على الرغم من اقتراب المعارك في أوكرانيا من دخول يومها الـ60، لا تزال وسائل الإعلام الروسية تصف ما يجري بأنه مجرد "عملية عسكرية خاصة" وممنوع عليها استخدام مفردة "الحرب" أو أي من مرادفاتها، ففي الرواية الروسية ما يحدث مجرد عملية عسكرية تقوم بها القوات الروسية من أجل "اجتثاث النازية" والقضاء على مخاطر عدة تشمل نجدة ملايين الروس المقيمين في أراضٍ كانت تخضع في يوم من الأيام للسيادة الروسية "وتهفو من أجل العودة إلى أحضان الوطن"، بحسب مزاعم الكرملين الذي وضع ضمن بنك أهدافه أيضاً نزع سلاح أوكرانيا بما في ذلك أسلحة دمار شامل بيولوجية وكيماوية.
في المقابل، تواصل وسائل الإعلام الأوكرانية شيطنة القيادات الروسية والمبالغة في تضخيم ما يتلقاه الجيش الروسي من خسائر وضربات يبدو معها الجيش الأوكراني كما لو كان منتصراً، بل وكشفت وسائل الإعلام أيضاً عن انتشار عدة مقاطع مزيفة للمعارك الدائرة على الأرض وفي الفضاء الإعلامي على حد سواء، ما جعل "الحقيقة" شبه غائبة عما تبثه وسائل الإعلام يومياً عن هذه الحرب.
ويرى مراقبون أن حالة "التضليل الإعلامي" وانتشار الأخبار الكاذبة والمشاهد "المفبركة" ليست وليدة المصادفة والمبالغات فقط، بل وراءها "حرب نفسية" مكتملة الأركان تجري إدارتها بعناية من أجل التأثير في نتائج المعارك على الأرض ومواقف الجميع وعلى رأسهم الطرفان المتحاربان، لتتأكد مجدداً المقولة البريطانية "عندما تعلَن الحرب، الحقيقة هي أول ضحية".
ومنذ بداية الحرب، تابع الملايين مشاهد مزيفة لما قيل أنه يجري في الميدان، وكان أشهرها نشر حساب رسمي للحكومة الأوكرانية مقطع لطيار مقاتل يُدعى "شبح كييف"، على "تويتر". وعلق الحساب بالقول "الناس يطلقون عليه لقب شبح كييف. وهم محقون في ذلك، تهيمن طائرته هذه على سماء عاصمتنا وبلدنا، وقد أصبحت بالفعل كابوساً للطائرات الروسية"، ليظهر للمتابعين لاحقاً أن الفيديو الدعائي يحتوي على لقطات من لعبة فيديو قيل إنها لـ "بطولات" هذا الطيار.
الحرب والعمليات النفسية
لا تتوقف المعارك الدائرة في أوكرانيا على المواجهات بين الجنود والآليات العسكرية، فالحرب التي انطلقت بالفعل مع بث وسائل الإعلام العالمية الأخبار المكثفة عن الحشود العسكرية الروسية الضخمة على حدود أوكرانيا، وما لذلك من تأثير نفسي على معنويات الخصم، قبل أن تُطلق أول رصاصة في الحرب، يوم 24 فبراير (شباط) الماضي، فقد أصبحت تلك الحرب نموذجاً للحروب النفسية التي تشارك فيها أطراف عدة بخلاف طرفَي النزاع، روسيا وأوكرانيا، فالأخيرة تساندها وسائل إعلام الدول الغربية وأجهزتها المسؤولة عن العمليات النفسية والدعاية والإشاعات، بينما يوجّه الكرملين ماكينة إعلامية ودعائية ضخمة، سبق أن ثبت أن لديها القدرة على توجيه آراء الناخبين في دول أخرى كما جرى في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016.
وتقدم الحرب النفسية إجابات كل طرف عن بعض الأسئلة المهمة مثل: مَن على حق في هذه الحرب؟ ومَن المسؤول عن التصعيد؟ ومَن هو المعتدي ومَن الضحية؟ وتؤثر الإجابات عن تلك الأسئلة في الرأي العام وكذلك على اعتبارات صنّاع القرار.
