عندما يكون الحديث عن الأمن القومي السوداني وحماية الحدود، لا يكون على السودانيين إلا الاعتراف ببسالة وشجاعة جيشهم، فهنا تحظى مؤسسة الجيش بمكانة مميزة وثقة على المستويين المجتمعي والسياسي، بالإضافة إلى ذكريات مواقف ومعارك ومواجهات سابقة. وحافظت مؤسسة الجيش على مكانتها من طبيعة الانتساب إليها والترقي في هرميتها من دون شروط إثنية أو سياسية أو جهوية. ومن جهة أخرى، ينظر إلى الجيش كونه مؤسس الدولة الوطنية.
وعلى الرغم مما لحق بالجيش في عهد النظام السابق من استغلاله كأداة، وتوسع دوره لارتباطه خلال ثلاثة عقود بالنظام الحاكم السابق، فإنه حافظ على مستوى الثقة النابعة من الشرعية التاريخية وطبيعته الشعبية، والصورة الذهنية والفكرة المتجذرة لدى السودانيين بأن الخدمة في الجيش تمنح مكانة اجتماعية خاصة. واضطر النظام السابق إلى تأسيس أجسام موازية للجيش هي "ميليشيا الدفاع الشعبي" التابعة للحركة الإسلامية، وذلك إبان الحرب الأهلية في جنوب السودان، ثم "الأمن الشعبي" الذي كانت له أدوار قمعية سياسياً ومجتمعياً.
ولكن لا يبدو أن هذه الصورة الزاهية شاملة لمهمات الجيش كلها، إذ إن نداء الشارع الثائر الحالي هو "الجيش للثكنات" بعدما دفعته أحداث الثورة السودانية إلى أن يكون في دائرة الضوء، ثم إن محاولة حصره ضمن مهماته الأساسية وإبعاده عن السياسة أتت بعد الاتفاق على الحكومة الانتقالية منذ ثلاث سنوات، التي تشكلت بينه وبين المكون المدني، شريكه في الحكم. وطرأ التحول باتجاه رفض انخراط الجيش في السياسة يوماً بعد يوم، نظراً إلى الاعتقاد السائد بأن المؤسسة العسكرية تبحث عن خلافة محتملة للرئيس السابق عمر البشير، فيما يعتقد العسكر بأن ذلك نتيجة للضيق بهم ورفضاً للشراكة معهم، لأن الطرف الآخر يريد احتكار السلطة.
ولاعتقاده أنه المنقذ والمخلص، فمن الصعب توقع أن يتنازل المكون العسكري عن السلطة بانتهاء الفترة الانتقالية في عام 2023 مثلما وعد رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، وذلك لترسخ الاعتقاد بعدم وجود من يصلح للحكم خلال هذه الفترة الانتقالية. وأسهم في ذلك فشل المكون المدني بقيادة "قوى إعلان الحرية والتغيير"، وانقسامها وصراعها على المناصب والمواقع التنفيذية.
مبددات الثقة
وبرز انخفاض الثقة بالجيش في الوعي الثقافي السوداني على مستويات، ولعوامل عدة، العامل الأول، بدأ الجيش متعاوناً في أيام الثورة الأولى، ولكن بعد فض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو (حزيران) 2019، وعدم الوصول إلى الجناة الحقيقيين، وضع الجيش على لائحة الاشتباه، إن لم يكن بالمشاركة، فبتقاعسه عن حماية المدنيين وإنقاذهم من تلك الأحداث، ما خلق إحساساً بالتضارب في الأوامر التي يتلقونها وقلة التنسيق، وعدم الفهم للمهمات والأهداف. وهكذا نشأت فجوة ثقة بين الشعب والجيش، جعلت السودانيين الذين كانوا يثنون على وقفة الجيش معهم، وأنه في خدمتهم أو حمايتهم، بأنه بات مستعداً للإضرار بهم.
