ملخص
قد تكون القيادة الإيرانية مدركة دقة المرحلة التي تعيشها بعد الضربة الإسرائيلية، وأن التوظيف في إمكان التوصل إلى فرض معادلة واضحة تقوم على "التخلي عن حقها في الرد مقابل التوصل إلى اتفاق لوقف طلاق النار في لبنان وغزة"، ضمن الشروط التي لا تسمح بالحاق الهزيمة بحليفيها "حزب الله" و"حماس"، يشكل مخرجاً منصفاً لكلا الطرفين، للابتعاد من التصعيد والمواجهة المفتوحة التي قد تتحول إلى ما يشبه لعبة "كر الطاولة" بينهما حتى الإنهاك، بانتظار من ستكون له الضربة الأخيرة.
الهجوم الجوي الإسرائيلي المركب الذي تعرضت له الأراضي الإيرانية، بخاصة العاصمة طهران ومحافظتي خوزستان وإيلام، أعاد خلط الأوراق أمام النظام الإيراني الذي اعتبر أنه استطاع استعادة قوة الردع في الهجوم الصاروخي الذي قام به مستخدماً نحو 200 صاروخ باليستي فرط صوتي، بعدما تعرضت منظومة ردعه لصدمة جراء عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، وخسارته رأس النفوذ الإقليمي باغتيال الأمن العام لـ "حزب الله".
لا شك في أن الهجوم الإسرائيلي أعاد وضع إيران ونظامها مرة جديدة أمام واحد من خيارين، إما الحرب وإما السلم، إما استعادة السيطرة وإما السكوت والرضوخ للضغوط الدولية والإقليمية بعدم الرد وجر المنطقة والعالم ووضعهما أمام إمكان دخول حرب مفتوحة على جميع الاحتمالات.
من الطبيعي أن القيادة الإيرانية أو الجهات المعنية بالقرار الإستراتيجي داخل النظام الإيراني، وفي مقدمهم المرشد الأعلى للنظام بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة وصاحب القرار الإستراتيجي، كانت وضعت في اعتباراتها أن القيادة الإسرائيلية في تل أبيب لن تسكت عن الهجوم الصاروخي الذي قامت به طهران ضد أهداف عسكرية في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأنها ستكون لاحقاً أمام اختبار الرد على "الرد الإسرائيلي" من أجل تثبيت قدرتها على الردع واستعدادها للدفاع عن سيادتها القومية والإستراتيجية أمام أي تهديد أو اعتداء.
إلا أن ما تواجهه غرفة القرار الإيرانية في ما يتعلق بآلية الرد على الهجوم الإسرائيلي الأخير تبدو أكثر تعقيداً وتشابكاً عما سبق وواجهته في ضربة أكتوبر، أو تلك التي قامت بها أواسط أبريل (نيسان) الماضي، لأن أي قرار، سواء كان باتجاه التصعيد أم التهدئة، سيكون مصيرياً لمستقبل النظام واستقراره وموقعه ودوره في الداخل والإقليم وعلى المستوى الدولي، وأن آثار أي قرار في هذا الشأن ستكون له تداعيات طويلة الأمد ولن تقتصر على المدى الزمني المنظور أو القصير.
من هنا يمكن فهم الموقف الأولي الصادر عن أكثر من جهة إيرانية، وعلى رأسها المرشد الأعلى الذي حاول وضع الحدث في نصابه المنطقي عندما دعا إلى عدم التقليل من شأن الهجوم الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه دعا أيضاً إلى عدم تضخيمه وتقديم خدمة مجانية للعدو.
وفي سياق يتصل وينسجم مع الإستراتيجية التي سبق أن رسمها المرشد الأعلى لمسار التصعيد بين بلاده وإسرائيل، عندما تحدث عن أن إيران والنظام لن يترددا في "الرد على أي اعتداء، وفي الوقت نفسه لن يتسرعا في هذا الرد"، يكمن فهم الموقف الذي صدر عن المؤسستين العسكرية والسياسية في المنظومة الإيرانية، والقائل بالاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين، وأن إيران لا يمكن أن تتسامح مع أي انتهاك لسيادتها وخطوطها الحمر.
وفي الوقت الذي يؤكد النظام الإيراني بمفاصله كافة أنه يتمسك بحق الرد، فإن المعطيات السياسية والحراك الدبلوماسي الذي تقوم به الحكومة الإيرانية تحت إشراف "غرفة القرار الإستراتيجي" تشير إلى وجود توجه داخل هذه الإدارة بإعطاء فرصة جدية لإمكان التوصل إلى حل سياسي، وإعلان وقف لإطلاق النار المتزامن على جبهتي لبنان وغزة، تمهيداً لإطلاق عملية سياسية جدية تشمل مستقبل الصراع والأزمة القائمة وتداعياتها.
