تكرم بيروت الشاعر محمد العبد الله في ذكرى رحيله وتسترجع بعضاً من قصائده الفريدة ونصوصه، في لقاء تنظمه، مساء اليوم، دار المصور في الحمراء، ويحضر أصدقاؤه ومحبوه، ليصغوا إلى قراءات من شعره ونثره. إنها تحية عفوية وصادقة يستحقها هذا الشاعر الكبير، المتفرد في كل ما كتب، كما في حياته التي جعل منها قصيدة مفتوحة على مصادفات الدهر. والأمل أن يكون هذا اللقاء حافزاً لجمع أعمال الشاعر ودواوينه وكتبه في طبعة كاملة تكون في متناول الجميع، قراء ونقاداً.
شبيه نفسه
في نهايات السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين أُدرج الشاعر محمد العبد الله في لبنان في مجموعة "شعراء الجنوب" التي تضم كثراً، والأكثر شهرة من بين هؤلاء: حسن العبد الله ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وجودت فخر الدين وغيرهم. وهذه التسمية أساساً "عنصرية" في رأيي، لأنها تصنف الشعراء في "كتلة" على أساس أنهم من جهة معينة من البلد، أو لأنهم ينتمون إلى طائفة واحدة، وفي هذا ظلم لشاعرية كل واحد منهم، المتفردة والخاصة، حتى في تناول قضايا الجنوب في زمن الحروب والاحتلال والموت والتهجير في تلك الفترة.
لكن تصنيف محمد العبد الله في الأساس غير ممكن، لا بين شعراء الجنوب ولا شعراء لبنان بجهاته كلها، لأنه كتب الشعر الذي يشبهه هو وحده، سواء من حيث اللغة العربية المستخدمة أو من خلال الفكرة الشعرية وموضوعها، ثم في الأسلوب ومنه كيفية ربط الجمل بعضها ببعض، ثم في النهاية السخرية العامة. وهذه السخرية ليست قليلة بل موجودة في كل مجموعاته من "بعد قليل من الحب بعد الحب بقليل"، و"بعد ظهر نبيذ أحمر بعد ظهر خطأ كبير"، وفي "حال الحور" وفي "بلا هوادة". والتقصد في الحديث عن السخرية هو العودة إلى شخصية محمد العبد الله الذي بدأ يعيش السخرية بعد مرحلة من الجدية طوال عمره الذي واجه فيه كثيراً من الحوادث المتفاقمة في الثقافة والسياسية وسيرورة البلد والشعب ومن ثم سيرورة حياته نفسها.
في البداية كان هناك محمد العبد الله السياسي يختلط بمحمد العبد الله الفلسفي والفكري والنضالي والثقافي والشعري، وقد تخرج محمد في كلية الفلسفة في الجامعة.
في أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات، وكان قد فاز بجائزة الشعر في كلية التربية بعدما ألقى قصيدة عن بيروت أمام لجنة من الشاعر أنسي الحاج وغيره، وجمع غفير من الطلاب. بدأت شهرته بالصعود كمثقف وشاعر ومناضل وصاحب رأي ومحب للمعرفة و"التبشير". كان يستغل موهبته الشعرية في قول الكلام على وجوهه المختلفة، منمقاً هادئاً محباً ولطيفاً، في قصائد الحب والطبيعة، ثم صارماً وصارخاً وحابكاً الصور والكلمات في قصائد الجنوب التي غنى منها كثيراً، مارسيل خليفة وأحمد قعبور وأميمة الخليل وسامي حواط وغيرهم. وهذا ما أسهم في شهرة محمد ككاتب لرواد الأغنية الملتزمة، في لبنان والعالم العربي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الدرجة الأولى تأتي قصائده الشخصية التي يتحدث فيها بصوته عن نفسه وعن رؤيته للعالم، وهذه أتت بعد تجربة في الحياة جعلت من محمد العبد الله ينتقل من مصاف أن يكون مناضلاً، إلى أن يصبح شاعراً فإلى مصاف أن يكون حامل رسالة للبشر أينما حلوا، سواء في داخل الحانة أو كانوا مستمعين لأغنية من تأليفه، مثل قصيدته لابنه التي غناها مارسيل خليفة والتي يحفظها كثيرون في العالم العربي "للذي قلبي الآن تفاحة في يديه/ للذي قلبي الآن كرة بين رجليه/ للذي لو نام/ روحي ترفرف مثل فراشة فوق سريره". أو قصيدته العامية التي غناها الفنان اللبناني أحمد قعبور "بلاد": "شو بعاد/ متل كفين ع طاولة/ بيناتنا في بلاد/ عم تحترق/ وولاد عم يسألوننا كيف".
