تميَّزت السنة الثالثة من عمر الحكومة الانتقالية بأنها مرحلة كاشفة لكثير من التصورات التي وضعها السودانيون عن مصير الثورة السودانية التي اندلعت في ديسمبر (كانون الأول) 2018، وأسقطت الحكم العسكري الذي استمر ثلاثة عقود، من واقع أنها جاءت في ظل تشكل وعي سياسي على المستوى الشعبي، ولكن رافقه تخلف في أداء الأحزاب السياسية، ولم يكن يتوقع أن تتكرر الدائرة الجهنمية من عدم الوفاق بين المكونات السياسية، والاعتقالات خصوصاً لشركاء الحكم مثلما فعل من قبل الرئيس السابق عمر البشير مع شركائه الإسلاميين في المفاصلة الشهيرة عام 1999، ولكن هنا تم الأمر بمبررات قال عنها العميد الطاهر أبو هاجة مستشار رئيس مجلس السيادة الانتقالي والقائد العام للجيش الفريق البرهان، بأنها "جاءت وفقاً لبلاغات صادرة من الأجهزة العدلية، وليست اعتقالات سياسية تصدرها الأجهزة الأمنية، ووفقاً لقانون الإجراءات الجنائية لا يجوز الإفراج عن المتهمين بالضمان العادي، وإنما بعد إرجاع ما أخذوه من المال العام".
والآن بعد إفراج السلطات السودانية عن عدد من المسؤولين الحكوميين الذين تم توقيفهم بعد الانقلاب العسكري على أثر إجراءات الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يتوقع أن تؤسس هذه الخطوة لمرحلة جديدة، هي مرحلة ما بعد المكاشفة ومعرفة نهج كل طرف لأداء الآخر، وإدراك الاختلافات، والمفرج عنهم من أعضاء لجنة تفكيك وإزالة تمكين نظام الـ30 من يونيو (حزيران)، هما خالد عمر يوسف وزير شؤون مجلس الوزراء السابق ومقرر اللجنة، ومحمد الفكي سليمان الرئيس المناوب للجنة وعضو المجلس السيادي، بعد تجديد حبسهما مدة 24 ساعة بسبب تأخير تسليم ملفاتهما قبل الإفراج عنهما مرة أخرى. وجاء القرار الأخير بعد رفض قاضي المحكمة تجديد حبسهما لأنه لم يجد أية بينات مبدئية في مواجهة المتهمين خصوصاً بعد اكتمال إجراءات التحري معهما، ولا يزال هناك آخرون من أعضاء اللجنة محتجزون وفق بلاغات جنائية.
تصعيد إعلامي
وفي ظل تزايد الخلافات بين شقي الحكومة الانتقالية بين المكوّنين العسكري والمدني، نشأ التصعيد الإعلامي نتيجة بعض التصريحات من الجانبين تفيد بعدم احتمال كل منهما الآخر، وبينما يمضي المكون المدني في انتقاد العسكريين، فتح أعضاء لجنة إزالة التمكين باباً آخر بقرارات فصلٍ ومصادرة أملاك وصفت بالجائرة بدعوى أن الانتقال الديمقراطي رهين بتنظيف المؤسسات المدنية والعسكرية كافة من النظام السابق. وكانت "لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال" التي أُسست بموجب الوثيقة الدستورية التي وقعت في أغسطس (آب) 2019 بين "قوى إعلان الحرية والتغيير" والمجلس العسكري، بهدف إزاحة أنصار النظام السابق للرئيس عمر البشير وأعضاء حزبه عن مفاصل الدولة السودانية، تعمل على استرداد الأموال العامة التي يعتقد أن قادة النظام السابق حصلوا عليها بطرق غير مشروعة، كما قامت بفصل وإبعاد المنتسبين للنظام السابق من المؤسسات المهمة.
