تعد ورقة الاقتصاد واحدة من أهم الأوراق التي يطرحها الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته، إيمانويل ماكرون، في وجه منافسيه، على أمل إقناع الناخبين بمنحه خمسة أعوام رئاسية أخرى، للمضي قدماً في إصلاحاته لإعادة تشكيل ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، والسابع عالمياً. النمو الاقتصادي لفرنسا وصل، العام الماضي، إلى أعلى مستوى له في أكثر من نصف قرن عند 7 في المئة، إضافة إلى ذلك، انخفضت البطالة إلى أدنى مستوى لها في 10 سنوات. وتأهل الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون ومنافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان إلى خوض الجولة الثانية الحاسمة من الانتخابات الرئاسية في 24 أبريل (نيسان) الحالي بعد حصولهما على أعلى الأصوات في الجولة الأولى التي أجريت أمس الأحد.
لكن شعبية ماكرون تراجعت لأسباب عدة، منها دخوله المتأخر إلى الحملة الانتخابية، إذ لم يعقد سوى تجمع انتخابي واحد كبير، الأمر الذي اعتبره أنصاره أيضاً مخيباً للآمال، وتركيزه على خطة لا تحظى بالشعبية لزيادة سن التقاعد، إلى جانب الارتفاع الحاد في التضخم. في المقابل، أجرت لوبان، المنتمية لليمين المتطرف، والمتشككة في الاتحاد الأوروبي، والمناهضة للهجرة، جولة في فرنسا لتعزيز موقفها من خلال التركيز المستمر منذ أشهر على تكاليف المعيشة، والتراجع الكبير في الدعم لمنافسها في اليمين المتطرف، إيريك زيمور.
الأسعار التحدي الأكبر
قضية زيادة الأسعار سيطرت على الحملات الانتخابية للمرشحين مع تزايد الشكوى من ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل حاد، لا سيما فواتير الطاقة وسلال المشتريات، وباتت القوة الشرائية للمواطن الفرنسي القضية الحاسمة في الانتخابات الرئاسية، وفق استطلاع رأي نشر أخيراً. ولا يزال الخطر الرئيس على الاقتصاد هو التضخم، الذي ارتفع إلى 4.5 في المئة، مارس (آذار) الماضي، وفقاً لتقديرات المعهد الوطني للإحصاء، مقارنة مع 3.6 في المئة في فبراير (شباط). والسبب الرئيس في ذلك هو الارتفاع في أسعار الطاقة بنسبة 28.9 في المئة على أساس سنوي، ما قد يؤثر في القدرة الشرائية للمستهلكين.
لكن ماكرون وأنصاره يذكّرون الناخبين بأن فرنسا لا تقف وحيدة، أو تبدو كحالة استثنائية في تلك المشكلة، بل على العكس، فأوضاعها ومستوى الأسعار لديها أفضل بكثير من جيرانها الأوروبيين، وحتى على الضفة الأخرى من الأطلسي. فبينما تعاني الولايات المتحدة وبريطانيا وجزء كبير من دول الاتحاد الأوروبي أزمة غلاء المعيشة التي تفاقمت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، فإن الوضع يبدو مختلفاً في فرنسا، إذ لا تزال معدلات التضخم أقل بكثير من تلك التي لوحظت في البلدان الأوروبية الأخرى في مارس، لا سيما ألمانيا التي سجلت 7.6 في المئة، وإسبانيا 9.8 في المئة، وبلجيكا 8.3 في المئة، و11.9 في المئة في هولندا، وأقل بكثير من 6.2 في المئة في المملكة المتحدة
تفسر هذا الاختلاف التدابير التي وضعتها الحكومة الفرنسية للحد بقوة من الزيادة في أسعار الطاقة، بالتالي الحد من ارتفاع التضخم. وقدر المعهد الوطني للإحصاء والمعلومات، في فبراير، أن هذه التدابير سمحت بتضخم أقل بمقدار 1.5 نقطة مئوية. ومن المرجح أن يكون التأثير مشابهاً لشهر مارس وما بعده.
