منذ ثلاثة أعوام وتعبير "مثير للجدل" ملاصق للمسلسل الرمضاني "الاختيار"، إلا أن الإثارة مع الجزء الثالث للعمل هذا الموسم مختلفة بسبب الحبكة الفنية، كما أن الجدل المشتعل مرده البناء الدرامي، والاهتمام العالمي حول التسلسل التاريخي للمجريات أو الرؤية المصرية للأحداث.
الجزء الثالث من "الاختيار" فتح أبواب القيل السياسي والقال الحقوقي والشد والجذب حول ما جرى في مصر على مدار عقد كامل بين مؤيد بشدة، ومعارض بقوة، ومراقب عن بعد، لكن بمزيد من الاهتمام ومزيج من التوجهات السياسية والأيديولوجية المسبقة.
غارق في السياسة
"الاختيار" ليس كأي عمل درامي. فهو غارق في السياسة، معجون بالأيديولوجيا، ممزوج بأحداث معاصرة عاشتها وعايشتها الملايين، لكنها تظل معايشة غارقة في الاستقطاب، ومغموسة تماماً في فكرة ماذا جرى في مصر منذ عام 1928؟
فـ "الاختيار" ليس عملاً درامياً تاريخياً موثقاً (بوجهة نظر) لتاريخ ومسيرة تنظيم الإخوان منذ نشأته في عام 1928 مثل مسلسل "الجماعة" (2010)، ولا هو عمل درامي مبني على الخيال المستمد من الواقع، فأورد لمحة عن فكر الإخوان وقت كانوا في مرحلة التوسع الأفقي بالمجتمع المصري مثل فيلم "طيور الظلام" (1995).
"الاختيار" عمل درامي غير مسبوق، لأنه يقبع في خانة درامية غير معتادة، وفي الأغلب غير منصوص عليها في فنون الدراما. فهو عمل شبه درامي، حيث الأحداث مشتقة من الواقع، وشبه رسمي حيث الفكرة ما كان لها أن تخرج إلى نور العرض إلا بمباركة رسمية، وشبه توثيقي، لأنه خالط بين إعادة تقديم الأحداث عبر إعادة تمثيل أحداث وقعت بالفعل وبين مقاطع مصورة للأحداث نفسها، وشبه تاريخي لأنه تاريخ بالغ الحداثة، وربما يفتقد للضبط الأكاديمي للتأريخ، وشبه وطني لأنه يعرض الأحداث من وجهة نظر المنتصر الوطني، سواء الحاكم أو المحكومين.
"وطني" هي الصفة الأكثر استخداماً هذه الأيام للإشارة إلى مسلسل "الاختيار" في جزئه الثالث للمؤلف هاني سرحان وآخرين، وبطولة عشرات الفنانين والفنانات، على رأسهم ياسر جلال وخالد الصاوي وكريم عبد العزيز وأحمد السقا وأحمد عز، وأخرجه بيتر ميمي.
و"وطني" هي الصفة الأكثر تسبباً في غضب الفريق المعارض ورفض الفريق المنتقد، وهو ما يجعل مجموع الفرق المتابعة للعمل والضالعة في تقييمه ثلاثة، إضافة إلى مجموعة رابعة تحمل صفة "مراقب" ترصد وتحلل وتصدر أحكاماً متأرجحة بين المحتوى السياسي والقيمة الفنية وقدر من هوى المصالح وأهواء التوازنات العالمية.
عالمية "الاختيار"
عالمية "الاختيار" بدأت مع جزئه الأول، الذي دار حول قصة ضابط مصري هو الراحل أحمد منسي، الذي تحول إلى أيقونة بين المصريين الرافضين حكم تنظيم الإخوان وما تبعه من أحدث وحوادث يصفونها بالإرهابية أوقعت قتلى وألحقت ضرراً وكادت تدخل البلاد في دوامة حرب أهلية.