وبعد سن قانون خاص يعاقب من يتحدى قراراتها، وحصولها على سلطات واسعة، وردت تقارير تفيد بأن اللجنة فصلت أكثر من تسعة آلاف موظف و150 دبلوماسياً من وزارة الخارجية، وسيطرت على 3200 عقار ومئات الشركات والمصانع والمزارع، والكثير من الأراضي الزراعية، و20 مليون متر مربع من الأراضي السكنية ضمنها مقتنيات رئيسة على شاطئ النيل، من أنصار النظام السابق، وأضافت التقارير أن اللجنة لم تسلم المواقع إلى الشركة القابضة المكلفة بإدارة هذه الأصول، ما أوقعها في تهم الفساد وخيانة الأمانة، وأخرى جنائية.
ولحق ذلك باستمرار التراشق الإعلامي بين المكوّنين المدني والعسكري، ومنها دعوة محمد الفكي سليمان إلى تظاهرات قرب مركز لجنة إزالة التمكين بعد تصريحات رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان قال فيها إنه "لن يجلس مع بعض أعضاء اللجنة أبداً"، رداً على تصريح الفكي لتلفزيون السودان بأن "الجلوس مع العسكر يخصم من رصيده السياسي".
متطلبات الحوار
وكثرت الانتقادات للحكومة الانتقالية، خصوصاً بعد إجراءات 25 أكتوبر، عندما وصل الوضع السياسي إلى حالة تبدو وكأنها امتداد لعهد النظام السابق وعقود من القمع الممنهج وغياب لمقومات البنية السياسية المهيئة لإقامة نظام ديمقراطي، وأهمها الحوار السياسي، وبعد مطالب دول غربية وأحزاب سياسية، قال رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان إنه دعا السياسيين من الأحزاب ومن أعضاء الحكومة السابقين إلى الحوار لكنهم لم يستجيبوا، وواصل الحديث في لقاءات جماهيرية عن إجراءات لتهيئة مناخ الحوار بما في ذلك بحث الإفراج عن المعتقلين مع السلطات القضائية.
ويمكن تفسير هذه الخطوة في إطار عقد صفقة أخرى مع المكون المدني وفق عقد جديد خالٍ من المساءلة عما اتهم به أعضاء لجنة إزالة التمكين، مقابل عدم المطالبة بالعودة إلى ما قبل قرارات 25 أكتوبر، وتلك الدعوة للمشاركة في الحوار لم تكن الأولى، فالحاجة إليها قديمة واستمرت حتى مع وجود المكوّنين في حكومة واحدة، ولكن من شأن هذه الدعوة الجديدة أن تلقي بالكرة في ملعب "قوى إعلان الحرية والتغيير"، التي من المحتمل أن تتحرك في أحد اتجاهين، الاتجاه الأول يوافق على الحوار لأنه لم يعد لدى هذه القوى ما تملكه وتتفاوض حوله، ومع انتماء أعضائها المُفرج عنهم إلى أحزاب سياسية، إلا أن ذوبانهم في "قوى إعلان الحرية والتغيير"، سلب منهم الصفة الحزبية، فحتى لو توافقت أحزابهم بأعضائها النافذين مع السلطة لن يكون لهم دور بوصفهم شخصيات خلافية، أما الاتجاه الآخر فهو رفض الحوار والرهان على الشارع وقوى المقاومة، خصوصاً بعد أن عادت هذه القوى إلى مجموعة من النشطاء السياسيين وستظل تناضل ضد النظام، إلى أن يقودها ذلك إلى تكوين معارضة بديلة للأحزاب السياسية أو تلاشيها تماماً، وعودة أعضائها إلى مقرات عملهم في الخارج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من ناحية أخرى، سينشغل الرأي العام لفترة بالإفراج عن المعتقلين والدعوة إلى الحوار الذي جاء كاستجابة لمتطلبات الشارع، وربما لن ينظر أحد في ما يتم من إجراءات أخرى، تُعاد فيها صياغة حكومة جديدة من المكون العسكري والأحزاب التي وافقت على الدعوة بصفتها واسمها وليس تحت اسم "قوى إعلان الحرية والتغيير".
