حمل الموريتاني خيمته معه، من زمن البداوة، قبل قيام الدولة الوطنية في ستينات القرن الماضي، إلى عصر الحداثة والدولة المدنية. وعلى الرغم من أن فترة تعرّف الموريتاني إلى هذا "الحاضنِ المكانيّ"، سابقٌ لظهور سلطة سياسيةٍ في هذا الحيّز من الصحراء، إلا أن المفارقةَ أن الموريتاني حين أراد أن يمارسَ السياسة ويعيش الديمقراطيةَ لجأ إلى الخيمةِ، لممارسة نشاطاتهِ السياسية.
رمز ثقافي
يعتبر الموريتاني الخيمة رمزاً ثقافياً يحمل مدلولاتِ رؤيته البدوية إلى العالم، أكثرَ من كونها مجرّد حاضنة، لذلك انتقلت مع المجتمع إلى المدينة عندما نقل معه إرثه البدوي.
ويرى الباحث السوسيولوجي أحمد ولد معاذ أن "الخيمة رمز ثقافي لتلاشي الحدود في فضاء الصحراء الشاسع، حيث الأشياء مجرد ذراتٍ متناثرة، لا حاجزَ بينها"، مضيفاً "الخيمة رمزٌ للانفتاح على الآخر، ما دامت تسعُ جميع القادمين، ولا تنغلق أمام أحد (دلالة غياب الأبوابِ من الخيمة)، هذه السمة الثقافية انتقلت مع هذا المجتمع المفتوح إلى المدينة حيث البيوت المغلقة في وجه الآخر، الشيء الذي لا ينسجم مع ثقافة المجتمع البدوي".
مسرح مفتوح
ويسرد الباحث أحمد مولود أيده الهلال، مدير مختبر التاريخ والتراث الموريتاني في كلية الآداب والعلوم الإنسانية لجامعة نواكشوط، قصة الرئيس الموريتاني السابق إعلي ولد محمد فال، التي تُظهر دلالة الخيمة في الثقافة الموريتانية. إذ يقول إن "الرئيس الموريتاني إعلي ولد محمد فال، وفي غمرة الخلاف بين الفرقاء السياسيين بعد الانقلاب الذي قاده ولد محمد فال عام 2005، قدّم دعوة إلى هؤلاء السياسيين لشرب شاي موريتاني تحت خيمة، للبحث في القضايا العالقة بينهم. فالخيمة تسع الجميع، ويمكن دخولها من مختلف الجهات".
وفي محاولة منه لتأصيل ظاهرة شيوع الاطلاع على نشاطات المرشحين خلال الحملات الدعائية، من متفرّجين عابرين وغير منتمين سياسياً إلى صاحب الحملة، يرى الباحث معاذ، أن "أسباب هذه العفوية تعود إلى أسباب عدة أبرزها ثقافة التسامح السائدة في المجتمع، من خلال التركيز على الخيم المفتوحة أمام الجهات الأربع".
حنين للأصل
لازم الحنين إلى الخيمة وجدان الموريتانيين، فأشهر مبنى في المدينة، يُسمى مبنى "الخيمة"، ويظهر الحضور الطاغي للخيَم في العمران الموريتاني الحديث، لذلك لجأ الموريتانيون إلى الخيمة مرة أخرى، وشُكلت الخيام الإسمنتية لكنها لم تنجح في الإحلال مكان الخيمة التقليدية التي تتوافر فيها ميزات، خفّة الحمل وسهولة البناء وإمكان النقل المستمر.
ولا يكاد يخلو بيتٌ في العاصمة الموريتانية نواكشوط من خيمة منصوبةٍ أمام الحدائق، فهي منقذٌ أبديّ للموريتاني من تقلّبات الطقس الدائم.
ماركة موريتانية
ويفتخرُ الموريتاني بعلاقتهِ الوطيدةِ بالخيمةِ ويعتبرها ماركةً مسجلةً باسمه. ويرى الدكتور الباحث أحمد مولود أيده الهلال، أن "الخيمة أكثرُ ثقافة الموريتانيين رسوخاً من تحوّلهم من حياة البداوة والترحال إلى حياة المدينة". ويضيف الهلال "ليس فقط من الناحية المادية، وإنما لأن للخيمةَ لدى الرُحّل أيضاً رمزية، ففوضوية الخيمة تتماشى مع ثقافة الموريتانيين التي يطلق عليها ثقافة أهل الخيام".
والخيمة باقية في الثقافة الموريتانية خصوصاً أن البيوت الحالية في موريتانيا لا تراعي الخصوصيّة المناخية للبلد المتمّثل في البعدِ الصحراوي.
بقاء مهدد
يخشى كثيرونَ من كبارِ السنّ في موريتانيا من "تلاشي ثقافةِ الخيَم في المجتمع، فهي تواجه تهديداتٍ ثقافيةً وتجاريةً، باعتبار أنها مهدّدة بفعل تنامي ظاهرة التمدنِ التي تكتسح المجتمع، كما أنها تتعرّض لحملة تشويه بسبب انتشار الخيم الصينيةِ في الأسواقِ الموريتانية التي تُصنع من البلاستيك بدل القماش".
مصدر فخر
وعلى الرغم من التحديات التي تواجه ثقافة الخيمة، لا تزال الخيم حاضرةً في نمطِ حياة الموريتانيين كثابت حضاريّ مميزٍ للهوية الوطنية.
ويُعدّد الهلال الحالاتِ التي يلجأ فيها الموريتانيّ إلى نصب الخيمِ، قائلاً "نستحضر الخيمة عندما نريد استحضار جانب من جوانب ثقافتنا كالخيمة والجمل والنخلِ، فالخيمة لا تزال أحدَ أكثرِ جوانب تراثنا الماديّ بقاءً، وبقيت وظائفها كذلك، ومن الجميل في تاريخنا المعاصر أن القمة العربية التي استضافتها موريتانيا عام 2016 نُظّمت تحت خيمة، فهذه الخيمة التي لا تزال تقوم بوظائفها، قادرةٌ على استيعابِ عددٍ كبيرٍ من الناسِ في وقتٍ واحدٍ، هي هويتنا البدوية، في الحفلاتِ واستقبالِ الضيوف الأجانبِ في المناسبات كافة".