الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، إنه الموعد المخصص ليجهز نزار نفسه، مستعداً للنزول إلى "حارات غزة" القديمة، حيث تتزين الطرق والأزقة بعمارة أثرية تجعلها أشبه بالحارات السورية الشامية، وفيها ينطلق في رحلة قرع الطبول.
نزار، مسحراتي سوري يعمل في المهنة منذ 40 عاماً، قضى منها نحو 30 سنة يتجول خلالها بين حارات الشام، وبعد وصوله إلى القطاع أكمل مسيرته في قرع الطبول لإيقاظ الناس خلال ليالي شهر رمضان. يقول "منذ وصولي إلى غزة، قررت أن أعمل مسحراتي في الحارات، ولبست لباس أهل الشام والطربوش الأحمر وبدأت بإيقاظ الناس للسحور".
"حنين" وصلت من سوريا إلى غزة
كل ليلة، يحضن نزار "حنين" بين إبطه، يغازلها ويسامرها دائماً، ويقبلها أحياناً، فحبه لها يفوق حدود العشق، فهي الوحيدة التي ما زالت ترافقه، ووصلت معه إلى قطاع غزة.
"حنين"، هو الاسم الذي أطلقه نزار على طبلته الصغيرة، التي جلبها معه من سوريا، يقول المسحراتي "رافقتني منذ 35 سنة، وسافرت معي مدناً كثيرة، لذلك أعتبرها رفيقة درب الحياة، ومصدر السعادة للناس، سميتها حنين لأنني كلما نظرت إليها أحن إلى أيام عملي مسحراتي في بلاد الشام".
أمام المرآة يقضي نزار نحو ساعة يومياً، خلالها يتحول من رجل فلسطيني إلى آخر سوري، "دخيل عينك، شفتلك شي قمباز هناك" يقول نزار الذي بدأ يتزين قبل أن ينطلق في رحلته، يبدل الرجل ملابسه إلى سروال طويل، ويضع على رأسه طربوشاً أحمر، وعلى كتفيه الشماخ السوري (يعرف بالشال أو اللفحة) ذا اللونين الأبيض والأسود.
يتجول في الشوارع القديمة
وما أن يتجهز، ينتقل مسرعاً إلى حارات غزة القديمة، يختار نزار العمل كمسحراتي بين تلك الشوارع الأثرية التي تظهر في عمارتها وكأنها في حارات سوريا، يضيف "عندما أنزل إلى شوارع غزة القديمة، وأتجول فيها أدق على الطبلة، وأنادي باللهجة السورية، أشعر وكأنني في سوريا، وأحن إلى تلك الأيام التي كنت فيها مسحراتياً في شارع العشاق في حمص".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما يتجول نزار في الشوارع المضيئة بالفوانيس، ويضرب على طبلته "حنين" بعود خشبي صغير، ينادي باللهجة السورية الأصيلة، يوضح أنه يقوم بإيقاظ سكان حارات غزة للسحور من خلال الشعارات السورية التي تجذب الانتباه.
عبارات سورية يسحر بها نزار
يحرص نزار أثناء عمله على نقل التراث السوري لينشره في شهر رمضان داخل أزقة غزة، ومن بين العبارات التي يرددها "يا نايم وحد الدايم، قوموا على سحوركم قوموا، سبح بحمد الله العمر مو دايم".
وأيضاً "اصحوا يا عباد الله، قوموا على سحوركم، إجا رمضان يزوركم، وحدوه يا عباد الله، يا نايم بلا غلبة، متمدد مثل الخشبة، النوم الكثير ما بنفع، على البرغوت معاني، نط وعشعش بأذاني، عفرت جاب ولاد أخته، ولاد أخته للشجعاني، اثنين بطبلوا بلطباق، اثنين بزمروا بالمزمار، رقصوني الشيالة، استغفر الله ما بكذب، كل عام وأنتم بخير، ويلا اصحوا".
هذه العبارات التي تعد غريبة على اللهجة الفلسطينية، كما زيه الذي يرتديه، والإيقاعات التي ينسجها عندما يضرب على طبلته تجعل من نزار شخصية محبوبة وقريبة من الأطفال الذين يتجمعون حوله دائماً يرافقونه في رحلته كمسحراتي يتجول بين بيوتهم، يقول إنه يشعر دائماً إن أجواء من الحماسة والفرح والمرح لدى المواطنين عندما يصل منطقتهم ينادي بالسورية عليهم.
وعلى الرغم من أن المسحراتي فقد دوره الموضوعي في ظل تطور الحياة العصرية، مع ظهور تطبيقات أيام الإفطار والسحور والإمساكية وغيرها من الوسائل التكنولوجية، إلا أن المسحراتي لم يغب عن الشوارع في غزة في تقليد إحياء الطقوس والتقاليد الرمضانية.
ويؤكد نزار أن صوت الطبلة في شهر رمضان له متعة مختلفة عن بقية الأشهر، فمنذ الصغر، ونحن ننتظر قدوم المسحراتي بفارغ الصبر لنفتح النوافذ ونشاهده عن قرب، كطقس من طقوس وجبة السحور في هذا الشهر، لافتاً أنه ما زال يتوقف أمام كل منزل يمر به لإيقاظ الناس للسحور.
وعلى الرغم من السعادة التي ينشرها نزار، إلا أنه يشعر بشيء من النقص، إذ ما زال يحن إلى حارات بلاده سوريا، ويتمنى العودة إلى شوارع دمشق، ليسحر برفقة أطفاله وأبنائه الذين يتمنون أن يدخلوا بلاد الشام.