يجد الواحد نفسه دوماً مُضطرّاً للتقديم بأن أي رأي يطرحه ضد التشدد والتبعية الدينية للعمائم واللحى السياسية وتسليم العقول، لا يقصد به الدين ولا الطائفة، لكن ثقافة الإرهاب الفكري والديني التي نعيشها تفرض على الواحد مثل هذا التقديم قبل أن يقول الواحد منا رأيه. فالطائفيون من الطائفة "أ" سيرونك طائفياً من الطائفة "ب"، والطائفيون من "ب" يرون أن رأيك في تشددهم وغلوائهم دافعه الطائفية التي تحركهم، ويحسبونها تحركك مثلهم تماماً.
دُعاة الحرية والكرامة الإنسانية يرفعون دوماً شعار التحرر من التبعية السياسية العمياء التي يقودها أصحاب اللحى والعمائم السياسية. وهذه القيادات الدينية - السياسية لا يمكن لها أن تسود في حال التمرد الفكري الحر الذي يرفض الانصياع لتوجيهاتها في الحياة الدنيوية الآنية، ولا يمكن لها أن تتسيّد في ظل التساؤلات والاعتزاز بالعقل وحرية التفكير، فأتباعهم مطالبون بتسليم عقولهم لهم دونما تفكير، ومن يخالفهم مارق زنديق كافر مصيره الويل والثبور، وله في الدنيا خزي وفي الآخرة من الخاسرين. وهذه العلاقة الفوقية بين التابع والمتبوع لم تكن محصورة بين أتباع دين بعينه، ولكن ما يعنينا أنها سائدة بيننا بملايين من الأتباع الذين يؤمنون بالتبعية السياسية لدُعاة الخلافة أو دُعاة الولاية. فالأول يقوده "الإخوان المسلمون" بمرشدهم وتفسيراتهم المسلحة لما يجب أن تكون عليه الخلافة على طريقة "القاعدة" و"داعش"، والثاني يقوده أتباع الإمام بتفرعاتهم من "أحزاب الله" التي تدين بالولاء لإيران ولقيادة الخامنئي في طهران، وتنادي بولاية الفقيه.
تعرّض ولا يزال يتعرّض الشيعة لاضطهاد مزدوج: أنظمة طائفية تميز بينهم في بلدانهم، وإرهاب فكري ودموي من أبناء طائفتهم الذين يدفعونهم للخنوع والتبعية لولاية الفقيه.
القوانين المدنية التي تنادي بمساواة المواطنين من دون التمييز بينهم على أساس مذاهبهم، تضعف الولائيين بين أبناء الطائفة الشيعية، وبقاء قوانين التفرقة هي المنبع الذي لا ينضب لدُعاة ولاية الفقيه والانصياع لأوامره ونواهيه السياسية، وهي المحرك الأول "للطمية" على المستضعفين وحقوقهم، وآل البيت وأتباعهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شاهدت خلال فترة شهر لقاءين تلفزيونيين لمواطنين خليجيين "شيعيين"*: طبيب وأستاذ جامعي كويتي - الدكتور سليمان الخضاري، وباحث وإعلامي سعودي يحمل شهادة في علم الأحياء - الأستاذ حسن المصطفى. اللقاءان كانا صورة من صور "الصحوة الشيعية" ضد التبعية للخارج، وتوثيقاً تاريخياً لتيار يتعزز داخل الطائفة الشيعية العربية والخليجية منها بالذات. كان الضيفان صوتاً مدنياً عاقلاً وحراً يرفض أن يُجُرّ لمعارك غيره، ويكسر قيود العيش في الماضي، ويرفض أن يتوقف التاريخ عند الجَمَل وصفين وكربلاء، ويرفض أن يكون مذهب أو محبة آل البيت سلعة في سوق نخاسة السياسة - يتاجر به الساسة لمصالحهم ومصالح إيران تحديداً على حساب أوطانهم وشعوبهم واستقرار بلدانهم.
لم يكتشف الشيعة وطنيتهم فجأةً، فهي راسخة رسوخ مذهبهم، لكن الصحوة الشيعية تزامنت مع صحوة مدنية قانونية في دول الخليج - وبالمملكة العربية السعودية خصوصاً، تعزز المواطنة بالتشريع الذي يساوي بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم، والدليل أن الضيفين ظهرا على قناتين تلفزيونيتين سعوديتين ليؤكدا للمشاهد ما هو مؤكد: نحن مواطنون بدولنا ننشد التمتع بحقوقنا والالتزام بواجباتنا القانونية سواسيةً مع أبناء وطننا، والفزعة والمساندة الحقيقية لنا لا تكون إلا بتعزيز دولة القانون المدنية التي تمنع خطاب الكراهية، وتثبت الحقوق المدنية لكافة المواطنين، وكفى.
وعلى الرغم من الإرهاب الفكري الذي يواجهه الصحويون الشيعة، وعلى الرغم من التهديد والوعيد الذي يتعرضون له داخل طوائفهم، فإننا نشهد صحوة شيعية عربية تنادي بالتمرد على القيود الفكرية وتحطيم أقفالها، والتفكير خارج زنازينها نحو آفاق الوطن والعقل الرحبة التي لا تعرف حدوداً، ولا تقبل هلوسات وخزعبلات عمائم السياسة وقصصهم المُضحكة المُبكية، ولا تخضع لولاية عقل إنسان آخر يلبس العمامة أو الصليب أو غيره من مظاهر الكهنوت السياسي، وشعارها:
"بالقانون: هيهات منّا الذلة".
*(استخدمت شيعيين هنا للاستدلال المعرفي وليس للتصنيف الطائفي)