نموذج متكرر
إلى هذه اللحظة، تبدو كل الخيوط في يد مجلس السيادة، فهو من فرض إجراءات 25 أكتوبر، وضمن تلك القرارات الاستثنائية كان قرار تجميد عمل لجنة تفكيك نظام الـ30 من يونيو، وهو الذي أمر بإطلاق سراح أعضاء اللجنة للدخول في حوار، وهو من سيجلس إلى طاولة الحوار بينما يمكنه تمرير ما هو مسموح به وغير مسموح ابتداء من النشاطات السياسية، إلى حرية التعبير، وربما يظهر أن هذه الدعوة غير أصيلة ويكتنفها تضارب القرارات والآراء، لدرجة يظهر معها أن هناك من يدعو إلى الحوار، وهناك من يقف في طريقه بتصعيد الأحداث.
هذا السيناريو غير بعيد مما طبقه من قبل البشير بالعفو عن قيادات المعارضة ودعوتهم إلى الحوار ثم إلى حكومة وفاق وطني، وبوجود الأحزاب في هذه الحكومة حتى ولو في وظيفة مساعدين للرئيس، ستتغير قواعد اللعبة السياسية وسيظل كل منها ممسكاً بها للحفاظ على موقعه الجديد، ثم لن يتطور الأمر أكثر من ذلك، وستتذرع هذه القوى بأن وضع السودان الراهن لا يسمح بتحولات حقيقية على مستوى الانتخابات.
وهذا النموذج للدولة المركزية المدعومة بجيش موالٍ للحكومة وقوات شرطة ضاربة يخلق سيطرة ديكتاتورية، ولم يكن هذا النموذج قد فارق شكل الحكم في السودان، إلا في فترات الديمقراطية القصيرة الثلاث، وبعد قيام الثورة، لم ينشغل المراقبون بالصراعات المتعددة الأقطاب التي دخل فيها المواطنون طرفاً ثالثاً متنازلين عن أهدافهم المطلبية، تمثلهم جماعات المقاومة بعد تجيير مطالبهم لصالح قوى سياسية، ولتأصيل هذه المسألة، يجدر بالذكر أن الإطار العام للعلاقة بين هذه الثلاثية يعود إلى تأسيس مسار ثابت في التاريخ السياسي السوداني يقوم على الإقصاء، وهنا قبل أن تتسلم الأحزاب التي تقف وراء "قوى إعلان الحرية والتغيير" الحكم، عملت على إبعاد الأحزاب الأخرى، وأثناء السنوات الثلاث جرت تحت جسر هذا التكوين السياسي مياه كثيرة كشفت عن الصلة بين النظم الاستبدادية التي تأتي بانقلاب عسكري، وتلك التي تصنعها القوى السياسية القابضة حتى ولو كانت مدنية.
بداية النهاية
يمكن القول إن لجنة إزالة التمكين قد بدأت طريقها نحو النهاية منذ العام الماضي، وقبل إجراءات البرهان، عندما وجدت نفسها أمام دائرة الطعون بالمحكمة العليا التي أصدرت 11 حكماً بإلغاء قراراتها بفصل مئات من القضاة والمستشارين ووكلاء النيابة بالدولة، وبعد إيقاف عمل اللجنة، توالى إلغاء الأحكام وإعادة المفصولين بواسطتها إلى الخدمة في مؤسسات الدولة المختلفة، وتوضح اعتقالات أعضاء اللجنة ثم الإفراج عنهم بعد إسقاط قراراتها أن المعني بالأمر هي اللجنة نفسها وليس الأعضاء، ومع ذلك، فقد لعبت الإدانات من المواطنين والنشطاء إضافة إلى الإدانات الدولية المنددة بالاعتقالات من دول الترويكا "النرويج، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية"، وكندا، وسويسرا والاتحاد الأوروبي، دوراً في الإفراج عنهم، وكانت ستفتح الباب واسعاً لإدانات أخرى سابقة بسبب كبت حرية التعبير ومضايقة النشطاء السياسيين وفي مجال العمل الإنساني، إذ عبرت هذه الجهات بأن "هذا يتعارض كلياً مع التزام الحكومة المعلن بالمشاركة البناءة لحل الأزمة السياسية في السودان للمضي نحو الانتقال الديمقراطي"، لو لم يتم الإفراج عن المعتقلين، ستكون دعوة البرهان إلى الحوار محلقة في أجواء من عدم الثقة والشك في جدية مجلس السيادة في المضي نحو تأسيس دولة مدنية حديثة قائمة على نظام ديمقراطي.