في العراق تظل الأسرار تلاحق الناس مثلما يلاحقونها، لمعرفة أشخاصها وماذا فعلوا، وهم يكررون مثلاً عراقياً شهيراً، "مِن يوقع الجمل تكثر السكاكين"، كناية عن الهزيمة والخذلان حيناً، والمفاخرة بما فعله "رعيل الصدمة" والخط الأول من "الحرس القديم"، الذي توارت عناصره في غبار حقبة أثارتها الدبابات المقتحِمة لأسوار بغداد التي ظنوا أنها منيعة بما يكفي، غير أنها تهاوت في التاسع من أبريل (نيسان) 2003 على يد دولة عظمى بل دول عظمى، فصارت الأسرار ملقاة على الأرصفة، واستحوذت جهات مناوئة بل معادية للنظام السابق على وثائق وسجلات كانت عصية حتى على المواطن حين كان يمر من أمام مكاتب الأمن العام أو المخابرات العامة والأمن الخاص ومقرات الحرس الجمهوري، وسواها من أجهزة حماية النظام الحصينة.
الجهاز السري وهمس الناس
إلا أن جهازاً واحداً من بينها لا يعلم عنه، حتى أقرب المقربين في الحزب والدولة، سوى اسمه "جهاز حُنين" تيمناً بـ"غزوة حنين"، ولا يعرف أحد حتى اليوم سر التسمية ومن أطلقها؟ إلا بعض أشخاصه الذين يحكون عنهم روايات كالأساطير في ملاحقة خصوم وأعداء "الحزب والثورة" كما يسمونهم، وجلهم من الشركاء – الأعداء.
"جهاز حنين" الذي تولاه الشاب القوي حينها، صدام حسين، وهو بعمر 27 سنة، أي في مقتبل عمره السياسي وكان مطارَداً واسمه مثبتاً على لوائح الأمن العامة في بغداد وتكريت خلال منتصف ستينيات القرن الماضي.
أسئلة كثيرة ومثيرة يقدمها الباحث الأكاديمي العراقي، الدكتور سيار الجميل، في دراسة مطولة، عن "جهاز حُنين" السري الذي تولاه "صدام التكريتي" كما كان يُلقَّب وقتها قبل أن يشتهر، وهو في مقتبل عمره مشرَداً وملاحَقاً من عهد عبد الكريم قاسم بعد محاولته اغتياله، وعهد الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف بعد انقلاب فبراير (شباط).
ويفتش الجميل عن سر وأسباب ترؤس صدام هذا الجهاز الأمني الخاص، وهو كما يصفه الباحث "أخطر جهاز سري عرفه تاريخ العراق الحديث"، حين انبثق من خلال حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أسسه ميشال عفلق وصلاح البيطار وزكي الأرسوزي، وكلهم معلمون سوريون آمنوا بالقومية العربية وبفكرة البعث، وسار خلفهم جيل من الشباب الحالم بالوحدة العربية.
لكن الغريب أنه لا عراقي مؤسس بينهم للحزب الذي استلم الحكم في العراق مرتين، الأولى في عام 1963 لمدة ثمانية أشهر فقط، وأطاح به انقلاب عسكري قاده عبد السلام عارف، أما الثانية ففي عام 1968 الذي استمر حتى عام 2003 حين أطاح به الجيش الأميركي.
جهاز حنين وزعامته المبكرة
تولى صدام رئاسة ذلك التنظيم السري داخل "البعث" في عام 1964، وامتلك مع حلقة صغيرة وخاصة جداً أسراره وتفاصيل عملياته والتخطيط المباشر لنشاطاته. ويقول الباحث في دراسته في هذا الشأن، "بقي الجهاز سرياً حتى اليوم، وما ذُكر عنه قليل جداً، مقارنة بما أنجزه من عمليات واختراقات واغتيالات، وهو مرجعية كل الأجهزة الأمنية والمخابراتية والطوارئ والخاصة التي عرفها العراق منذ عام 1968 مع مجيء البعثيين إلى السلطة ثانية في عهدَي الرئيسين أحمد حسن البكر وصدام حسين".
