تحولت مخاوف الشارع الليبي من العودة إلى كابوس الانقسام إلى واقع ملموس، بعد أن وصلت الخلافات بين الجناحين السياسي والعسكري في شرق البلاد، مع حكومة الوحدة بقيادة عبد الحميد الدبيبة، إلى نفق مسدود، وأوشكت أن تؤدي إلى قطيعة جديدة مع الجزء الغربي من البلاد.
كل ما سبق عبر عنه بيان مفاجئ لممثلي الجيش الليبي في بنغازي، في اللجنة العسكرية المشتركة، إذ أعلنوا تعليق مشاركتهم في أعمالها، احتجاجاً على ما وصفوه بـ"ممارسات الدبيبة" التي تخالف الاتفاق السياسي. وكان الجزء الأكثر إثارة للاهتمام والجدل في البيان، الدعوة إلى إقفال الطريق الساحلي بين غرب البلاد وشرقها، وإغلاق حقول وموانئ النفط في الطرف الشرقي، التي تنتج ما يعادل ثلثي الإنتاج الإجمالي للبلاد من النفط، ما اعتُبر عودةً حقيقيةً إلى نقطة الصفر، وناقوسَ خطر حقيقياً بشأن وحدة التراب الليبي.
بيان مفاجئ
أعلن ممثلو القيادة العامة للجيش الليبي في بنغازي باللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، السبت، تعليق جميع أعمال اللجنة إلى حين النظر في مطالب أعلنوها في بيان مصور، مطالبين القائد العام للقوات المسلحة، المشير خليفة حفتر، بإيقاف تصدير النفط، وإغلاق الطريق الساحلي، ووقف تسيير الرحلات الجوية بين شرق ليبيا وغربها.
وطالب البيان بـ"إيقاف جميع أوجه التعاون مع حكومة الدبيبة ومكوناتها". وأكد أن "أعمال اللجنة ستبقى معلقة إلى حين تحقيق مطالبها". وحذر ممثلو الجيش من "انقسام سياسي سيؤدي إلى انهيار اقتصادي واجتماعي وأمني في ليبيا". واتهموا في بيانهم "رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، بالعمل على النهب الممنهج وغير المسبوق لأموال الليبيين، ونكث تعهده بعدم الترشح للانتخابات، والعمل على عرقلتها بحجج واهية".
بيان العسكريين الذين يمثلون شرق ليبيا في اللجنة العسكرية، انتقد "ممارسات وتصرفات رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، التي تجعله يتحمل مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية بالبلاد وعودة الانقسام السياسي، بسبب عدم انصياعه لقرارات البرلمان وتسليمه السلطة لحكومة الاستقرار المكلفة برئاسة فتحي باشاغا".
وأشاروا إلى أن "الدبيبة قام بخرق اتفاق وقف إطلاق النار، عبر إيقاف مرتبات منتسبي الجيش لمدة 4 أشهر، مقابل صرف أموال طائلة للميليشيات المسلحة لتأمين حمايته وعرقلة عمل اللجنة، ما يشكل خطراً جسيماً على الأمن القومي للبلاد".
النفط يواصل التدفق
فور صدور البيان الذي أثار جدلاً واسعاً في ليبيا، انتشرت إشاعات حول تنفيذ الجيش مطالب ممثليه في اللجنة العسكرية المشتركة بإيقاف تصدير النفط من الموانئ والحقول التي يسيطر عليها، وهو ما سارع الجيش إلى نفيه على لسان الناطق باسمه، أحمد المسماري، الذي فنّد الأنباء المتداولة بشأن إصدار القيادة العامة للجيش والحكومة المكلفة من مجلس النواب، برئاسة فتحي باشاغا، تعليمات بالبدء في الإغلاق التدريجي لكل الموانئ والحقول النفطية وأنابيب الغاز في ليبيا. ووصف المسماري، في بيان مقتضب، هذه الأخبار بأنها "مزورة لا أساس لها من الصحة".