أما العامل الثاني لانخفاض الثقة، فيرجع إلى إجراءات 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التي فرضها الفريق عبد الفتاح البرهان وتعطيله الوثيقة الدستورية، التي وضعت الجيش مرة أخرى في خانة احتكار السلطة، فقابلها السودانيون بالتعبير عن الغضب والخذلان. أما العامل الثالث، فهو زيادة الوعي السياسي وفهم التطورات المتعلقة بقيام الانقلابات وتغيير النظام وقمع الاحتجاجات، ما أسهم في استفادة السودانيين من التجارب المريرة التي حكم خلالها العسكر ثلاث مرات، الأولى في عهد الفريق إبراهيم عبود إلى حين سقوطه بثورة شعبية في أكتوبر 1964، والثانية في عهد جعفر النميري الذي سقط أيضاً بانتفاضة 6 أبريل (نيسان) 1985، والثالثة في عهد عمر البشير الذي حكم نحو ثلاثة عقود حتى سقوطه إثر قيام ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. كل ذلك من شأنه تبديد ثقة السودانيين بالعسكر، كونه يلغي أي شراكة محتملة بينهم وبين المدنيين ما لم يتم التوافق على مطالب رفعتها "قوى إعلان الحرية والتغيير"، وشروط وضعها البرهان للالتزام بها أو التقاء الطرفين في منطقة وسطى.
هذه التطورات المتزامنة تسهم بشكل ما في تبديد الثقة بالجيش، ولكن نظراً إلى تآكل الثقة في المؤسسات السياسية الأخرى، فقد يكون هناك مجال للمفاضلة بينها.
ارتباط تاريخي
لم تستطع الأحزاب السياسية السودانية تغيير النظرة الراسخة إليها بوصفها أحزاب مهادنة للسلطة في النظم العسكرية الثلاثة السابقة، وهناك ارتباط تاريخي بين الجيش والأحزاب، مثل ارتباطه بحزب الأمة في عهد الفريق عبود، وارتباطه بالحزب الشيوعي في عهد النميري، وارتباطه بالجبهة الإسلامية في عهد البشير. والمثال البارز هنا هو أن "التجمع الوطني الديمقراطي" المكون من مجموعة من الأحزاب السودانية، الذي شكل في أعقاب انقلاب عام 1989، ومارس عليه النظام الجديد حينها تنكيلاً وملاحقة في "بيوت الأشباح"، ما اضطره إلى الانتقال للمعارضة انطلاقاً من عواصم عدة بالخارج، عاد بعد نحو عقدين إلى مشاركة البشير في السلطة.
وخلق هذا السلوك السياسي خلال مسيرة الأحزاب التاريخية رفضاً مجتمعياً لها، فبينما تنادي بالتمثيل الديمقراطي، والمشاركة الاجتماعية في السياسة، تمارسها من خلال أسهل الطرق، كرديفة للسلطة العسكرية. كما تضاءلت الثقة بها خلال الفترة الانتقالية وتسنم بعض الأحزاب المنضوية تحت "قوى إعلان الحرية والتغيير" مواقع تنفيذية في حكومتي عبد الله حمدوك الأولى والثانية، نتيجة شبهات حول النزاهة والكفاءة والاستجابة لمطالب المواطنين.
وللرأي العام السلبي تجاه الأحزاب السياسية، خصوصاً تلك التي شاركت النظام السابق في "حكومة الوفاق الوطني"، تأثير كبير في سمعتها السياسية باعتبارها أحزاباً وصولية تنتظر تكرار التجربة مع السلطة العسكرية الحالية ولكن بصلاحيات أوسع، لتعويض مشاركتها المحدودة في عهد البشير. وينظر الرأي العام إليها بوصفها امتداداً لنظام البشير وتجسيداً مؤسسياً للفساد، قفزت من مركب النظام السابق بعد قيام الثورة، وادعت كلها أنها كانت تعمل على إسقاط النظام من الداخل.
كما أن هناك شرخاً في التكوين الحزبي أحدثته من جهة النزعة الطائفية المسيطرة على الحزبين الكبيرين، "الأمة"، و"الحزب الاتحادي الديمقراطي"، ومن جهة أخرى أحدثته النزعة الأيديولوجية المسيطرة على الحزب الشيوعي، وحزب البعث، والحركة الإسلامية بشقيها "المؤتمر الوطني" و"المؤتمر الشعبي". أما بقية الأحزاب فهي إما تابعة لهذا أو ذاك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
امتيازات الجيش
مكن النظام السابق أفراد الجيش من الحصول على امتيازات لم تتحقق لهم من قبل، فأنشأ شركات الجيش ومجمعات صناعية عسكرية، وأصبح أصحاب الرتب العسكرية العليا بغالبيتهم يمتلكون أعمالاً واستثمارات خاصة. وشملت الصلاحيات بالإضافة إلى الامتيازات الاقتصادية، مثل تراخيص الاستيراد والتصدير والجمارك، قطاعات أخرى مثل الطيران المدني. كما سيطر الجيش على الشرطة والأمن والمخابرات.