واستبعد الجميل إدراك آلاف البعثيين معلومات كافية وخفايا وأسرار عما حدث على أيدي عناصر هذا الجهاز الأمني الذي تأسس كرد فعل على انهيار تجربة استلام السلطة في 8 فبراير 1963، والهزيمة على يد العسكر في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963. وقال، "أنيطت بالرئيس السابق صدام حسين الذي كان عضواً شاباً في حزب البعث العربي الاشتراكي مسؤولية الجهاز الخاص لأمن الحزب، الذي كان يسمى جهاز حنين، وكان ذلك على عهد الرئيس عبد السلام عارف كرد فعل على هزيمة البعثيين أمامه، وتطورت عمليات هذا الجهاز بين عامَي 1964 و1966"، متسائلاً: "كيف تم تكليفه في حينه بتشكيل هذا التنظيم الخطير داخل العراق؟" إلا أنه لا يجيب لأنه يقول، إن "ذلك يحتاج إلى بحث وشهادات من بقايا أعضاء الجهاز".
ووصف الباحث مهمات "جهاز حنين" وظروف تأسيسه قائلاً، إنه "ولِد من رحم الصراع السياسي بعد 14 يوليو (تموز) 1958، بين البعثيين والشيوعيين، وبقي أعضاؤه ليزدادوا فاعلية في 8 فبراير 1963 ويكونوا قادة قطاعات في الحرس القومي، ومنهم كل أعضاء القيادة بعد عام 1958، ويقوموا بقتل مئات الشيوعيين والقاسميين".
السلطة من جديد
كان الهدف المركزي الذي يتمحور حوله نشاط التنظيم السري هو استرجاع السلطة التي سلبها منهم الرئيس عبد السلام عارف بعد أن نصبوه رئيساً للجمهورية وبأي ثمن، ولأجل هذه المهمة اختير أعضاء الجهاز بعناية شديدة. ويقول الباحث في هذا الشأن، "كان الجهاز يحتوي على أعضاء سريين لا يعرفهم أحد، ولا يعُرف كم عددهم، ومَن جعلهم يندمجون في الدوائر الحكومية والسفارات والنقابات وأحزاب المعارضة في العراق ليكونوا أشباحاً؟ ومَن منح صدام حسين الحق في اختيار جماعة من الأشقياء المعروفين بنزقهم وقساوتهم وشقاوتهم وقد تغلغلوا في أوساط المجتمع في بغداد خصوصاً، وضم أشد أعضاء الحزب عنفاً وقسوة ودموية؟".
وعلى ما يبديه الباحث سيّار الجميل، فإن هذا الجهاز السري ضم أسماء بارزة من "فتوّات بغداد" أمثال وهاب عبد الوهاب الملقب بالأعور، وجبار كردي، وستار كردي وناظم كزار، وسعدون شاكر وسمير الشيخلي وصباح مرزا وفاضل براك، وبزران إبراهيم وقيس الجندي وكامل معلاك واسمه الحقيقي كامل عبد الله سليم القيسي، ومحي مرهون ومحمد قدوري، ومحمد فاضل، وعلي رضا باوه، (الذي أرسله صدام إلى باريس ليجس نبض الخميني قبل وصوله إلى السلطة بحكم معرفته به كمسؤول لاجئين مذ كان الخميني لاجئاً في العراق) فذهب إليه والتقاه في النجف وعاد مباشرة ليقدم تقريره إلى صدام، عن مشروع الخميني المقبل.