وتشير قراءات عدة للحرب إلى أن اعتماد الروس على أساليب الحرب النفسية له تأثير مهم في مجريات المعارك في الميدان، حيث تجنّب الروس دخول المدن الكبيرة، وركزوا بدايةً على استهداف شامل للمنشآت التي تجبر الحكومة الأوكرانية على الانهيار والاستسلام لتنصيب حكومة موالية لموسكو، وليس الاحتلال. كما أن ذلك يجنّب القوات الروسية مواجهة مقاومة شرسة وحرب عصابات تكبدها خسائر كبيرة في المدن، بعدما قيل للمقاتلين الروس أن ملايين الأوكرانيين من أصول روسية ينتظرون وصولهم بفارغ الصبر.
وفي سبيل ذلك، دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه الأول الجنود الأوكرانيين إلى "إلقاء السلاح والعودة إلى منازلهم آمنين"، وفي المقابل سخّرت الدول الغربية أيضاً وسائلها للحرب النفسية لدعم أوكرانيا والتأثير في الرأي العام العالمي والروسي تجاه "حرب بوتين".
وقال الكاتب الأميركي آلان كننغهام إن "العمليات النفسية الغربية ضد روسيا حققت أثراً مذهلاً في تعرض موسكو، ليس فقط لانتقادات واضحة على مستوى العالم، بل أيضاً تتعرض الحكومة الروسية إلى انتقادات داخلية شديدة"، موضحاً أن "الولايات المتحدة منخرطة في هذه الأنشطة ليس فقط في حرب المعلومات السرية، ولكن بشكل علني من خلال حديث ومناشدات وزير الخارجية أنطوني بلينكن والرئيس جو بايدن إلى المواطنين الروس، حيث تكررت عبارات في خطبه مثل "إلى مواطني روسيا... أنتم لستم أعداءنا. ولا أعتقد أنكم تريدون حرباً دموية ومدمرة ضد أوكرانيا، البلد والشعب الذين تتقاسمون معهم هذه الروابط العميقة من العائلة والتاريخ والثقافة".
وأوضح الكاتب في مقال له بموقع "مودرن دبلوماسي" أن الجانب الغربي استخدم ما يُعرف بـ"الدعاية الرمادية والبيضاء" والتي تشمل بثَ مضمون به جزء من الحقيقة، وليس الدعاية السوداء التي تعتمد على التشويه على الرغم من كونها أكثر فعالية، لكن يعيبها رد الفعل العكسي الذي تُحدثه عندما يتم دحضها وكشف أكاذيبها.
ويقول الكاتب المصري محمد أمين إنه "بالنظر إلى حقيقة الحرب غير المتكافئة بين الجانبين الروسي والأوكراني، استخدم الطرفان الكثير من أساليب الحرب النفسية للتأثير في سير المعارك، ومن بينها البروباغندا والدعاية السوداء ونشر الإشاعات والبيانات الرسمية التي استهدفت التأثير في الخصم، حيث أكدت كييف جاهزية جيشها واستعداد الشعب بأكمله للحرب لمواجهة الجيش الروسي، وأطلقت عبارات مثل "أهلاً بكم في الجحيم" من أجل التأثير في الروح المعنوية للجيش الروسي، ونشرت مشاهد للمتطوعين الأوكرانيين في مراكز التدريب وعملت على بث الثقة لدى الشعب الأوكراني، فضلاً عن نشر منصات مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد تدلل على فظائع وتجاوزات للقوات الروسية من أجل كسب الرأي العام العالمي". وأضاف أمين أن "أوكرانيا هدفت من الحرب النفسية، تعويض جزء من فارق القدرة العسكرية بين الجانبين، حيث تتفوق روسيا بطبيعة الحال".
غاية الحرب... اجتثاث النازية
في خطابه الأول لإعلان الحرب، حدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أهدافه المباشرة التي تتمثل في "نزع سلاح أوكرانيا وإزالة الطابع النازي عنها"، وهو ما كرره وزير الخارجية سيرغي لافروف، والمتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، الذي سبق أن أكد أن بلاده تخطط "لتحرير أوكرانيا من النازيين الجدد وأنصارهم وأيديولوجيتهم". وسبق ذلك ترويج وزارة الخارجية الروسية للتصويت الذي جرى في الأمم المتحدة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حين قدمت موسكو مشروع قرار يدين تمجيد النازية والنازية الجديدة، وجرى تبنيه بغالبية 121 صوتاً وامتناع 53 دولة عن التصويت على القرار الذي لم تعارضه سوى دولتين فقط هما أوكرانيا والولايات المتحدة.