"الاختيار 1" الذي عرض مقتطفات من حياة منسي وزملائه والحوادث التي عاشتها مصر وحتى وفاته بعبوة ناسفة أثناء مطاردة جماعات إرهابية في شمال سيناء في عام 2017 تسبب في حالة غضب شديدة استخدم فيها سلاح السخرية بشدة على منصات التواصل الاجتماعي من قبل أفراد وكيانات إما تابعة لتنظيم الإخوان أو متعاطفة معه. كما تسبب المسلسل بجزئه الأول في موجة اهتمام إعلامية غربية عبر مجموعة من التقارير والتحليلات أغلبها يدور حول تساؤل واحد لا ثاني له: وماذا عن وجهة نظر تنظيم الإخوان في الأحداث؟
وجهة نظر التنظيم في الأحداث ظلت مدعاة لغضبهم في الجزء الثاني وسبباً لاهتمام الإعلام الغربي، وذلك للعام الثاني على التوالي. لكن الجزء الثالث هذا العام، والذي ما زال في بدايته، خلق حالة مختلفة من الغضب والتأييد، والإشادة والتنديد، والأسئلة الاستفسارية المندهشة المنقلبة استنكارية بحسب التوجهات والأيديولوجيات.
"عمل درامي فارق يعرض وثائق فاضحة"! بهذه الكلمات علق مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، العميد خالد عكاشة، على "الاختيار 3" في حوار تلفزيوني قبل أيام.
وقال عكاشة إن عرض هذه الوثائق بالصوت والصورة موجه إلى كتلتين: الأولى هي أعضاء التنظيم ومؤيدوهم وكثيرون منهم ما زالوا مغيبين، ولا يعلمون أن قياداتهم ارتكبت هذه الجرائم الفاضحة.
وأضاف عكاشة، أن المسلسل يضع لأعضاء التنظيم ومؤيديه هذه "الأصنام" التي عبدوها لسنوات (القيادات)، ويكشف تآمرهم على الجميع وعلى كل مكونات الدولة المصرية. أما الكتلة الثانية التي يشير عكاشة إلى أن المسلسل موجه لها فهي الرأي العام الذي يحتاج لتنشيط الذاكرة ووضع الصورة كاملة أمامه.
شد وجذب الصورة الكاملة
الصورة الكاملة محل شد وجذب بين كارهي التنظيم ومن يؤيدونه من جهة، وبين أعضائه وداعميه ومن يدافعون عنهم لأسباب مختلفة. أحاديث المصريين عن المسلسل لا تتوقف كثيراً عند كونه "تاريخياً" أو "وطنياً". البعض يسميه مسلسل "الإخوان" في إشارة إلى تعرض الأحداث لفترة حكم التنظيم. البعض الآخر ما زال يسميه مسلسل "منسي" في إشارة إلى الجزء الأول الذي دار حول الضابط الشهيد أحمد منسي. وفريق ثالث يشير إليه باعتباره "مسلسل السيسي".
صور الفنان ياسر جلال بالبدلة العسكرية الخاصة بوزير الدافع تملأ الشوارع وتتصدر منصات التواصل الاجتماعي وتبقى على "تريند" "الاختيار 3" منذ بدأ. الفنان ياسر جلال يلعب دور الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، منذ وقع اختيار تنظيم الإخوان عليه ليكون وزيراً للدفاع. وهذا ما أربك المشاهدين بغض النظر عن توجهاتهم.