أوكار الحزب وملاجئ حُنين
اتخذ الجهاز قبل عام 1968، ملاجئ سرية موزعة في بغداد القديمة ومعامل مهجورة وورش نائية، لتصبح مقرات لنشاطه تُسمى "الأوكار"، قبل أن يتسلم "البعثيون" الحكم في يوليو 1968، بعدما تمرسوا على التصفيات خلال تجربة "الحرس القومي" في عام 1963 لينتقلوا إلى قصر الرحاب الملكي ويحولوه إلى "قصر النهاية" الرهيب الذي أداره اللواء ناظم كزار وسعدون شاكر، لتصفية مَن سموهم "أعداء الحزب والثورة". ويثير مجرد ذكر اسم "قصر النهاية" الهلع لأنه دار تحقيقات وتعذيب يضم أعتى المهووسين بفن انتزاع الاعترافات، إلا أنه هُدم في ما بعد لتُطوى صفحة هذا المكان الذي صفّى كوادر الحزب الشيوعي والقاسميين بل كل الذين ظن أنهم يشكلون خطراً محتمَلاً على أمن النظام البعثي الجديد الذي يشترك صدام برئاسته مع قريبه أحمد حسن البكر.
تورد الدراسة أهم عمليات "حنين" بقوله، "إن جهاز حنين هو المسؤول الحقيقي عن تفجير المروحية التي كانت تقل الرئيس عبد السلام عارف، في حين وصلت الطائرتان المرافقتان إلى البصرة بسلام"، ودليله على ذلك، أن مسؤولاً قريباً من مراكز القرار سابقاً ذكر أن وهاب الأعور وجِد في ذلك اليوم منتحلاً صفة عامل قهوة، ووُجِد قرب المروحية الخاصة بالرئيس الجاثمة قرب "النشوة" التي كان يزورها الأخير، مضيفاً أن الجهاز كانت تصله أخبار تنقلات عارف من خلال أحد الضباط البعثيين، وأن الطائرة لم تسقط وترتطم بالأرض بل انفجرت في الجو وتناثر حطامها على مساحة واسعة من الأرض، وأن الجثث المتفحمة تماماً كانت متباعدة جداً عن بعضها. ثم قُتل عبد الوهاب الأعور إثر تعيينه عضواً في القيادة، وذلك بعدما بدأ يسرب معلومات وصِفت بالخطيرة". وهناك عشرات العمليات الشهيرة التي قام بها الجهاز كما يؤكد الجميل، ومن أبرزها اغتيال الحاني وعبد الكريم الشيخلي، ومحاولة اغتيال ملا مصطفى البرازاني ومقصبة قصر النهاية.
وقال الباحث العراقي، إنه "بعد مجيء حزب البعث إلى السلطة في عام 1968، وبعد الإطاحة بالرئيس عبد الرحمن عارف، طور صدام حسين جهاز حنين ليشمل اختصاصه، الأمن الداخلي للدولة وسماه الجهاز الخاص، بعد أن كان ثقل الجهاز ممثلاً في مديرية الأمن العامة، والتي وقف على رأسها ناظم كزار، الذي اتخذ من قصر النهاية مقراً له. واشتركت عناصر جهاز حنين بأدوارها القاسية في تعذيب وقتل كل الرموز التي كانت محسوبة على عهد الأخوين عارف، وأيضاً ضد "الشيوعيين وبعض الشيوخ الإقطاعيين والرجعيين وأعوان الصهيونية والاستعمار"، وأيضاً اليهود. وأُقيمت مهرجانات الدم والشنق في قلب العاصمة بغداد، ثم أجرى صدام حسين "تغييرات جذرية في الجهاز الخاص، إذ بقيت مديرية الأمن العامة، مع ضعف مركزها مجرد مؤسسة أمنية داخلية، ليتطور جهاز حنين في عهد برزان إبراهيم (الأخ غير الشقيق لصدام) وتغيير اسمه إلى جهاز المخابرات في ديسمبر (كانون الأول) 1983 وارتبط بمجلس قيادة الثورة، أعلى سلطة في البلاد آنذاك.