الصحافي الروسي أليكسي كوفاليوف كتب هذا الأسبوع تحليلاً في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، أكد فيه خطورة تقديم الحرب للجمهور الروسي على أنها حرب على النازية في ضوء ما تحمله الفكرة من أثر في الثقافة الروسية التي تحمل عداءً شديداً للإرث النازي. ويقول الكاتب إن "فكرة أن الدولة تحارب النازيين مرة أخرى تمثل سلاحاً بلاغياً للدمار الشامل. إذ تستمد روسيا-بوتين الكثير من شرعيتها من زعم الانتصار الحاسم للاتحاد السوفياتي بالحرب العالمية الثانية في القرن العشرين. فقد حوّل النظام الاحتفال السنوي باستسلام ألمانيا النازية في عام 1945 إلى ما يشبه العطلة الدينية، كما أن مقارنة (الزعيم السوفياتي) جوزيف ستالين بأدولف هتلر تُعد الآن جريمة جنائية في روسيا. وهكذا، فإن الافتراء النازي ضد أوكرانيا الذي يتكرر باستمرار في وسائل الإعلام الروسية، أمر تم اختياره جيداً وجعل الحرب قضية حق مشروع بالنسبة للعديد من الروس. وكانت "هدية السماء" بالنسبة للدعاية الروسية أن أوكرانيا لديها بالفعل وحدة شبه عسكرية تحمل رموزاً وشارات تظهر تقارباً مع حركة استقلال أوكرانيا في حقبة الحرب العالمية الثانية وقادتها معادون للسامية ويكرهون روسيا. كما يحمل الجنود والمرتزقة الروس أيضاً رموزاً نازية، وعلى رأسهم ديمتري أوتكين، مؤسس مجموعة فاغنر الشهيرة". واعتبر الكاتب أن أخطر ما في هذه الدعاية أنها تعطي الجنود الروس ضميراً مرتاحاً لقتل المدنيين الأوكرانيين.
ويستعرض الكاتب أمثلة عدة لمقابلات متلفزة ومقالات رأي في وسائل إعلام يملكها أو يسيطر عليها الكرملين، بثت الدعاية حول التهديد النازي الذي تمثله أوكرانيا بما في ذلك المدنيين العاديين، مشيراً إلى أن هذا الخطاب الروسي يَعتبر أن "جزءاً كبيراً من الجماهير أو النازيين السلبيين، هم متواطئون مع النازية. ويجب تصفية النخب في أوكرانيا لأنه لا يمكن إعادة تثقيفها، ويجب أن يدفعوا ثمن جرائمهم". كما لفت إلى أن الكثير من ضيوف البرامج التي يتابعها ملايين الروس قالوا إن "فولوديمير زيلينسكي هو آخر رئيس لأوكرانيا، لأنه لن يكون هناك أي أوكرانيا بعد ذلك، وأنه يجب محو أسم أوكرانيا من الخريطة. باختصار، أصبح مصطلح "نزع النازية" عن أوكرانيا لا يعني سوى الإبادة" على حد وصفه.
وفي مقال بعنوان "النازية في أوكرانيا بين الأساطير والواقع"، يلقي المؤرخ الروسي أرتيوم كيربيتشينوك، الضوء على تاريخ أوكرانيا الحديث، موضحاً نشأة "منظمة القوميين الأوكرانيين" في عام 1929 خلال فترة ازدهار الحركات القومية والفاشية الراديكالية في أوروبا الشرقية وصعود تلك الحركات في إيطاليا وألمانيا، وهما بلدان يمثلان نموذجاً بالنسبة إلى سكان أوروبا الشرقية، مؤكداً في مقاله المنشور بمركز الدراسات العربية الأوراسية، أن النازية تمثل عاملاً مهماً في الحياة السياسية الأوكرانية، لكن لا يمكن وصفها بـ "ديكتاتورية نازية كاملة".
