ارتفاع معدلات استهلاك مهدئات الأعصاب ومضادات الاكتئاب في دول معينة ليس بالأمر المستجد، خصوصاً في تلك الدول التي يمكن الحصول فيها على هذا النوع من الأدوية من دون وصفة طبية. إنما بعد جائحة كورونا، تبدل المشهد تماماً وارتفعت معدلات الاضطرابات النفسية في مختلف أنحاء العالم بسبب ظروف العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة الناتج عن ذلك والخوف من الوباء ومن الموت. كلها عوامل أسهمت في ارتفاع ملحوظ في الأرقام.
بحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، معدلات الاكتئاب والقلق المرضي حول العالم سجلت ارتفاعاً بنسبة 25 في المئة في العام الأول من انتشار الوباء، خصوصاً بين النساء والشباب، فيما تظهر أرقام منظمة الصحة العالمية أن أكثر من 300 مليون شخص حوال العالم يعاني من الاكتئاب الذي يعتبر من الاضطرابات الشائعة في العالم. وقد استمرت هذه الأرقام في الارتفاع حكماً في الفترات اللاحقة في ظل انتشار الوباء. ويترافق هذا الارتفاع في معدلات الاضطرابات النفسية حكماً، مع زيادة ملحوظة في معدلات استهلاك مضادات الاكتئاب ومهدئات الأعصاب من دون وصفة طبية، ومن دون استشارة طبيب، بشكل خاص في تلك الدول التي لا تُلزم وجود وصفة طبية لاقتنائها.
في لبنان مثلاً، مع انتشار وباء كورونا وأيضاً في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد والوضع المعيشي الخانق والضغوطات النفسية التي يتحملها المواطن، ارتفعت معدلات استهلاك مهدئات الأعصاب بأكثر من 20 في المئة مقارنة مع عام 2015، فلجأ المواطن إلى هذا النوع من الأدوية بهدف التعاطي مع الواقع الأليم. بالنسبة إلى المواطن اللبناني تحولت مهدئات الأعصاب إلى مسكنات تنسيه ولو مؤقتاً الألم فيلجأ إليها سواء كانت المشكلات النفسية التي يعانيها مستجدة وطارئة أو كانت مزمنة. تركيا ومصر من الدول التي يمكن فيها أيضاً الحصول على مهدئات الأعصاب من دون وصفة طبية، فيما تعتبر الوصفة الطبية ضرورية في الدول الأوروبية، وفي الولايات المتحدة، وفي الخليج وثمة تشدد في هذا المجال. في ظل الاستهلاك الواسع لهذا النوع من الأدوية، سواء بوصفة طبية أم لا، السؤال المطروح هو ما إذا كانت حقاً فعالة طبياً في معالجة هذه الاضطرابات النفسية أو الحالات العصبية أم أن أثرها الإيجابي ليس إلا وهماً لمن يتمسك بها؟
مهدئات الأعصاب... فاعلية ومخاطر
وفق ما يؤكده طبيب الأمراض النفسية في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، فريد طليع، يعاني معظم الناس حالة القلق المرضي التي تسبب التوتر وتسارع دقات القلب وضيق النفس والأرق وغيرها من الأعراض التي تؤثر على نمط حياتهم بدرجات متفاوتة، بسبب الضغوطات النفسية وظروف الحياة المختلفة. أما الهدف من لجوئهم إلى هذه الأدوية، أياً كانت الأسباب وراء الحالة التي يعانون منها، فهو السيطرة على الأعراض المزعجة والتخلص منها بغض النظر ما إذا كانت تعالج المشكلة أم لا؟ أما بالنسبة إلى مضادات الاكتئاب فيتناولها البعض لمعالجة التقلبات المزاجية أو لأسباب أخرى، فتوصف كعلاجات ويظهر أثرها الإيجابي على الحالة خلال شهرين أو 3 أشهر من البروتوكول العلاجي.
