ثلاثة أمور تبدو في القراءة الأولى كأنها بداية النهاية للعولمة: نهاية الأحادية الأميركية، جائحة كورونا، وحرب أوكرانيا. وهي من المفترض أن تقود إلى مزيد من العولمة. لكن صناعة التاريخ التي هي عملياً "هندسة" المستقبل ليست دائماً قصة تخطيط وبحث عن الخير العام للبشرية بمقدار ما يحركها صراع المصالح الثابتة والمتغيرة. ولا ما ينطبق على حركة الأحداث في الخط التاريخي هو كون الخط المستقيم أقصر مسافة بين نقطتين. فالانعزال التام، مهما يكن أي بلد قوياً وغنياً، يؤدي في النهاية إلى التخلف والانحدار. والانفتاح الكامل، من دون قاعدة صلبة في الداخل، يقود إلى التخلي عن الهوية الوطنية والثقافة المتجذرة في شخصية البلد. والرابح هو القادر على إدارة المعادلة الدقيقة بين الانعزال والانفتاح. والبقية خاسرون.
ذلك أن العولمة مرت بأكثر من طبعة في التاريخ قبل أن تظهر الولايات المتحدة الأميركية إلى الوجود كدولة. لكن الطبعة الأخيرة من العولمة ارتبطت في الأذهان بالأحادية الأميركية على قمة العالم بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، وهيمنة الرأسمال المالي والشركات الأميركية الكبرى على الاقتصاد والتجارة في الكون. كانت القوى اليسارية والقوى الوطنية في العالم الثالث هي المنتقد الأعلى صوتاً للعولمة. ومقابل الرمز الليبرالي للعولمة في مؤتمر "دافوس" جرى تنظيم الرمز الاجتماعي في مؤتمر في إحدى مدن البرازيل. حتى في الولايات المتحدة، فإن سلبيات العولمة دفعت الرئيس بيل كلينتون إلى الحديث عن "عولمة ذات وجه إنساني". وفي السنوات الماضية، ارتفع الصراخ ضد العولمة في الولايات المتحدة نفسها، من طرف الطبقة العاملة البيضاء التي خسرت وظائفها بسبب نقل الشركات مصانعها إلى العالم الثالث، حيث الأجور منخفضة، والمزارعين في الريف الذين خسروا أمام الإنتاج الأوروبي المدعوم. وأما حارس العولمة اليوم، فإنه الصين التي يحكمها حزب شيوعي يدير الاقتصاد الثاني في العالم، ويرصد تريليون دولار لمشروع "الحزام والطريق". وهي كانت قبل ألف سنة رائدة طبعة من العولمة عبر "طريق الحرير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جائحة كورونا التي ضربت العالم كله كشفت أنانية الدول الغنية التي احتفظت لنفسها بالنسبة الأكبر من اللقاحات، وتركت للدول الفقيرة القليل من اللقاحات وكثيراً من الإصابات والوفيات. وهذا ما أيقظ الناس على ازدواجية السياسات في العولمة: عولمة الوباء وقومية المعالجة. حرب أوكرانيا أظهرت انقسام العالم إلى محورين، وكشفت خرافتين: خرافة التسليم بنهاية الحروب الكبيرة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وخرافة التصور أن العالم "قرية كونية" بلا حدود مفتوحة على حرية التجارة وقوانين "منظمة التجارة العالمية". فما فعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا وتدميرها دفع العالم إلى العودة من "إجازة من الذاكرة" ومعاينة صور جديدة للأمور الرهيبة التي رأتها أوروبا على يد هتلر. وما فعله الغرب هو إنزال أقسى العقوبات الاقتصادية بروسيا وتحذير أي دولة من فرض عقوبات عليها إذا ما تعاملت مع موسكو.
لكن من الوهم الهرب إلى عالم لم يعد قائماً. فالعولمة مسار لا قرار. مسار فرضته التطورات وثورة التكنولوجيا والمعلومات، وليس قرار قيادات في مفاوضات. فمن السهل على روسيا اللجوء إلى المكابرة كما تفعل اليوم، والإدعاء بأن العقوبات تقوّيها وتدفعها إلى مزيد من الاعتماد على النفس. إذ في مؤتمر "نادي فالداي" الروسي للحوار قبل حرب أوكرانيا، اقترح وزير الخارجية المخضرم سيرغي لافروف "وقف التواصل مع الغرب لمدة رداً على مقاومته للحاجة إلى تحول عميق"، فقيل له: "لن يكون لدى روسيا ما تأكله إذا ما أوقفت تصدير موارد الطاقة". ومن السهل على أوروبا ممارسة المكابرة والبحث عن بدائل من استيراد الغاز والنفط والقمح من روسيا. لكن هذا مجرد تمرين في العبث. فكل السيناريوهات حول مرحلة ما بعد كورونا اصطدمت بدخول العالم في الواقع "حقبة جديدة من الرأسمالية الاحتكارية" بحسب البروفيسورة غريس بلايكلي. وكل التصورات حول مرحلة ما بعد الحرب في أوكرانيا التقت عند نقطة واحدة: البحث عن نظام عالمي جديد. نظام سماه تقرير "نادي فالداي" سلفاً "انسجام الاعتدال". لماذا؟ لأن هذا يحل مشكلة القوى العظمى التي تبحث دائماً عن الهيمنة، حيث "لم تعد الهيمنة ممكنة ولم يعد السعي إليها عقلانياً" كما قال البروفيسور جون ميرشايمر.