وأشار كيربيتشينوك إلى أن نقطة التحول في صعود الحركات النازية في أوكرانيا كانت عام 2014 حيث لعبت دوراً مهماً في إطاحة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وكان ضم أعضاء المنظمات اليمينية المتطرفة والنازية الجديدة إلى قوات الأمن الأوكرانية من الأمور الأكثر إثارة للقلق، بينما كانت "كتيبة آزوف" أسوأ تلك الوحدات سمعة. وعلى أي حال، يرى المؤرخ الروسي أن الكرملين لم يذكر الكيفية التي سيجتث بها النازية من أوكرانيا بعد انتهاء الأعمال العسكرية. وكل هذا يشير إلى أن قضية مكافحة النازية هي بالأحرى ذريعة لبدء الحرب، وأن الأسباب الحقيقية تكمن في التناقضات الجيوسياسية بين روسيا والغرب.
بدوره، قال الدبلوماسي الأوكراني روسلان نيشاي لـ"اندبندنت عربية" إن "القضاء على النازية في أوكرانيا هي الرواية الرئيسة التي يروّج لها الكرملين الآن، حيث تصف روسيا، حكومة أوكرانيا بالنازيين، وتصف قنوات التلفزيون الروسية الفيدرالية، جميع الأوكران الذين عارضوا الاحتلال والغزو الروسي بالنازيين". وأضاف، "تستخدم الدعاية الروسية هذا الوصف الراديكالي من أجل خلق واقع بديل، وتحويل تركيز الجماهير عن الحقائق القائمة وتحديداً عن حقيقة أن تأثير الأحزاب اليمينية في أوكرانيا يكاد لا يُذكر، وأن عدد الأصوات التي تحصل عليها هذه الأحزاب في الانتخابات لا تصل إلى 3 في المئة، وأنها لا تصل إلى البرلمان، وذلك على خلاف أن روسيا بها شخصيات نافذة في السلطة يؤيدون علناً وجهات النظر القومية المتطرفة، لكن وصف روسيا دولاً أخرى بالنازية لن يساعدها على إخفاء سياساتها المتطرفة على الصعيد الدولي، وأن تشوش على حقيقة أن بوتين هو رمز أحزاب وحركات اليمين المتطرف في الغرب".
في هذا السياق، تبدو اتهامات روسيا تجاه أوكرانيا بالنازية مثيرة للسخرية، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار سياسات أوكرانيا المتسامحة تجاه الأجانب والأقليات، فأوكرانيا مثلاً ترحب بالطلاب الأجانب وتمنحهم فرص الدراسة والعمل والجنسية الأوكرانية منذ زمن بعيد. أما أقليات أوكرانيا الأصلية، فإن تتار القرم هم أحد نماذجها. إنهم شعب من أصول تركية يسكن تاريخياً في الجنوب وفي شبه جزيرة القرم وعنده مؤسسة تمثيلية خاصة به اسمها مجلس تتار القرم. معظم تتار القرم مسلمون من السُنّة. في عام 2014، بعد أن احتلت روسيا القرم، نقل تتار القرم مجلسهم إلى كييف لأن روسيا حظرته والكثير منهم هاجروا من القرم إلى أوكرانيا القارية"، على حد قوله.
شيطنة "بوتين" وسخرية من "زيلينسكي"
كثيراً ما أعرب الكرملين عن ضيقه الشديد بما بات يُعرف بـ"بوتين فوبيا" أو شيطنة بوتين في وسائل الإعلام الغربية التي لم تتوقف طوال الحرب عن المبالغة في إظهار "أطماعه لإعادة أمجاد روسيا القيصرية"، وسعيه إلى قضم مزيد من الأراضي من دول الاتحاد السوفياتي السابق، وعلى رأسهم مولدوفا وبولندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وتصويره على غرار ما كان عليه الزعيم النازي أدولف هتلر. ووصف الرئيس الأميركي نظيره الروسي بأنه "مجرم حرب وجزار"، ورد الكرملين واعتبر ما قاله بايدن "كلام لا يُغتفر". وقال المتحدث باسم الكرملين تعقيباً على ذلك "نعتقد أن مثل هذا الكلام غير مقبول، ولا يُغتفر من جانب رئيس دولة قتلت قنابله مئات الآلاف من الناس في كل أنحاء العالم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول أمينة الدسوقي، الباحثة المختصة في الدراسات