ليس ما يدور في الميدان هو كل ما تفعله الحروب. ولا حسابات الدمار والضحايا سوى جزء من حسابات المتحاربين على رقعة الشطرنج الجيوسياسية. فالفعل في الحروب يقود، قبل أن يكتمل، إلى ما تحدثه ردود الفعل من تبدل في مواقف الدول القريبة والبعيدة، وأقله الشعور بالحاجة إلى مزيد من التسلح والبحث عن شراء الأسلحة التي بدت فعالة في المعارك. ولا أحد يعرف حالياً متى وكيف وإلى ماذا تنتهي حرب أوكرانيا. لا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بدأ الحرب، ولا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي يقود المواجهة. ولا الرئيس الأميركي جو بايدن ورؤساء الدول الأوروبية الذين فرضوا العقوبات على روسيا ويرسلون الأسلحة والمساعدات إلى أوكرانيا. لكن الكل يرى تبدّل الحسابات والمواقف الاستراتيجية للدول وتعاظم التركيز على أمرين: حلف "الناتو" والسلاح النووي.
ذلك أن المبررات التي استعملها بوتين لبدء الحرب تركزت على مخاطر تمدد "الناتو" إلى حدود روسيا، وضرورة منع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف، والحؤول دون سعيها لحيازة سلاح نووي. وفي طليعة المطالب التي أراد تحقيقها، حياد أوكرانيا على طريقة فنلندا والسويد، ونزع سلاحها واجتثاث "النازية الجديدة".
لكن العكس هو ما ظهر من خلال ردود الفعل حتى الآن. ما سميت "الفنلدة" وصلت إلى النهاية. وهي سماح موسكو لدول "الجوار القريب" بالاستقلال شرط أن تراعي سياسة روسيا ومصالحها بشكل كامل. وبدل أن تقبل كييف طلب بوتين أن تصبح "محايدة" مثل فنلندا والسويد، طلبت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين ورئيسة الوزراء السويدية ماغدانيا أندرسون تسريع العضوية في "الناتو" والانتقال من حال الشراكة إلى مرتبة العضو الكامل في الحلف. لماذا؟ لأن الهجوم الروسي على أوكرانيا كشف هشاشة الحياد، بحيث وافق في أحدث استطلاع للرأي 68 في المئة من الفنلنديين على دخول "الناتو". وتهديد موسكو بالرد على ذلك بنشر أسلحة نووية على الحدود مع فنلندا، بعدما أمر بوتين بوضع الأسلحة النووية لبلاده في حال تأهب وأوحى أنه يمكن أن يستخدمها في حرب أوكرانيا، قاد إلى مراجعة في عواصم عدة لمواقف سابقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كوريا الجنوبية التي تخلت عن برنامجها النووي مقابل ضمانات الحماية الأميركية أيد 71 في المئة من مواطنيها التسلح النووي لمواجهة كوريا الشمالية التي صارت نووية. أوكرانيا ندمت على التخلي عن سلاحها النووي بموجب "مذكرة بودابست" عام 1994 مقابل ضمانات روسية. سياسة الحد من الانتشار النووي التي يمارسها الكبار لم تمنع كوريا الشمالية والهند وباكستان وقبلها إسرائيل من حيازة سلاح نووي. وهي تبدو اليوم عاجزة عن منع إيران من أن تصبح نووية باتفاق أو من دون اتفاق. والاقتناع بأن الضمان الوحيد لحماية أي بلد من الغزو والضم هو أن يكون نووياً، سيقود إلى مزيد من الانتشار النووي والسباق نحو تعزيز قدرات الردع.
ولا مجال لخداع النفس بالرهان على السلام العالمي وأحلام "الحكومة العالمية". فنحن في عالم خطير يزداد خطورة. وحين جرى بعد نهاية الحرب الباردة والاتحاد السوفياتي حل "حلف وارسو" الذي أقامته موسكو لمواجهة "الناتو"، كان التصور أن الغرب سيحل "الناتو" لأن الظروف التي قادت إليه تبدلت. لكن ما حدث هو انضمام دول المعسكر الاشتراكي التي كانت في حلف وارسو إلى الحلف الأطلسي. وجرى تعزيز الحلف وتوسيع دوره، فلم يعد محصوراً في الميدان الأوروبي وحده. والشرق الأوسط يتجه نحو السباق النووي بعد عقود من الدعوات إلى جعله منطقة خالية من الأسلحة النووية. أليس بين الأفكار الشائعة حالياً مواجهة التغلغل الإيراني المتصاعد في أربع دول عربية وما يجره من مخاطر بإقامة "ناتو عربي"؟ وإذا أصبحت إيران نووية، فما الذي يحول دون أن يسعى أكثر من بلد عربي لحيازة سلاح نووي؟ الكل يعرف أن طموحات الهيمنة الإقليمية على العالم العربي أخطر من الأسلحة النووية التي يصعب استخدامها بين بلدان متجاورة.