وما لا تعلنه إيران ويفضحه الموقف الحازم المتمسك بحق الرد، أن النظام الإيراني لن يسمح للإدارة الأميركية التي يعتبرها شريكة عملية في الهجوم الإسرائيلي الأخير، بخاصة بعد أن منحت سلاح الجو الإسرائيلي حرية العمل واستخدام الأجواء العراقية للوصول إلى أهدافه نتيجة تحكمها وخضوع الأجواء العراقية لسيطرتها وسيطرة قوات الـ"ناتو"، لن يسمح لها بممارسة الخديعة نفسها التي تعرض لها بعد اغتيال هنية على أراضيه، بخاصة عندما أعطى هذه الإدارة فرصة شهرين لتنفيذ وعودها بممارسة ضغوط على الجانب الإسرائيلي للقبول بمبادرة الثاني من سبتمبر (أيلول) الماضي لوقف إطلاق النار والتسوية في قطاع غزة، ثم تفاجأ بالتصعيد الإسرائيلي ضد لبنان وسلسلة عمليات ذات مستويات عدة ومعقدة، انتهت بضربة قاسية ومجزرة "البيجر" أو أجهزة التواصل، واغيتال قيادات الصف الأول في "حزب الله" وعلى رأسهم أمينه العام الذي يعتبر قيمة إستراتيجية في المحور الذي تقوده طهران في الإقليم ومنطقة غرب آسيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد تكون القيادة الإيرانية مدركة دقة المرحلة التي تعيشها بعد الضربة الإسرائيلية، وأن التوظيف في إمكان التوصل إلى فرض معادلة واضحة تقوم على "التخلي عن حقها في الرد مقابل التوصل إلى اتفاق لوقف طلاق النار في لبنان وغزة"، ضمن الشروط التي لا تسمح بإلحاق الهزيمة بحليفيها "حزب الله" و"حماس"، يشكل مخرجاً منصفاً لكلا الطرفين للابتعاد من التصعيد والمواجهة المفتوحة التي قد تتحول إلى ما يشبه لعبة "كرة الطاولة" بينهما حتى الإنهاك، بانتظار من ستكون له الضربة الأخيرة.
إلا أن طهران تدرك أن الفشل في التوصل إلى هذه المعادلة يعني أنها ستكون مجبرة على الذهاب إلى خيار الرد من أجل استعادة قدرة الردع والدفاع عن سيادتها، بخاصة إذا تزامن فشل الجهود السياسية للحل مع عدم إقرار مجلس الأمن قراراً يدين الاعتداء الإسرائيلي عليها تحت البند السابع، وما يعنيه من إمكان فرض عقوبات على تل أبيب.
واذا لم يكتب لمسار السلم الذي ترغب فيه طهران أن يتحقق فإن خيار التصعيد سيكون الوحيد المتاح أمامها، وعندها ستكون الأمور واضحة بصورة كبيرة لدى القيادة الإيرانية وأن الهدف من الاستمرار في الحرب ومحاولة تل أبيب جرها إلى مواجهة مفتوحة يهدف إلى الحاق الهزيمة بها وإضعافها، وسحب جميع أوراق القوة الإقليمية من يدها من بوابة توجيه ضربة قاسية وقاسمة لحليفه الأول ورأس حربتها في لبنان، وبالتالي إجبارها على العودة لداخل حدودها والتخلي عن كل طموحاتها الإقليمية والإستراتيجية لتكون لاعباً فاعلاً في معادلات المنطقة.
والذهاب الإيراني إلى خيار التصعيد قد يكون محفوفاً بأخطار كثيرة في مقدمها انكشاف الساحة الداخلية أمام الهجمات الإسرائيلية، بخاصة إذا صدقت مقولة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بعد الهجوم على إيران بأن أجواء طهران باتت مكشوفة أمام سلاح الجو الإسرائيلي، وذلك بعد ضرب أجهزة الردارات التي تشغل منظومة الدفاع الجوي، وأن أي هجوم إسرائيلي واسع، والذي لن يكون من دون دعم أميركي وغربي علني أو سري، سيضع إيران أمام أخطار كبيرة لا تقف عند حدود خسارتها لحلفائها الذين سيواجهون حرباً مفتوحة لاقتلاعهم، في ظل انشغال إيران بما يعد لها في الداخل ومن الخارج، وسيكون مصير النظام على المحك ومهدداً بشكل جدي، مما قد يدخل المنطقة في مرحلة شديدة التعقيد ومفتوحة على جميع الاحتمالات، ما لم تتوسع لتتحول إلى حرب شاملة.
قد لا تكون طهران غير قادرة على الحد من التداعيات السلبية عليها إذا ما ذهبت إلى الخيار التصعيدي، لكنها في الوقت نفسه أمام تحد من نوع آخر يرتبط بجدوى الدبلوماسية التي مارستها خلال الأسابيع الاخيرة باتجاه دول المنطقة، والتي قد لا تكون كافية لضمان بقائها على طاولة الحلول المقبلة، وقد تؤدي إلى خسارة شراكتها في صنع وصياغة الحلول في المسألتين اللبنانية والفلسطينية، ما لم تبادر إلى إطلاق مبادرة سياسية تتضمن رؤية جديدة ومختلفة عما سبق أن أعلنته لهذه الحلول، إذ تضمن لها أو تساعدها في البقاء شريكاً وفاعلاً في صنع المعادلات المقبلة.