الإعلامية لـ"اندبندنت عربية"، إنه "بالتوازي مع الحرب الضارية التى تقع على أرض الواقع، هناك حرب أخرى تشنها كل من روسيا وأوكرانيا ضد بعضهما البعض، وهي حرب الإشاعات والتضليل الإعلامي، حيث نجد كلاهما يتداول معلومات تشوبها الأكاذيب، لكن بها جزء صغير من الحقيقة، إما بهدف ضرب الروح المعنوية للطرف الآخر، والمحافظة على الروح القتالية لدى الجنود، أو من أجل تبرير خطواتهم وتضخيم مكاسبهم، والطرفان استخدما أسلوب الحرب النفسية، بخاصة في ما يتعلق بشخصية الرئيسَين". وأضافت، "وسائل الإعلام الروسية لا تتوقف عن بث مقاطع تنسب البطولات والقدرات الخارقة للرئيس الروسي، وتمجّد قوته وسلطته وماضيه العسكري والاستخباراتي، في حين تقوم في الوقت ذاته بالسخرية من الرئيس الأوكراني وتشبيهه بالمهرج، والتركيز على ماضيه كممثل كوميدي وتقديمه كما لو كان السبب في ما وصلت إليه الأمور الآن، وأنه لم يجلب إلى بلاده سوى الهزيمة، في المقابل تظهر وسائل الإعلام الغربية والأوكرانية الرئيس فولوديمير زيلينسكي في زيّ البطولة، بخاصة منذ ظهوره مرتدياً الزيّ العسكري وحاملاً السلاح وصامداً لمقاومة الغزو الروسي، وكأنه يقود المعارك ويتابعها بنفسه، حيث كانت الصور الأولى التي انتشرت له مرتدياً الزي العسكري ليست سوى صور قديمة ملتقَطة عام 2021 خلال زيارة ميدانية قام بها زيلينسكي إلى إقليم دونباس الذي اتضح أيضاً أن الكثير من صور المعارك جاءت منه ومن المناطق الشرقية خلال السنوات الماضية وليست للمدن الأوكرانية حالياً".
حرب إعلامية غربية
واتهمت موسكو الدول الغربية بشن "حرب إعلامية" ضدها، وقبل مرور أسبوعين على شن الحرب، أقرّ مجلس الدوما الروسي، قانون تجريم التضليل الإعلامي بشأن القوات المسلحة الروسية، الذي ينص على فرض عقوبات جنائية وغرامات مالية ضخمة على كل مَن يقوم بتزوير وتشويه الأخبار المتعلقة بشأن القوات المسلحة.
وقال فاسيلي نيبينزيا، المندوب الدائم لروسيا في جلسة لمجلس الأمن الدولي أخيراً، "الآن هناك حرب إعلامية واسعة النطاق تم شنها ضد روسيا، حيث يقدمون المواقع المدمَّرة من قبل القوات الأوكرانية، والتشكيلات القومية في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، كأنها آثار لعمليتنا العسكرية في أوكرانيا، ويروّجون معلومات كاذبة عن القصف العشوائي للمدن الأوكرانية".
ورأى الكاتب محمد أمين إن روسيا استخدمت أسلوب الحرب النفسية في ما قدمته بيانات بشأن تقدم قواتها بصورة سريعة فى الجانب الشرقي والجنوبي، وإعلان سيطرتها على مدن أوكرانية عدة، لكنها قامت أيضاً بتنويع خطابها من خلال البيانات الدبلوماسية الهادئة التي وصلت إلى حد اعتماد المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، لغة الاستخفاف بالخصم، حيث علّق على سؤال حول طبيعة عمل الإدارة الرئاسية الروسية قائلاً "إن الجميع ينامون بهدوء، ويستأنفون العمل في الصباح كالمعتاد"، لكن مع طول أمد الحرب اتضح مدى التناقض في تلك البيانات.
وأوضح أمين أن "إطلاق الإشاعات المتعلقة بالمعارك، بما في ذلك بث مقاطع تعود لسنوات أو ليس لها علاقة بالصراع، تتم وفق عملية منظمة تديرها أجهزة الاستخبارات وليست وليدة المصادفة"، مشيراً إلى أن "آلة الإعلام الغربية نجحت في خلق حالة من شحن المشاعر على مستوى العالم ضد روسيا، بخاصة في الأسابيع الأولى للحرب، كما سعت بعض المنصات على الإنترنت إلى حجب الصفحات الإخبارية والمحتوى الروسي كوسيلة للتضامن مع أوكرانيا".