القاعدة العريضة تتابع المسلسل، وتتذكر ذكريات الأمس القريب. فبين "مدام هالة" وأسرتها الذين يتذكرون يوم إعلان فوز مرشح التنظيم محمد مرسي، و"الأستاذ حسين" الذي دمعت عيناه وهو يستدعي ذكريات يوم حضر "مرسي" حفل الكلية الجوية وجلس بين قادة الجيش، والأبناء يتابعون خليطاً من الدراما ومقاطع الفيديو التي عاصروا الكثير منها وتابعوه ضمن نشرات الأخبار أو حكايات الأصدقاء لم يعتد المصريون أن يشاهدوا عملاً درامياً لأحداث دامية ما زال أبطالها الحقيقيون – الطيبون والأشرار- على قيد الحياة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتقاء في "الاختيار"
العبارات المستخدمة شعبياً وإعلامياً مثل "هذا توثيق تاريخي"، و"هذه نوعية الأعمال الوطنية التي نحتاجها لإعادة الشعور بالانتماء للوطن"، و"هذا حق الشعب في المعرفة" تسعد صناع العمل والقائمين عليه وتصب في صميم الغاية التي صنعت من أجلها أجزاء المسلسل الثلاثة.
لكن في المقابل، هناك من يعتبر العمل توثيقاً بوجهة نظر ما ينفي عنه صفة التوثيق غير المتحيز، وبروباغاندا تعمل على صناعة هالة من الوطنية الزائفة، واختيار ما يعرض أمام الشعب بغرض المعرفة وحجب معارف أخرى ما يعني الانتقاء في الاختيار.
ما يعرض حالياً على شاشات التلفزيون وتطبيقات المشاهدة أمام مليارات المشاهدين في مصر والعالم العربي والعالم تسجيلات مقاطع مصورة لقيادات التنظيم وأنصار لهم في اجتماعات ولقاءات سرية. يسميها المصريون "تسريبات". وهي في حقيقة الأمر غير المعلن، لكن المفهوم والمنطقي والمتوقع أن مصدرها رسمي.
العنصر "الرسمي" في المسلسل تحول إلى مثار شد وجذب بين جموع المصريين الذين خرجوا في يونيو (حزيران) عام 2013 للتخلص من حكم الإخوان وغيرهم من المواطنين العرب الرافضين للتنظيم وفكره وأهدافه من جهة، وبين آخرين مستمرين في دعم التنظيم والدفاع عنه وتصيد كل فرصة لعلها تساعد في عودتهم إلى سدة الحكم أو إثارة الغضب والفتنة والقلاقل لعلها أيضاً تسهم في إسقاط النظام الحالي وعودتهم بشكل أو بآخر. وتنضم للفريق الأخير مجموعة ممن يصنفون أنفسهم باعتبارهم "ثوار يناير" أو "رافضين للنظام الحالي" أو "مؤمنين بأن نظام الإخوان كان يمكن التخلص منه عبر صناديق الانتخابات.
في كل يوم تسريب
في نهاية كل حلقة ينتظر المشاهدون "تسريب جديد" أبطاله قيادات من التنظيم، أو أعضاء سابقون وما زالوا "إسلاميين"، وما زالت كل حلقة تعد بتسريب جديد مفاجئ للجميع. ليس هذا فقط، بل تحوي الحلقات ضمن الجانب التوثيقي المأخوذ من الواقع مداخلات هاتفية أجراها ناشطون في برامج تلفزيونية ومقاطع من برامج ذاع صيتها في أثناء عام من حكم التنظيم، وهو ما جعل كثيرين ينتظرون كل حلقة ترقباً لاحتمالات ظهورهم بالصوت أو الصورة أو كليهما.
ولأن كل ما يتعلق بالمسلسل غير متوقع، فإن ردود الفعل المناهضة للجزأين الأول والثاني، لا سيما القول بأن الأحداث ملفقة والحقائق ملتوية والاجتزاء في المشاهد المصورة ودمجها مع الدراما خلقت واقعاً خيالياً لم يحدث ولا يخدم سوى "النظام المصري"، وجدت نفسها في "خانة اليك" في الجزء الثالث. فـ "التسريبات" مصورة بالصوت والصورة وما يقال فيها هو ذاته الرواية الرسمية المصرية عن حقيقة التنظيم، وهي الرواية التي دأب الإخوان ومناصروهم على نفيها واتهامها بالتلفيق والكذب.