ولكن أخيراً تمكنت قوى النظام من مؤسسة الأمن المنتمية للحركة الإسلامية بالكامل، فأحدثت انشقاقات أدت مع العوامل الأخرى إلى إضعاف النظام ثم إسقاطه.
قد لا يقلص الحكم المدني الامتيازات العسكرية ولكن يمكنه تقليص نفقات وميزانية الجيش في غير مهماته، وتحويل موروثات الحكم العسكري إلى مؤسسات تابعة للدولة وليس للنظام الحاكم، بما يضمن عدم صعود النظام على ظهر الجيش مرة أخرى.
استعجل المكون المدني هذه الخطوة قبل الانتخابات والتحول إلى حكومة مدنية، ما عده الجيش انتهاكاً من قبل السياسيين وخلق شعوراً متزايداً بتهديده، وأدى ذلك إلى ردة فعل تمثلت في إجراءات 25 أكتوبر. وكشف ذلك عن حقيقة صعوبة تحول النظام الذي يرأسه العسكر، إلى حكومة ديمقراطية مرتقبة، وأظهر إشكالية تدخل الجيش في العملية السياسية، ووضع سيناريو لوعود العسكر بتسليم البلاد إلى حكومة مدنية بعد انقضاء الفترة الانتقالية ثم تأجيل ذلك، إلى حين حدوث انقلاب آخر.
وعلى الرغم من أهمية الموارد للجيش للبقاء في السلطة، فإن العلاقة بين ميزانية الجيش واستيلائه على السلطة ليست قاعدة ثابتة، فهناك انقلابات تحصل بسبب تهميش الجيش وضعف المرتبات، والتمييز السلبي. وهناك صعود للجيش يكون متأثراً بالبيئة الإقليمية سواء بالاستعداد الدائم للحرب، والمهددات على الحدود مثلما يحدث الآن على الحدود السودانية - الإثيوبية، أو نتيجة للدعم السياسي واللوجيستي الخارجي باعتبار الجيش البديل الأنسب لحفظ استقرار البلاد وبالتالي استقرار المنطقة.
متطلبات الثقة
كي لا تتآكل الثقة بصورة أعمق في المؤسسة العسكرية، يجب تجسيد الحدود المؤسسية للجيش في أدواره المعروفة من دون تهميش واستبعاد، أو إمكانية للتسلط على المؤسسات الأخرى بفرض نفسه سياسياً منافساً للأحزاب، لأنه يقع في مرتبة مختلفة. وتعد المحافظة على مكانته وقدراته، أحد أركان الدولة القوية ومن سمات الدولة الحديثة. ثم المحافظة على مهنية الجيش والتركيز على تحقيق السلام والاستقرار، وهذا يحتاج إلى جسر الهوة بين المدنيين والعسكريين. وكذلك الإسراع بكشف الحقائق عن المتسببين بمقتل المتظاهرين وأحداث فض اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة.
في المقابل، يبدي العسكر حرصهم على قيام الانتخابات وصولاً إلى حكومة مدنية، لأن المسؤولية الآن أصبحت مضاعفة على المكون العسكري، كونه شارك في الحكومة خلال السنوات الثلاث الماضية، أو منفرداً في هذه المرحلة، فهو مسؤول عن تعطيل الوثيقة الدستورية، وقيام مفوضية الانتخابات، وإجراء تعديلات دستورية وقانونية على النظام العدلي بما يضمن تحقيق الحريات والعدالة وقيام دولة القانون.
وعلى الرغم من الجفاء الناشئ بين العسكر والمدنيين، في السلطة أو على المستوى الشعبي، فإن تمسك الجيش بالدعم الشعبي الذي يصوره مثالاً للقيادة والانضباط، يمكن أن يؤثر من ناحية أخرى في استتباب الأمن، فيمكن أن يكون ذراعاً مساندة إلى جانب الشرطة في إنهاء التفلتات الأمنية، وإشاعة الأمن المجتمعي والسياسي، وحفظ حق المواطنين في التعبير، لتحقيق تسوية سلمية، والعبور نحو الديمقراطية.
وفي ظل الاستقطاب السياسي الذي تشهده البلاد وفقاً للولاءات الحزبية، فإن قومية الجيش السوداني قد تكسبه مزيداً من الدعم حتى لو كان ذلك لدواعي الأمن أو لملء الفراغ السياسي، ومع ذلك فإنه سيظل في موضع الشك، إلى حين الوصول إلى حكومة مدنية.