بدوره، قال عمرو الديب، مدير مركز "رياليست" الروسي، إن "أوكرانيا تعتمد بالأساس على البروباغندا، وهذا يظهر من خلال نشاط الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الذي يبدو تركيزه على الإعلام أكثر من العمليات العسكرية. وتدعم الرواية الأوكرانية ترسانة الإعلام الغربي وحتى الإعلام العربي يقدم صورة تخدم الجانب الأوكراني، ولا نقول إن الجانب الروسي مجموعة ملائكة أو أن كل البيانات التي يقدمونها صحيحة، إذ إنه دائماً في العمليات العسكرية هناك روايات عدة وضحايا، لكن المسألة تتعلق بكيفية تقديم هذه الرواية والهدف منها. وعلى سبيل المثال، ما يُقال عن أنه كانت هناك مذبحة داخل مدينة بوتشا الأوكرانية قرب كييف، فإن القوات الروسية انسبحت بمحض إرادتها من أجل تقديم خطوة لدعم المفاوضات التي كانت تتم في هذا التوقيت، ولأن مثل هذه المدن غير مهمة استراتيجياً وعسكرياً، ولم تكن هدفاً لروسيا بل نوع من الضغط العسكري على القوات الأوكرانية، وبعد الانسحاب بيومين ظهرت المشاهد الخاصة لما قيل إنه مذبحة، وجاء ذلك بعد تراجع الاهتمام العام بمتابعة الحرب، من أجل إعادة الانتباه والأنظار مجدداً، وفرض عقوبات جديدة من دون أي تحقيق في حقيقة الأمر، ونحن الآن أمام حرب إعلامية لم يسبق لها مثيل، وبدأت بحذف وحجب وسائل الإعلام الغربية من مواقع التواصل الاجتماعي وحجب القنوات الروسية في الدول الغربية، وهكذا أصبحت الساحة فارغة تماماً للإعلام الغربي لتقديم روايته حول العملية العسكرية الروسية، ولا يمكن أن تقف دولة كبرى مثل روسيا مكتوفة الأيدي أمام ذلك".
السلاح الأسطوري والمعارك الوهمية
مع تدشين جسر جوي من الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، تحدثت وسائل الإعلام الأميركية والغربية عن مصير يشبه هزيمة الجيش السوفياتي في أفغانستان، بخاصة مع وصول مئات من صواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات إلى أوكرانيا ونشر المنصات الرقمية الأوكرانية صور المقاتلين، وهم يحملون هذا الصاروخ الذي سيغير المعادلة، وسير المعارك التي لم تسلم هي الأخرى من مبالغات وأخبار كاذبة، حتى في ما يتعلق بمدى اقتراب الروس من إسقاط العاصمة الأوكرانية التي ما زالت تقاوم.
وقال محمد منصور، الباحث في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، إن التضليل الإعلامي والمبالغات "شملت تعدد الروايات حول التطورات الميدانية، بخاصة مع تقلص هامش التغطية الصحافية الميدانية لمجريات المعارك على الأرض". وتابع، "حتى على مستوى أداء الأسلحة والمنظومات القتالية، اجتهد الطرفان في إظهار نجاعة وفعالية ما يمتلكانه منها، بخاصة الجانب الأوكراني، الذي تحدث بشكل مستفيض عن مدى فعالية الصواريخ المضادة للدروع، التي تسلمتها من الدول الأوروبية، مثل الصواريخ البريطانية المضادة للدبابات "إن – لاو"، علماً أن هذه الأخيرة أثبتت ضعفاً ميدانياً كبيراً خلال المعارك، ظهر بشكل واضح خلال تسجيل مصوَّر أظهر فشل صاروخ من هذا النوع، في إحداث أي ضرر يُذكر بدبابة روسية من نوع "تي – 72"، وقد تحدث بعد ذلك عدة منتسبين للجيش الأوكراني، عن عدم فعالية هذا النوع من الصواريخ ضمن المسافات التي تزيد على 1000 متر، ناهيك بأن قسماً كبيراً من الصواريخ المضادة للدبابات، التي تزودت بها أوكرانيا كمساعدات عسكرية من الدول الغربية، كانت مخزّنة لسنوات طويلة، وهو ما جعلها أقل كفاءة على المستوى القتالي."