ويضيف، "تبرز خطورة هذه الأدوية في حال تناولها من دون استشارة طبية لما لها من مضاعفات ومن تضارب مع أدوية أخرى يمكن أن يتناولها الشخص في الوقت نفسه. كما يظهر خطر التعرض لنزيف وسيلان حاد في الدم لدى البعض، إضافة إلى كونها قد تخفض معدلات الأملاح في الجسم في حال تناولها من دون مراقبة طبية. ولها أيضاً تداعيات سلبية واضحة على من يعانون الاضطراب ثنائي القطب حيث يكون ردة الفعل قوية جداً لدى تناولها لمواجهة الشعور بالكآبة والإحباط من دون إشراف طبي واستراتيجية علاجية مدروسة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين الأثر السريع والإدمان
لا بد من التمييز بين مهدئات الأعصاب ومضادات الاكتئاب، حيث لكل منها دواعي استعمال وفاعلية وآثار سلبية مختلفة أيضاً. تعمل مضادات الاكتئاب على رفع مستويات "السيروتونين" (هي أحد الناقلات العصبية وتلعب دوراً مهماً في تنظيم مزاج الإنسان) ويتطلب ظهور أثرها فترة لا تقل عن 3 أسابيع. أما في حال وقفها بشكل مفاجئ فتظهر أعراض كالتوتر الحاد والرجفة. كما قد تسبب الضعف الجنسي وزيادة الوزن وتسارع في دقات القلب، ومنها ما يؤدي إلى قلة التركيز والتعب.
أما مهدئات الأعصاب، فيؤكد الدكتور طليع أن أثرها مباشر وسريع على الأعراض وهذا ما يبحث عنه الناس. فهم يريدون الحل الأبسط والأسرع. إلا أنها في المقابل لا تساعد أبداً على معالجة المشكلة النفسية أو العصبية الأساسية المسببة لهذه الأعراض المزعجة التي تؤثر على نمط الحياة. بل يمكن القول، إنها لا تنفع إلا في إخفاء الحالة بالسيطرة على أعراضها، فتبقى المشكلة موجودة ولو بشكل خفي طالما أن الشخص يعتمد على الأدوية. والأسوأ أنه كون مهدئات الأعصاب تسيطر على الأعراض، يشعر الشخص بالحاجة إلى تناولها باستمرار ويستحيل عليه وقفها، وإلا فتعود حالته إلى ما كانت عليه ويزول مفعولها سريعاً مع أعراض أكثر حدة من توتر وقلق شديد. لذلك يحصل نوع من الإدمان السريع عليها خلال أسابيع وتصبح الحالة عندها أكثر صعوبة.
في المقابل لا ينطبق ذلك على مضادات الاكتئاب كونها لا تؤدي إلى حالة إدمان، حيث يتطلب ظهور أثرها المزيد من الوقت. لكن يجب عدم وقفها أبداً بشكل مفاجئ لأن في ذلك خطراً. انطلاقاً من ذلك، يؤكد الدكتور طليع ضرورة أن يصف الطبيب وحده الدواء، فلا يمكن تناوله عشوائياً ولا حتى بناء على استشارة صيدلي. ويشير إلى أنه بات هناك المزيد من التشدد في لبنان في الصيدليات بنسبة 90 في المئة منها في إعطاء مهدئات الأعصاب للمواطنين من دون وصفة طبيب.
ثمة حاجة ملحة إلى خطة علاجية يضعها الطبيب في وصف مهدئات الأعصاب أو مضادات الاكتئاب مع علاج نفسي في كثير من الأحيان لمعالجة الاضطرابات النفسية أو أي مشكلات أخرى، وإلا فلا تكون لها فاعلية في مواجهة هذه الحالات، ولا تنجح إلا في إخفائها بشكل مؤقت وفي تهدئة الأعراض. ومن هذه الأدوية ما له آثار جانبية خطيرة للمدى القريب أو البعيد في حال تناولها عشوائياً ومنها ما لا يكون له علاج في حال التهاون. فمن الضروري تناول هذه الأدوية بطريقة استراتيجية مدروسة للاستفادة من فاعليتها، وإلا فتسبب خللاً في الحالة وتؤدي إلى زيادة الوضع سوءاً.
وفي لبنان بشكل خاص، ونظراً لقلة الانفتاح في مجال الصحة النفسية تكمن المشكلة في أن كثيرين يتناولون هذه الأدوية بناء على نصيحة صديق أو قريب بطريقة عشوائية ما أسهم في انتشارها أكثر فأكثر، لو لم تأت الأزمة الاقتصادية بشق إيجابي عبر الحد من استهلاكها بشكل أو بآخر، إما بسبب انقطاعها أو بسبب ارتفاع ثمنها ما منع كثيراً من المواطنين من الاستمرار في استهلاكها بهذه السهولة، كما في السابق. في كل الحالات، تبقى الحاجة ملحة إلى تثقيف الناس حول الصحة النفسية وضرورة الانفتاح بشأنها والامتناع عن تناول مضادات الاكتئاب ومهدئات الأعصاب عشوائياً ومن دون استشارة طبيب.