد بـ "تمزيق البيت الشيعي" عبر التفاهم مع الصدر، فما تصر عليه طهران وجاء الجنرال إسماعيل قاآني مراراً إلى بغداد من أجله هو مشاركة كل الفصائل الشيعية في السلطة ولو كانت خاسرة، مما يعني أن تأليف الحكومة "قضية شيعية" والبقية ضيوف على الشيعة، لا شركاء كما يصرون اليوم على أن يكونوا، لا بل إن الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران والمصرة على المشاركة في السلطة تتولى قصف مطار بغداد وقواعد عسكرية عراقية والمنطقة الخضراء في بغداد وأربيل في كردستان العراق بالصواريخ والمسيّرات التي وصلت إلى منزل رئيس الحكومة الكاظمي بقصد اغتياله بعد تهديده علناً بالقتل، وحتى وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين قال في حديث صحافي إن "جزءاً كبيراً من الصراعات الداخلية على علاقة بالصراعات الإقليمية، ومن أجل إدارة الصراع في الداخل نحتاج إلى إدارة الصراع على الحدود، وخرق السيادة ليس حين تهاجم دولة معينة الأراضي العراقية وحسب. الخرق الخطر للسيادة هو خطف القرار العراقي".
وتلك هي المسألة، "قوة الوطنية" التي حارب بها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي لم تنجح تماماً في استعادة القرار العراقي المخطوف بقوة السلاح، وخسارة فصائل إيران في الانتخابات قادت إلى التمسك أكثر بخطف القرار، والقوى التي ربحت الانتخابات لا تزال عاجزة، على الرغم من "الاتفاق الوطني" بينها، عن انتخاب رئيس للجمهورية وتعيين رئيس للحكومة، أما الأطراف العربية التي انفتحت على العراق وتعمل لمساعدته فإن التحديات أمامها كبيرة وصعبة، وأما الولايات المتحدة التي كسرت بالغزو "البوابة الشرقية" الحارسة للأمة العربية وقدمت أكبر هدية لملالي إيران، فإنها مصابة بداء لا شفاء منه منذ ثورة الخميني، الرهان الخائب على قوى داخلية والاتفاق النووي وسواه مع إيران بداعي تقوية "العناصر المعتدلة" التي تعيد تقارب طهران مع واشنطن، وخلال كل هذه الألعاب يأكل الوقت في صحون العراقيين ويحوّل العراق من بلد غني إلى بلد فقير يقترض لدفع رواتب الموظفين، ومرحباً بديمقراطية توافقية تديرها سلطوية إيرانية في العراق ولبنان.