حقيقة الحدث وخيال الدراما
الانتقادات السابقة تركزت حول رفض فكرة الجمع بين المقاطع المصورة والصور المختارة من الأحداث الفعلية ودمجها مع مقاطع وصور مصنوعة في العمل الدرامي ما يطمس الخيط الرفيع بين الواقع والخيال، إضافة إلى إدماج مقابلات مع جنود مصريين وعائلات قتل أبناؤهم (شهداء)، ما يجعل المشاهد يتعاطف مع طرف على حساب آخر.
آخر ما يمكن أن يهضمه المصريون المناهضون لجماعات الإسلام السياسي هو اعتبار الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وجيشها وشرطتها طرف في صراع أمام التنظيم وداعميه. لذلك تحول "الاختيار 3" إلى منصة فعلية لعرض وثائق تثبت بالحجة والبرهان والصوت والصورة حقيقة التنظيم الذي حكم البلاد والعباد لمدة عام.
كما أضفت صفة معلوماتية تتعلق بما كان يجري خلف أبواب التنظيم المغلقة واجتماعاته السرية، وتلك التي جمعته برموز مدنية في الدولة، التي ظلت طيلة السنوات الماضية قيد السرد الرسمي والنفي الإخواني.
سرد رسمي وإنكار إخواني
تبدو مهمة الدراما في تأكيد السرديات الرسمية وتثبيت الاتهامات على جماعات أو أفراد حول أحداث وقعت في الماضي القريب غير معهودة أو مسبوقة. كما يبدو ظهور حاكم حالي ومعارضة حالية وجماعات صادر في حقها حديثاً أحكام تصنفها بـ "الإرهابية" ومناهضين للحكم معاصرين وهاربين خارج البلاد جميعها معالجة درامية غير معروفة.
النسبة الأكبر من النقاد الفنيين والباحثين في شؤون الإسلام السياسي والجماعات الدينية والكتاب في مصر تعتبر "الاختيار 3" أفضل وسيلة لإخبار المصريين حقيقة التنظيم بكشف الوثائق (التسريبات) التي هي حق أصيل للمواطنين. البعض يشير إلى أن المواطن عموماً لديه ذاكرة سمكة بفعل ضغوط الحياة اليومية ما يجعله عرضة لإعادة تسلل فكر التنظيم مجدداً مستغلة النسيان أو الغفران أو كليهما.
لا نسيان أو غفران
لكن لا النسيان أو الغفران من سمات منصات التواصل الاجتماعي. وبعيداً عما إذا كان المسلسل يصلح أن يصنف "تاريخي" أو يوصف بـ "الوطني" أو ينعت بـ "التوثيقي"، فإن ما تشهده منصات التواصل الاجتماعي من تغريدات وتدوينات تنضح بمشاعر الغضب والغيظ والكراهية والإنكار من قبل المتعاطفين مع التنظيم والمدافعين عنه، سواء عن قناعة أو بحكم متطلبات العمل ومعهم معارضو النظام من غير الإسلاميين يدفع بالمسلسل إلى احتلال قمة التريند عقب انتهاء كل حلقة. ويعزز هذا الاحتلال إسراع الفريق الآخر من المعارضين للإخوان إلى الإشادة بالمسلسل وبالأبطال وبقرار إذاعة التسريبات، وهو ما يبقي النيران مشتعلة على الأثير.
حلقات "الاختيار 3" الـ 30 ستضمن الإبقاء على نيران الأثير العنكبوتي مشتعلة. كما ستبقي على أسئلة عدة محل نقاش وجدال وخلاف واتفاق: هل يجوز خلط الواقع بالخيال وتقديمها كعمل توثيقي؟ وهل يمكن وصف عمل درامي بـ "التاريخي" بينما أحداثه "التاريخية" وقعت بالأمس القريب وما زالت محل خلاف بين المنتصر والمهزوم؟ وما سمات العمل الدرامي الوطني؟ وهل قطع شك خيانة التنظيم بيقين التسريبات يجوز لإنقاذ وطن؟ أم لا يجوز؟