زيادة الدين العام
يبرز زيادة الدين العام في فرنسا واحدة من السمات السلبية لفترة حكم ماكرون، بعد أن سجل ارتفاعاً من أقل 100 في المئة من الناتج المحلى للبلاد إلى مستوى قياسي عند 115 في المئة خلال عامين فقط في أعقاب الإنفاق الحكومي الهائل والتخفيضات الضريبية التي صاحبت فترة تفشي جائحة كورونا. قبل أن يبدأ في الانخفاض بشكل طفيف، العام الماضي، ليصل إلى 112.9 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي، في حين تقلص العجز العام بشكل طفيف إلى 6.5 في المئة، بحسب المعهد الوطني للإحصاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي العام الماضي، ارتفع الدين إلى 114.6 في المئة، وبلغت نسبة العجز 8.9 في المئة، وهي مستويات قياسية، وفقاً للأرقام المنقحة التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء. وعلى الرغم من أن انتعاش الاقتصاد في 2021 سمح ببدء التحسن في المالية العامة، فإن الدين زاد من حيث القيمة المطلقة بما يقرب من 165 مليار يورو (176 مليار دولار)، إلى 2813.1 مليار يورو (حوالى 3 مليارات دولار)، في حين بلغ العجز العام 160.9 مليار يورو (170 مليار دولار)، مقابل 205.5 مليار يورو (219.2 مليار دولار) في نهاية 2020.
أعلى مستوى للاقتصاد
تعافى الاقتصاد الفرنسي بشكل أسرع من المتوقع منذ أزمة فيروس كورونا، إذ عاد معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا بحلول الربع الرابع من العام الماضي إلى ما كان عليه قبل تفشي وباء كورونا، ووفق أحدث بيانات رسمية صدرت في يناير (كانون الثاني) الماضي، وصل النمو الاقتصادي العام الماضي إلى أعلى مستوى له في 52 عاماً عند 7 في المئة، على أثر الركود التاريخي غير المسبوق الذي عرفه في 2020 بسبب الجائحة وبلغ 8 في المئة، بحسب أرقام المعهد الوطني للإحصاء. وتعود آخر مرة كان فيها أداء الاقتصاد الفرنسي أفضل إلى 1969، بعد الأزمة التي سببتها حركة مايو (أيار) 1968.
وتخطى أداء الاقتصاد الفرنسي توقعات المعهد الوطني للإحصاء وبنك فرنسا اللذين كانا يتوقعان نمواً بنسبة 6.7 في المئة للعام الماضي. بينما تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي بـ3.5 في المئة فقط هذا العام، لكن ذلك لا ينفي قناعة المحللين بأن الاقتصاد الفرنسي يعد واحداً من أكثر الاقتصادات ديناميكية في أوروبا.
انخفاض البطالة لأدنى معدل
إضافة إلى ذلك، سجلت سوق العمل الفرنسية أداءً استثنائياً، فحالياً يعمل عدد أكبر من الأشخاص في فرنسا مقارنة مع الوضع قبل الوباء، إذ انخفضت البطالة إلى أدنى مستوى لها في 10 سنوات، وتراجع معدلها في فرنسا إلى 7.4 في المئة في الربع الأخير من العام الماضي، وهو مستوى لم تشهد له البلاد مثيلاً منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، ما يعطي مؤشراً على أن إصلاحات ماكرون، التي قوبلت حينها برفض شعبي عبر مسيرات وتظاهرات عنيفة في قلب العاصمة باريس وعديد من المدن الأخرى، قد آتت أكلها.
ومنذ وصوله إلى السلطة في 2017، دفع ماكرون (وهو مصرفي استثماري ووزير اقتصاد سابق) بسلسلة من الإصلاحات، منها تغيير قوانين العمل، بحيث يحق للشركات التخلص من فائض العمالة، وعلى الرغم من أن ذلك كان له كلفة اجتماعية ملحوظة، فإنه أضفى حيوية على سوق العمل، وخلال العام الماضي تم إنشاء ما يقرب من مليون شركة في فرنسا.
ومن أبرز تلك الإصلاحات أيضاً تقليص إعانات البطالة، وخفض ضريبة الشركات من 33.3 إلى 25 في المئة فقط، وهو أول تخفيض منذ 1993. ومن المقرر أن يرتفع الحد الأدنى للأجور في بداية مايو المقبل إلى حوالى 1300 يورو (1430 دولاراً) شهرياً بعد الضريبة.