إن بَدَت دروب الدبلوماسية ضيّقةً طوال العام، فإن عشر رمضان الأواخر تملك ممرات أكثر سلاسةً واتساعاً مهما بلغت حمولة السياسيين من خلافات.
درب مكة، الذي يسلكه القادة والزعماء نحو قصر الصفا في مكة المكرمة، مروراً بجدة والمدينة، كان على مر التاريخ المعاصر فرصة دبلوماسية اختصت بها العشر الأواخر، وملاذاً لقضايا عدة انتهت متاهاتها بجوار الحجر الأسود والكعبة المشرفة والمقام والمآذن الشاهقة المحاذية للقصر الذي يقع على قمة جبل شاهق يطلق عليه جبل أبي قُبيس في الجهة الشرقية من المسجد الحرام، والذي كان يبلغ ارتفاعه 420 متراً.
حكومة الصيف
منذ ضم منطقة الحجاز إلى الحكم السعودي في عشرينيات القرن الماضي، حظيت هذه المنطقة بأهمية بالغة بالنسبة للملوك المتعاقبين في السعودية، لما لها من أهمية دينية، وفرصة للقاء وفود العالم الإسلامي في الأراضي المقدسة. أسهمت هذه في جعلها مركزاً للحكومة لفترة طويلة، ما أثار الحاجة إلى الموازنة بين هذا الاهتمام الذي تحظى به المنطقة ذات الثقل الديني، ونجد التي شكلت الثقل الاجتماعي للدولة في بداية تأسيسها، لتبدأ بعدها رحلات الشتاء والصيف بين نجد والحجاز السعوديتين، بأن تقضي الحكومة أشهر فصل الصيف التي تشكل الأشهر الحرم (ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم)، إضافة إلى شهر رمضان في المنطقة الغربية السعودية، في حين تقضي بقية العام في الرياض.
هذا الوجود الحكومي على مستوى قيادة البلاد في الأشهر المحرمة في المنطقة الغربية أعطاها ثقلاً إضافياً، لأنه جعلها جاذبة للسياسيين الذين يجدون فيها فرصة لاغتنام الوقت المقدس للحج أو العمرة، والالتقاء بالقادة السعوديين في آنٍ واحد، لتبرز منذ ذلك الحين حركة دبلوماسية فاعلة في العشر الأواخر أو فترة الحج.
رمضان والعشر الأواخر
ومنذ عهد الملك خالد بن عبد العزيز (1913 - 1983) حتى الملك سلمان بن عبد العزيز الذي تولى العرش في 2015، كانت العادة السنوية أن يقضي الملوك أواخر شهر رمضان بجوار المسجد المقدس.
فالملوك الذين تعاقبوا على رعاية مكة ورعاية قمم إسلامية وعربية ودولية، يذكر التاريخ "مؤتمر مكة للقادة المسلمين" الذي نظم في عهد الملك فيصل والملك سعود، وهما اللذان أمّا المصلين في أكبر مساجد الأرض في فترات متفاوتة.
وبدأ الملك فهد باتباع عادة قضاء الأيام العشرة الأخيرة من رمضان في مكة المكرمة واستقبال رؤساء الدول الإسلامية، سواء للمشاورات أو لمناقشة أوضاع العالم الإسلامي وقضاء عمرة في رمضان.
عمرة وقضاء حاجة
الحديث عن العمرة في رمضان يقودنا إلى الرئيس التركي ورئيس الوزراء الباكستاني اللذين يزوران السعودية بعد سنوات من العلاقة السيئة، وذلك لقضاء للعمرة واستعادة العلاقة السياسية مع "قلب العالم الإسلامي"، وهي العمرة التي يقوم بها أردوغان وشهباز شريف في أواخر الشهر، تحديداً في الوقت الذي يقضي فيه ملك البلاد وولي عهده أيام العشر غير بعيد من الكعبة التي يطوف بها المعتمرون والزوار.
وبعد عناق أردوغان مع ولي عهد البلاد الأمير محمد بن سلمان خلال لقاء "قصر السلام" بجدة، قال، "أنا على ثقة أننا سنرفع علاقاتنا إلى مستوى أفضل مما كانت عليه في الماضي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويواصل الرئيس التركي، "زيارتنا هذه تأتي في أيام رمضان الفضيل المليء بالرحمة والمغفرة والعطف، ستفتح الأبواب أمام عهد جديد مع السعودية الصديقة والشقيقة".
