ملخص
ينعي الكاتب الأميركي هنري ميلر في كتابه "تذكر أن تتذكر" الحلم الأميركي، ويكتب فيه "أميركا مملوءة بأماكن... لكنها أماكن خاوية. أماكن مزدحمة بأرواح خاوية... صحيح أن أميركا خلال الوقت نفسه مؤثثة بأحدث الآلات وبكل أنواع الراحة الكاملة، إن جاز لنا القول. ولكن هكذا هي أميركا وهذه هي أميركا، ولسنا في حاجة إلى أن ندخل صالات السينما لندرك هذا".
"نحن نتمسك بالذاكرة من أجل الحفاظ على هوية، آه لو كان في إمكاننا أن ندرك أننا لا نستطيع أصلاً فقدانها أبداً. وحين نكتشف هذه الحقيقة التي هي فعل الذاكرة نفسه، نجدنا نسينا كل شيء آخر". هذه العبارات يوردها الكاتب الأميركي هنري ميلر في مطلع مقال طويل له، عنوانه "ذكرى ذكريات". وهذا المقال هو الذي أعار اسمه إلى واحد من أشهر كتب هذا الروائي-الناقد، الذي كان واحداً من أشهر الكتاب الطليعيين الأميركيين عند أواسط القرن الـ20. ونعرف، بالطبع، أن هنري ميلر لم يكن من الكتاب الذين يستسيغ عامة القراء -بل عامة النقاد أيضاً- أدبهم، ليس فقط بسبب إباحية بعض هذا الأدب بل كذلك لصعوبة بعضه الآخر. فهنري ميلر سار في زمنه على عكس التيار الجماهيري الذي ساد الأدب الأميركي محولاً إياه إلى آلة تطحن الأدب الحقيقي، وسار خلال الوقت نفسه عكس تيار الأدب الرفيع الذي مثله كتاب معتبرون من أمثال فوكنر أو جون دوس باسوس. وكان أدب هنري ميلر أدباً خاصاً شديد الأوروبية وشديد التضاد مع القيم الأميركية. أما كتابه "تذكر أن تتذكر" فإنه النص الذي عبر فيه ميلر أكثر من أي مكان آخر عن الجذور الخلفية لعدائه لأميركا وكل شيء أميركي، حتى وإن كان هو خلال الوقت نفسه وفي حقيقة أمره شديد التعلق بأميركا التي صاغها في أدبه على مزاجه، وراح يبحث عنها في كل مكان بما في ذلك شوارع باريس الخلفية والقذرة.
يقول لنا هنري ميلر في واحد من أجزاء هذا الكتاب إن "أميركا مملوءة بأماكن... لكنها أماكن خاوية. أماكن مزدحمة بأرواح خاوية... صحيح أن أميركا خلال الوقت نفسه مؤثثة بأحدث الآلات وبكل أنواع الراحة الكاملة، إن جاز لنا القول. ولكن هكذا هي أميركا وهذه هي أميركا، ولسنا في حاجة إلى أن ندخل صالات السينما لندرك هذا".
أصحاب مواهب
ونحن بالنسبة إلينا قد يكون حسبنا أن ندخل صفحات هذا الكتاب الغريب، والأسهل ولوجاً بين كل نصوص هنري ميلر على أية حال حتى نكتشف "أميركا هذا الرجل"، ولكن عبر سلسلة من البورتريهات التي يرسمها لأناس يلتقيهم في هذا الشارع أو داخل تلك الزاوية. وميلر في معرض حديثه عن هؤلاء الناس وفي مجال إحالته إلى السينما الهوليوودية ككناية عن أميركا، يدهش كيف أن هوليوود تمضي وقتها تنفق جهودها باحثة عن المواهب... مع أنها، بدلاً من أن تسلط مجهر البحث هنا أو هناك، حسبها أن تنظر في أي مكان داخل أميركا، وفي أية زاوية، وأي زقاق أو ساحة أو حانة أو ماخور أو أي ركن آخر، لتجد أصحاب المواهب هنا وهناك مرميين على قارعة الطرقات في كل يوم من أيام العام، منهمكين في تلميع أحذية الآخرين وتنظيف ستراتهم. والحال أن أشخاصاً من هذا النوع هم الذين يتحدث عنهم هنري ميلر... الذي يقول لنا في مقدمة كتابه إنه إذا كان جعل كتابه هذا "يحوي عدداً معيناً من بورتريهات الأشخاص الذين أرغب في أن أحييهم مكرماً إياهم، فإنه كان في وسعي وبكل سهولة أن أوسع دائرة رسمي للصور فأطلع من ذلك كله بألبوم ضخم. ولكن أمراً ما كنت أرغب فيه أصلاً أنا الذي خلال ستة أعوام، حتى ولو اكتفيت بأن أبقى جالساً في مكاني، لم يكن لي مهرب من أن ألتقي عدداً كبيراً جداً من الناس. وإذا ما استثنينا بعض هذه اللقاءات أؤكد أن معظم من التقيتهم كان اللقاء معهم صدفة... وأود بهذا أن أقول طبعاً إن القدر هو الذي جعل هؤلاء الناس في طريقي، أنا الذي تبدو حياتي كلها سلسلة من لقاءات الصدفة، علماً أن معظم صداقاتي بدأت على هذا النحو... أما الأشخاص الذين كنت أموت شوقاً للقاء بهم والتعرف إليهم، فإنهم خيبوا أملي في النهاية حين التقيتهم".
