بعد نحو عقدين بعيداً من الأضواء، سواء من قبل الحكومة العراقية أو المنظمات الدولية، كشف لقاء بين رئيسة بعثة الأمم المتحدة "يونامي"، جينين بلاسخارت، والسفير الفرنسي لدى العراق، مع ممثلي المجتمع اليهودي داخل آخر كنيس يهودي في العاصمة بغداد، النقاب عن ملف يهود العراق المهاجرين وممتلكاتهم التي خلفوها وراءهم قبل سنوات طويلة.
الإعلان المفاجئ عن زيارة بلاسخارات للكنيس برفقة السفير الفرنسي، مثل أول اهتمام دولي بملف اليهود العراقيين بعد غياب طويل عن المؤتمرات ووسائل الإعلام، باستثناء بعض التقارير التي صدرت عقب سقوط نظام صدام حسين، والحديث عن هجرة بعض اليهود إلى إسرائيل عقب الحرب، أو فيما يخص تبعية ممتلكاتهم المنتشرة في مناطق عدة من البلاد.
المجتمع اليهودي
وذكرت بعثة الأمم المتحدة في العراق، في تغريدة لها على "تويتر"، أن الممثلة الأممية الخاصة، جينين هينيس بلاسخارت، والسفير الفرنسي، أجريا زيارة لآخر كنيس يهودي مفتوح في بغداد، مشيرة إلى أن "بلاسخارت والسفير الفرنسي التقيا ممثلي المجتمع اليهودي". وأضافت أن "عديداً من المواقع الثقافية الدينية المنتشرة على هذه الأرض العريقة شهادة على تراث العراق المتنوع"، معتبرة إياه "كنزاً يجب الحفاظ عليه والاعتزاز به".
ويوجد عدد من اليهود العراقيين في العراق على الرغم من تهجير الآلاف منهم في منتصف القرن الماضي، ويعمل عدد منهم في وظائف حكومية. وفي مارس (آذار) 2021 توفى واحد من هؤلاء اليهود، وهو الجراح ظافر فؤاد إلياهو، طبيب جراحة العظام في مستشفى الواسطي ببغداد. ولم يكن الجمهور العراقي يعرف ديانة الطبيب الحقيقية، الذي كان يلقب بالسيد، وهو لقب اجتماعي ديني عراقي يمنح للذين يعتقد بأنهم يتحدرون من سلالة النبي محمد.
وخرجت الغالبية العظمى من يهود العراق من البلاد في 1941، بعد تعرضهم لما يعرف محلياً بالـ"فرهود"، وهي هجمات جماعية طالت اليهود العراقيين وممتلكاتهم، وأجبرت الآلاف منهم على الرحيل من البلاد إلى دول أخرى. وتمت هذه العملية بتشجيع من بعض القوميين العراقيين، احتجاجاً في حينها على بدايات تأسيس دولة إسرائيل.
أربعة أشخاص
قال الباحث المتخصص بشؤون الأقليات في العراق، سعد سلوم، أن عدد يهود العراق لا يتجاوز أربعة أشخاص، وبذلك فإن وزنهم الديموغرافي هش وينظر إليهم في البلاد باعتبارهم طائفة في طريقها للانقراض". وأضاف سلوم أن التراث اليهودي في العراق يعد غنياً، إذ يتجاوز 2600 سنة، وهو جزء من تنوع المجتمع العراقي"، مشيراً إلى وجود عدد من الأضرحة المقدسة لليهود في البلاد، منها في منطقة يونا بالموصل، ودانيال في كركوك، وحزقيال في بابل، والعزير في ميسان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت إلى أن السياسة الرسمية في العراق اتجهت لطي صفحة اليهود، ودلائل ذلك عدم ذكرها في الدستور العراقي ضمن الأديان المعترف بها رسمياً في المادة الثانية، الفقرة الثانية، من الدستور العراقي، مبيناً أن الطائفة اليهودية من الطوائف المعترف بها رسمياً وفق قانون الطوائف الدينية لعام 1981. وتنص الفقرة الثانية من المادة الثانية من الدستور العراقي على أن "يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والإيزديين والصابئة والمندائيين". وأوضح سلوم أن قانون الجنسية لعام 2006 منع استعادة اليهود الجنسية العراقية واستثناهم من جميع الفئات التي فقدت جنسيتها لأسباب سياسية أو تمييزية.