تلك إذا هي "دبلوماسية العشر الأواخر" التي راحت بفضلها خمس سنوات من القطيعة في مهب النسيان بعد أن أكد الرئيس التركي في حسابه على "تويتر" أنه "على ثقة أن تعاونه مع السعودية سيكون مثمراً في مجالات الصحة والطاقة والأمن الغذائي وتكنولوجيا الزراعة والصناعات الدفاعية والتمويل".
قمم في أواخر رمضان
ولأرشفة التاريخ وإعطائها نوعاً من الخلود في ذاكرة الزعماء والصحف والأحياء من الناس، فقد باتوا يربطون قمماً ومواثيق بأيامها كما هي أيام العشر الأواخر من رمضان، ولعل أبرز نتائج دبلوماسية العشر الأواخر، هي إعلان "ميثاق مكة المكرمة لتعزيز التضامن الإسلامي"، الذي صدر في ختام "قمة التضامن الإسلامي" الاستثنائية التي عقدها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في مكة المكرمة يومي 14 و15 أغسطس (آب) 2012 (26 - 27 رمضان) بمشاركة ملوك ورؤساء 57 دولة إسلامية أعضاء منظمة التعاون الإسلامي.
وفي مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، وبداخل الحرم المكي، لا تزال كلمات الملك خالد بن عبد العزيز التي ألقاها في بجوار الكعبة عالقة في ذاكرة التاريخ وأرشفة التلفزيون، وهي التي كانت في عام 1981 في شهر يناير (كانون الثاني) بحضور 38 من ملوك ورؤساء وأمراء الدول الإسلامية.
وليست معاهدة توقيع الصلح بين أطراف القيادات الدينية العراقية "سنة وشيعة" ببعيدة عن ذاكرة "دبلوماسية العشر الأواخر"، وهي التي عُقدت في أكتوبر 2006 خلال لقاء تركز على محاولة جمع شتات القيادات لتوحيد الصف ونبذ الخلافات الطائفية والسياسية، وهي التي وقّع خلالها علماء عراقيون من السنة والشيعة على وثيقة مكة التي تؤكد حرمة إراقة الدم العراقي، وتضمنت 10 نقاط رئيسة من بينها تحريم تكفير المسلمين، والابتعاد عن استهداف المساجد، والعمل على تعزيز المصالحة الوطنية في العراق.
ولمكة وعشرها الأخيرة أيام مع قمم ثلاث استضافتها يومي 30 و31 مايو (أيار) 2019، وهما قمتان خليجية وعربية طارئتان صدر في ختامهما بيان ختامي، ثم قمة إسلامية عادية صدر في ختامها بيان ختامي مطول من 102 بند، إضافة إلى قرار بشأن فلسطين، وإعلان حمل اسم "إعلان مكة".
كما شهد عام 2019 قمة عاجلة قدمت فيها السعودية والإمارات والكويت حزمة من المساعدات الاقتصادية للأردن يصل إجمالي مبالغها إلى مليارين وخمسمئة مليون دولار أميركي.
وبحسب البيان الصادر عن "قمة مكة" التي استضافتها السعودية لدعم الأردن، فإن المساعدات تتمثل في وديعة بالبنك المركزي الأردني، وضمانات للبنك الدولي لمصلحة الأردن، ودعم سنوي لميزانية الحكومة الأردنية لمدة خمس سنوات، وتمويل من صناديق التنمية لمشاريع إنمائية.
وتنتهي بعد تلك العشر التي يقضي فيها ملوك السعودية أيام رمضان الأخيرة صباح يوم عيد الفطر بعد الصلاة في المسجد الحرام والاستماع لخطبة العيد، وبعد توجيه الخطاب الملكي السنوي لعموم المسلمين بمناسبة العيد، وهي عادة انتهجها الملوك السعوديون.
تلك الأحداث التي لا تزال، وستظل كعُرف دبلوماسي لزعماء السعودية المتعاقبين منذ عقود، يشهدها القصر الشهير "الصفا" الذي يقع في حي أجياد، ويُعد من أشهر أحياء مكة المكرمة، ومن أقدمها على الخريطة المكية، ويعود سبب تسميته بهذا الاسم لموضع جياد تُباع هناك قديماً، وقيل لخروج الرجال والجياد منها حينما تقاتلوا في واقعة تاريخية ما، وأهل مكة يسمونها جياد، بحذف الألف.
ومنذ دخول الملك عبد العزيز الحجاز ظل أجياد الحي الذي يحتضن مساكن ومكاتب مسؤولي الدولة الذين يباشرون عملهم اليومي هناك في أزمنة من فترات الأشهر الإسلامية المقدسة.