أكد الباحث سيّار الجميل، في دراسته، التي يقول إنها مستمدة من وثائق ستانفورد العراقية، على أن "جهاز حنين هو الرحم الذي ولِدت فيه كل دوائر الرئيس (السابق) صدام حسين الأمنية والمخابراتية والخاصة، وبقي المصدر الحقيقي لدوائر المخابرات العراقية، التي بقيت تنسق أعمالها في معظم الأوقات مع مديرية الأمن العام التي كان اختصاصها الأمن الداخلي للعراق، وكانت تابعة رسمياً لوزارة الداخلية العراقية، إلا أنها كانت تتلقى أوامرها من مجلس قيادة الثورة".
وتابع الباحث العراقي في دراسته التي ستتبعها دراسة مثيرة عن تكوين ونهاية "ناظم كزار"، مدير الأمن العام، و"أحد أساطير جهاز حنين". كما قال، إن "هذا الجهاز لا يعمل في السياسة ولا دور له في الشراكة في الحكم بل هو مكلّف منذ تأسيسه بالاغتيالات والقتل والإعدامات، ومهماته تنفيذية فقط، فاستهدف العارفين والناصريين والحركيين الأعيان وشيوخ العشائر واليهود والشيوعيين، والبعثيين المعارضين".
وعن مسؤولية الرئيس العراقي السابق أحمد حسن البكر وهو يراقب عمل نائبه صدام حسين، يقول الباحث، إن "الرئيس البكر يعرف كل شي ويدرك أنه لولا جهاز حنين، لما نجحت حركة الثلاثين من يوليو 1968، التي تم خلالها استبعاد إبراهيم الداود وعبد الرزاق النايف، اللذين اشتركا بالحكم بعد تآمرهما على الرئيس عبد الرحمن عارف. وأحمّل البكر كل ما حصل للعراق، بسبب إطلاق يد صدام في الدولة والحزب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ماذا يقول البعثيون؟
دراسة الدكتور سيّار الجميل وكشفه جوانب من عمل جهاز حنين، أثارت ردود أفعال عنيفة لدى الحرس القديم في حزب البعث العربي الاشتراكي وجرى تداولها كالنار في الهشيم على المواقع العراقية. ويقول مناف التكريتي وهو ابن عم القيادي في البعث، صلاح عمر العلي، "لعلّ الدكتور سيّار الجميل استقى معلوماته منCIA ومن كتاب "جمهورية الخوف"، لكنعان مكية، لأن جهاز حنين شكّل بعد ردة "تشرين" 1963 للقيام بانقلاب عسكري وإعادة السلطة وعندما انكشفت المحاولة في 4 سبتمبر (أيلول) 1964 زُجّ معظم أعضائه في السجن، وكذلك البعثيون الآخرون الذين لا علاقة لهم بجهاز حنين. وأنا أسأل: برزان التكريتي كان عمره 14 سنة آنذاك، فكيف له أن يلعب دوراً في هكذا جهاز، ولم يكن منتمياً للحزب حينها؟".
وأكد مناف التكريتي، "حقيقة أن أعضاء الجهاز أسهموا ببناء مكتب العلاقات العامة، وكان على رأسهم سعدون شاكر الذي كان مسؤولاً عن الجهاز الصدامي للحزب فجلب معه بعض الأسماء المذكورة في دراسة الدكتور سيّار الجميل، وهذا لا يعني أن جهاز حنين كان يعمل في المخابرات".
يُذكر أن هناك عشرات الأشخاص الذين يعرفون عن تاريخ "جهاز حنين"، لا سيما من كوادر حزب البعث، لكنهم يؤثرون الصمت عله ينسي تلك الحقبة التي يعتبرها الحزب جزءاً من "تاريخه المجيد"، ويعدها الباحثون حقبة ملتبسة تحتاج الولوج بتفاصيلها السرية، لا سيما وأن الرئيس في تلك الفترة أُعدم وظل نفر قليل يتناولون أحداثها في شتاء المنافي .