وأشار الباحث إلى أن "الجيش الأوكراني اعتمد بشكل أساسي على بعض أنواع الصواريخ شرقية المنشأ المضادة للطائرات، مثل النسخة البولندية الصنع من صواريخ "أيغلا" المضادة للطائرات، التي حققت النتائج الأهم على المستوى الميداني، مقارنةً بصواريخ "ستينغر" الأميركية و"ستار ستريك" البريطانية، وهو ما يخالف الدعاية الأوكرانية والأوروبية حول مدى فعالية المساعدات العسكرية التي جرى تقديمها لأوكرانيا.
وأوضح منصور أنه "كان من الشائع خلال متابعة الحرب انتشار تسجيلات مصوَّرة جرى الإدعاء أنها من المعارك الأوكرانية، واتضح بعد ذلك أنها مصوَّرة من ألعاب كمبيوتر، مثل التسجيلات التي نشرتها وزارة الدفاع الأوكرانية، وظهرت خلالها عملية إسقاط مروحيات روسية، ثم اتضح بعد ذلك أن هذه التسجيلات أُخذت من لعبة حاسوب تُسمى "أرما - 3" تتميز بواقعية شديدة في أحداثها. كما أن غياب التغطية الصحافية "الموضوعية" للمجريات الميدانية في أوكرانيا، فتحت المجال بشكل واسع أمام "فبركات" استهدفت اللعب على الوتر الإنساني، مثل انتشار صورة تظهر جثة المدونة الأوكرانية ناستيا سافشيشين، واتضح بعد ذلك أنها مثّلت أنها تعرضت للقتل على يد القوات الروسية، من أجل بث التعاطف مع الشعب الأوكراني. كذلك شمل هذا الوضع بعض المناطق التي تعرض فيها مدنيون للقتل، مثل منطقة "غوستوميل"، التي انتشرت صور لفتاة مقتولة وعليها آثار تعذيب فيها، وحتى الآن ما زال الخلاف قائماً حول مَن قتلها، بين مَن يرى أن الجيش الروسي هو المتسبب في هذا، وبين مَن يرى أن وجود شعارات "نازية" على جثتها يرجح أنها قُتلت على يد المجموعات الأوكرانية الموجودة في المنطقة.
أسلحة الدمار الشامل
قبل مرور أول أسبوعين منذ اندلاع شرارة الحرب، نجحت موسكو في عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، من دون تقديم دليل، للتحقيق في أن أوكرانيا تدير مختبرات للأسلحة البيولوجية بدعم من وزارة الدفاع الأميركية، لكن الأمم المتحدة أكدت عدم وجود أي دليل لديها على امتلاك أوكرانيا برنامج أسلحة بيولوجية في الوقت الذي اتهمت فيه واشنطن وحلفاؤها روسيا بنشر هذا الادعاء غير المؤكد كمقدمة محتملة لشن هجمات بيولوجية أو كيماوية، وسط قلق عالمي من إمكان استخدام السلاح النووي، مع إعلان الرئيس الروسي أنه وضع قوات الردع النووي الروسية في حالة تأهب.
وبينما حذّرت الولايات المتحدة وبريطانيا من أن روسيا قد تلجأ لاستخدام أسلحة كيماوية في أوكرانيا، وذكرت واشنطن أن روسيا نشرت تكراراً معلومات مضلّلة بشأن استخدام سوريا المتكرّر لأسلحة كيماوية، قال المتحدث باسم الكرملين أن مزاعم واشنطن بأن موسكو ربما تعتزم شن هجوم بأسلحة كيماوية في أوكرانيا هي محاولة لصرف الانتباه عن اكتشاف مختبرات أسلحة بيولوجية سرية تديرها الولايات المتحدة في أوكرانيا.
وجددت وزارة الدفاع الروسية تحذيراتها أخيراً، بشأن امتلاك أوكرانيا أسلحة بيولوجية من المحتمل استخدامها إذا استمرت الحرب لفترة أطول، وقالت موسكو أيضاً إنها كشفت مخططاً تقوم به أجهزة الاستخبارات الأوكرانية وكتيبة "آزوف"، لتفجير محطة نووية للأبحاث بمعهد خاركيف للفيزياء والتكنولوجيا، وذلك لاتهام روسيا بأنها تسببت في كارثة بيئية.