حال عبثية
راح منذ أواسط السبيعينيات من القرن العشرين يصاب بحالة من القرف لما آلت إليه الأحوال في العاصمة بيروت وفي أرجاء لبنان، كانت الأوضاع مثيرة للغثيان بالنسبة لشاعر كمحمد العبدالله وبالنسبة للبنانيين كثر، حين انطلقت المجازر وحركات التهجير بشكل منهجي، وسيطرت الميليشيات على أنواعها، على بيروت واقتسمتها. وكان المسلحون الفلسطينيون بقيادة ياسر عرفات مسيطرين في بيروت الغربية، حين كان يعمل محمد العبد الله في جريدة "السفير" اليسارية المنطلقة حدثياً، ويرأس صفحتها الثقافية، ويكتب مقالات ضد منظمة فتح وحلفائها للتجاوزات التي يقومون بها في بيروت، من تهويل وترهيب وقتل وسرقة. وعندما زار ياسر عرفات مرة جريدة "السفير" أراد أن يتعرف على محمد العبد الله، ويعرف منه لماذا يهاجم الفسطينيين. وحين قابله في مكتبه سأله ياسر عرفات، بما معناه: أهكذا تسهم في تحرير القدس يا محمد؟ فأجابه حينها: إذا كنتم ستفعلون بالقدس ما تفعلونه ببيروت يا أبو عمار، فاتركوها للإسرائيليين. كانت فترة عصيبة وتدعو للملل واللاحتقار وكتب عنها محمد قصائد عدة، وترك بيروت لفترات ولكنه دائماً كان يعود إليها متأملاً وحالماً أن شيئاً جميلاً ما سيحدث، ولكنه كان على خطأ على ما يبدو حتى الآن.
منذ ذلك الحين صارت قصائده أقرب إلى رسائل ساخرة، والسخرية من "بهائم العالم" كما يسمي البشر في قصيدة معروفة ليست مقبولة بفجاجتها، كما لم يكن مقبولاً هو شخصياً كما هو في العقدين الأخيرين من حياته، حين قرر أن ينقل سخرية القصيدة إلى الحياة نفسها.
شخصية فريدة
يُروى عن بعض خصاله الفريدة والعبثية، أنه كان يكتب المقابلات ويجريها مع شعراء وفنانين من أصدقائه من دون علمهم ويوزعها على الصحافة، ليحصل على ثمنها، هو الذي كان سخياً ومبذراً ومبدداً ما كان يتوافر في جيوبه. وكان يتعاطى مع هذا الأمر بسخرية، وعادة ما تكون المقابلات فكاهية وعمومية، يختار أسئلتها وأجوبتها بنفسه، فيسامحه أصدقاؤه بل وبعضهم يتشاوفون بها، فهو حذق في كتابة السؤال والجواب. كان ثمن المقالات من هناك وهناك، هو معينه في حياته في عقديه الأخيرين، عطفاً على مساعدات الأصدقاء المقربين، فهو لم يترك راتباً تقاعدياً بل أخذ تعويضاً مالياً كبيراً أهرق نصفه وأكثر في المقامرة، التي كان يهواها لكنه لم يذكرها في شعره، وكأنها حياة سرية يجب أن تبقى مخبأة. ولكنه عوض عنها بمظهر السكّير الذي كان يلائمه تماماً في تلك الآونة من عمر بيروت المحتضرة، وكان قد بات في قمة غضبه مما آلت إليه أحوال البلاد وأحواله الشخصية هو نفسه، لا سيما ذاك الضجر الساخر المقيم الذي كان يحاصره.
وقد كتب قصيدة طويلة لرأسه، يختمها قائلاً: "سيقتلني هذا الرأس". وفي كل الأحوال هذا لم يكن يزعجه ولا يزعج أي أحد، فمن يعرف قصيدة محمد العبد الله يعرفه هو نفسه والعكس صحيح. وهو يحمل كثيراً من الوقار لدى الجميع، من المعلقين الصحافيين إلى الشعراء فإلى المنتديات الثقافية ودور النشر، وكان لا يزال يحمل رصيداً من ماضي الشاعر الذي هو، والذي أراد التغيير في الواقع وفي الشعر، لكنه أمعن في هذه الإرادة فانقلب نحو السخرية، والعيش كل يوم بيومه. وقد كتب في قصائد كثيرة أخيرة كيف كان يمضي الأيام، بعضها بالروتين، وبعضها بفقدان معنى الوقت، وبعضها بالعودة إلى الحياة والحب، وهكذا دواليك. قصائده الأخيرة كانت كمزاجه، تتوجه في كل الاتجاهات.
ومناسبة الاحتفاء بمحمد العبد الله في ذكرى وفاته، هي أن التاريخ يحفظ الشعراء الذين مثله، من ذوي البعد الإنساني، وكل بحسب ما يرى الإنسانية بعينه الشاعرية الخاصة. وهؤلاء الشعراء معروفون عبر التاريخ، وقد كانوا منبوذين عموماً أو غير مرغوب بهم في وقت عيشهم، ومنهم أسماء كبيرة ورائدة.