وتشكلت اللجنة العسكرية الليبية المشتركة بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين الأطراف الليبية، في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، الذي اعتبر حينها نقطة فارقة في الأزمة الليبية، إذ فتح الباب أمام استكمال مسارات الحوار السياسية الأخرى، وصولاً إلى الاتفاق على خريطة طريق تنتهي بانتخابات عامة في 24 ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، وتشكيل سلطة تنفيذية موحدة، قبل تعثر تنفيذ العملية الانتخابية وتوسع الخلافات بين حكومة الوحدة والبرلمان، التي تسببت في إقدام الأخير على إقالتها وتشكيل حكومة جديدة برئاسة وزير الداخلية السابق، فتحي باشاغا، في بداية العام الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبدأت ملامح الانقسام السياسي تظهر مجدداً في البلاد، مع رفض رئيس الوزراء المقال تسليم السلطة لباشاغا، ما ترك أثراً واضحاً على تنفيذ جميع الاتفاقات المعلقة بين الأفرقاء السياسيين، ومن بينها استكمال خطط اللجنة العسكرية لإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، وتجميد العمل بالاتفاقيات العسكرية الخاصة بالتدريب في الداخل الليبي، إضافة إلى توحيد المؤسسة العسكرية وحل الميليشيات.
وكانت اللجنة نجحت خلال بداية عملها في إنجاز بنود كثيرة ومهمة في اتفاق وقف إطلاق النار، ومن بينها فتح الطريق الساحلي الذي يربط مدن الساحل الليبي في غرب البلاد وشرقها، إضافة إلى تشكيل الغرفة الأمنية التي تتولى مهمة تأمين طرق التماس وتسهيلها عمليات الإفراج عن محتجزين، فضلاً عن التقدم في ملف توحيد حرس منشآت المؤسسات النفطية.
ووسط الجدل الكبير الذي أثاره بيان ممثلي الشرق الليبي في اللجنة العسكرية المشتركة، يترقب الجميع تحرك البعثة الأممية في ليبيا لحماية الاتفاقين السياسي والعسكري، اللذين رعتهما وأشرفت عليهما قبل عامين من الانهيار التام، ما يهدد بتأزُّم الموقفين السياسي والعسكري.
وكانت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، ستيفاني وليامز، قد حذرت، نهاية مارس (آذار) الماضي، من إدخال اللجنة العسكرية المشتركة في خضم الخلافات السياسية الحاصلة في البلاد، وطالبت بالحفاظ على التقدم المحرز في المسار الأمني. وتحاول وليامز منذ عدة أسابيع إعادة مجلسي النواب في طبرق والدولة في طرابلس إلى طاولة المفاوضات، لحل الخلافات التي ثارت بينهما أخيراً حول الملف الدستوري وتغيير السلطة التنفيذية.
آراء متباينة
وتباينت آراء المهتمين بالشأن السياسي في ليبيا، حول ما ورد في بيان أعضاء الجيش باللجنة العسكرية المشتركة، مع اتفاق الجميع على خطورة هذا التطور والموقف بشكل عام في البلاد. وحمّلت عضو مجلس النواب، السيدة اليعقوبي، رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، مسؤولية تدهور الأوضاع في البلاد، قائلةً إنه "بعد أن أفشل عمل لجنة الحوار، وعطل اللجنة الاقتصادية، ها هي لجنة (5+5) تعلق عملها بسبب الفشل السياسي للحكومة، فإلى أين سيصل بنا رئيس الوزراء؟ وإلى متى سيبقى الحال على ما هو عليه؟".
أما المرشح للانتخابات الرئاسية، سليمان البيوضي، فلمّح إلى أن الخيار الذي اتخذه ممثلو الشرق الليبي في اللجنة العسكرية قد يكون خاطئاً، ويزيد من تعقيد الأزمة، لكن "لا يوجد عاقل واحد يمكنه أن يدافع عن رئيس حكومة الدبيبة بشكل مطلق، خصوصاً فيما يتعلق بإفشاله إجراء الانتخابات، وتدفق الأموال، ونكوصه عن اتفاقات عديدة كان ملزماً بالإيفاء بها، غير أنه لا يمكن السير أيضاً خلف خصومه دون تفكير"، مشيراً إلى أن "فرض إرادة الأفراد المضارين من سياسة الدبيبة يمثل استهانة بالجميع، وعدم إدراك لمخاطر التورط في التدافع المحلي والدولي بسبب تيار منحسر ومأزوم".
ورأى البيوضي أن "الحل السلمي الآمن هو الذهاب لصناديق الاقتراع، بحيث يقرر الليبيون بإرادتهم الحرة من يمثلهم في إدارة الدولة، وأية خطوات تخالف ذلك ستقود إلى كارثة محققة". وحذر البيوضي من أن "الأروقة الدولية تشهد حراكاً سياسياً لا تخطئه البصيرة، وبموجبه سيزداد التدخل الدولي، وستشهد البلاد وصول قوات أجنبية تنفذ مشروع وصاية وتقسيم علني لمناطق النفوذ والثروات الليبية، وستتحول كل الأطراف إلى خدم في مشروع احتلال ليبيا".