زيارة بروتوكولية
من جانبه، قال مدير مركز العراق للدراسات الاستراتيجية، غازي فيصل، إن زيارة ممثلة الأمم المتحدة بالعراق برفقة السفير الفرنسي "بروتوكولية" للتعرف على أوضاع اليهود بالعراق الذين ما زالوا يرفضون الهجرة إلى إسرائيل ويعتزون بعراقهم ويتمتعون بالحقوق الدستورية والقانونية فيه"، مبيناً أن "الكنيس اليهودي تقام به الصلاة، والمفترض أن يكون برعاية الدولة".
ولفت فيصل إلى أن الزيارة جاءت للتشديد على احترام التعددية الدينية والوجود اليهودي، وتأكيد رعاية البعثة الدولية في العراق والدول الأوروبية لليهود العراقيين، مشيراً إلى عدم وجود مشاكل مع اليهود الموجودين في البلاد. وبين أن تاريخ اليهود بالعراق يرجع إلى زمن نبوخذ نصر والغزو البابلي لفلسطين وأسر اليهود في تلك الفترة وجلبهم إلى العراق، حيث شكلوا وقتها قوة اجتماعية في العمل، حتى إن وزير المالية إبان الحكم الملكي بقيادة ساساون حسقيل كان من الديانة اليهودية.
وتابع أن "هناك اتهامات للحركة الصهيونية بترهيب اليهود لدفعهم إلى الهجرة من العراق، وبعدها تم إسقاط الجنسية عنهم"، لافتاً إلى أن عهد الرئيس الراحل عبد الكريم قاسم شهد وجوداً يهودياً، واستقبل في حينها حاخاماً يهودياً، لكن مع التوترات السياسية بالعراق وتعاقب الأنظمة بقيت أقلية قليلة بالعراق.
خطوة مهمة
بدوره، قال الصحافي العراقي، باسم الشرع، إن زيارة بلاسخارت للكنيس اليهودي أعادت ملف يهود العراق إلى الأضواء من جديد، بعد أن ظل مهملاً سنوات طويلة. وبين الشرع أن هذا الملف الحساس كان من الصعب الحديث عنه من قبل المنظمة الدولية والجهات الداعمة للتجربة الديمقراطية بالعراق، لولا النضوج السياسي لدى شريحة واسعة من الساسة والنخب العراقية تجاه حقوق يهود العراق واستعادة ممتلكاتهم.
وأضاف الشرع أن قوى بارزة ليس لديها مانع بعودة أحفاد اليهود العراقيين الذين هاجروا في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، بشرط ألا يكونوا من إسرائيل أو يحملوا الجنسية الإسرائيلية، مبيناً أن هذا الأمر نفذ على أرض الواقع، عندما زار نائب رئيس المؤتمر اليهودي في أوروبا، أدمون شكر، وهو من أصل عراقي، العاصمة بغداد بموافقة الحكومة العراقية قبل ثلاث سنوات، وتجول في مقبرة اليهود والكنيس الوحيد المتبقي لهم.
وأوضح الشرع أن هذه الزيارة قد تفتح مستقبلاً جديداً إذا كانت هناك نية جدّية من قبل المجتمع الدولي في فتح الأبواب أمام اليهود العراقيين لاسترجاع أموالهم وعقاراتهم التي لا تزال مجمدة منذ أربعينييات وخمسينيات القرن الماضي، ومنعت جميع الحكومات العراقية حتى بعد 2003 أي جهة من تحويل ملكيتها أو مصادرتها.