عن لقاءات... وعن أميركا
إذاً نحن هنا أمام كتاب عن لقاءات، إضافة إلى أنه كتاب عن أميركا، إذ إن ميلر من خلال تلك اللقاءات رسم صورة تشريحية لوطنه الذي اعتاد أن يدفع إلى وهاد البؤس كل أصحاب الأرواح الاستثنائية، الذين كان ذنبهم الوحيد أنهم رفضوا طغيان أميركا عليهم... ورفضوا ذلك "الحس الأميركي العام القائم على ممارسة العنصرية". وهذا ما يعبر عنه ميلر مثلاً في أحد النصوص، حين يحكي لنا كيف التقى رجلاً أسود يمسح الأحذية في صالون حلاقة وهو جالس على الرصيف قرب دكانه، منهمكاً في الطباعة على الآلة الكاتبة: "في ذلك المكان العام كان الرجل يكتب معظم رواياته... وكانت حبكات تلك الروايات استثنائية... وهذا أقل ما يمكن أن يقال عنها... بل كانت لوحات بانورامية أكثر منها روايات. والحقيقة أن هذه النصوص كان فيها شيء شديد الفرادة وسط عالم الأدب الأميركي. شيء ربما كان سيئاً... شديد السوء... لكنه كان شيئاً مثيراً، مثيراً ألف مرة أكثر من كل تلك الروايات الرخيصة التي تباع بعشرات ملايين النسخ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الكاتب، مساح الأحذية الذي يرسم لنا هنري ميلر صورته على هذا النحو الحماسي والمثير للحماسة خلال الوقت نفسه، يشغل واحدة من البورتريهات التي يرسمها الكاتب صاحب الذكريات. وهو من بعده على التوالي يحدثنا –في بورتريهات أخرى– عن ثلاثة رسامين ونحات وعن مدير مسرح. ولعل أهم وأقسى ما يعبر عنه ميلر من خلال رسمه لصورة هؤلاء الأشخاص إنما هو الهوة الواسعة، والتي يرى أنها تفصل بينهم وتلك الحضارة التي عاشوا وطلعوا داخلها، معبرين بحياتهم ووجودهم عن أقسى آفاتها. ومع هذا، فإن أغرب "بورتريهات" الكتاب هي تلك التي يرسمها هنري ميلر للمدعو بوفورد ديلاني الذي يصفه بـ"المدهش وغير المتبدل" ويدخلنا في الحديث عنه على هذا النحو: "أجل إنه مدهش ولا يتبدل بوفورد هذا. منذ 48 ساعة والعاصفة عاتية هنا في بيغ شور، حيث يهتز البيت ويكاد يتهاوى... ولذا راحت أفكاري تجول حتى توقفت عند بوفورد. ما الذي صار عليه الآن في شتاء مانهاتن، حيث يتحول كل شيء إلى ثلج وجليد؟ هنا ثمة دفء على رغم كل شيء وعلى رغم العاصفة (...) ولكن هناك في 181 غرين ستريت حيث يشتغل بوفورد ويحمل ويأكل لوحاته. هنا عندي ليس ثمة سوى فرن يشخر محتفظاً بدرجة حرارة ثابتة هي 120 درجة مئوية... هذا الفرن هو وحده القادر على أن يناضل ضد البرد المذهل الذي تبثه الجدران والأرضية والسقف الذي يتقاطر الماء منه... ولكن هذا الفرن لا وجود له ولن يكون له أي وجود في 181 غرين ستريت... كذلك فإن شعاع الشمس الدافئ، لن يدخل أبداً إلى الغرفة الوحيدة التي يعيش فيها بوفورد...". وهذا التفكير ببوفورد هو الذي يحرك قلم ميلر ليكتب بعد صفحات على لسان لوحة من لوحات بوفورد: "ها أنا ذا جالس هنا في غرين ستريت، لا أحد يمكن أن يراني سوى عين الله. أنا غرين ستريت منظور إليَّ من وجهة نظر الأبدية. أنا زنجي مجنون موجود على الشاكلة التي سأظهر عليها حين ينفخ الملاك غابريال في بوقه. أنا العزلة التي تعزف مستعجلة مجيء الأزمان المقبلة".
إضافة إلى هذه البورتريهات الغريبة والمدهشة، ثمة في الكتاب صفحات عدة يتحدث فيها هنري ميلر (1891-1980) هنا عن تلك الحياة الصاخبة التي عاشها في باريس، حين فر إلى أوروبا هرباً من عسف المحافظين في بلده، وراح يطبع أشهر كتبه (مثل "مدار الجدي" و"مدار السرطان" و"بلكسوس" و"نكسوس" و"الكابوس المكيف")، ولا سيما أعوام الحرب التي كتب عنها ذلك النص المناوئ لكل قتل وكل حرب، وضم إلى "تذكر أن تتذكر" وعنوانه: "اقتلوا القاتل".