ما بين طقوس روحانية ودينية وأخرى غذائية، يحتفل السودانيون خلال شهر رمضان، بداية من صناعة مشروب الآبري الذي يُطلق عليه أيضاً الحلو مر، ويُحتسى كصنف رئيس، إضافة إلى تناول العصيدة والأطباق الأخرى، وينتهي بطقس آخر مميز يُسمى "الرحمتات" أو "عشاء الميتين" ويعني قدوم الرحمة، وذلك لكثرة التصدق بنية التقرب إلى الله في ذلك اليوم.
و"الرحمتات" هي احتفالية موسمية لتوزيع طعام الصدقة على أرواح الموتى من الأقارب، وهنا يمتزج الهدف الديني مع الروحاني حسب المعتقد الأفريقي بأن أرواح الموتى من الأقارب تهبط في هذه الليلة لتلقي الرحمة على شكل صدقات، ويختلف المعتقد السوداني عن الأفريقي، بأن الأول يؤمن بأن أرواح الموتى تأتي للخير، أما الآخر فيظن أن أرواح الموتى تتجسد في الشر، ومجيئها يكون لإنزال العقاب بالأهل. وتكون الرحمتات في آخر يوم خميس من رمضان، أي ليلة الجمعة الأخيرة من الشهر وتُعرف بـ"الجمعة اليتيمة".
وعلى الرغم من الغلاء، والظروف المعيشية السيئة لشريحة كبيرة من المواطنين، لم تنزو هذه العادة، وظلت مثل كثير من العادات تناضل من أجل البقاء، لكن تغيرت كميتها حسب أحوال كل عائلة، فبدلاً من الذبائح، أصبحت تعتمد على كميات مناسبة من اللحم الذي يُشترى من السوق، وبعد أن كانت تُوزع على عدد من الأقارب الذين تربطهم علاقة قرابة مباشرة مع المتوفى، مع تخصيص نسبة مقدرة من الطعام للأطفال، وتوزيع حصة منه للمساكين في الأحياء القريبة والمحتاجين الذين يتلقون العلاج في المستشفيات، وحصة أخرى لطلاب الخلاوي المُلحقة بالمساجد والجوامع لتعليم حفظ القرآن، أصبحت تقتصر على الأطفال داخل الأسرة، ثم المساكين للمحافظة على مبدأ التصدق.
جلب الرحمة
أغلب العادات في السودان، حتى ذكرى المتوفين، تتخذ شكلاً احتفالياً، وفي وقت مضى كان الموت نفسه يتخذ شكل الاحتفال الفولكلوري التراثي، يضرب فيه أهل المتوفى النحاس ويعقدون "المناحة"، وهي النوح على الميت لأيام متتالية منذ إعلان نبأ الوفاة، إذ تؤدي امرأة معينة عديداً من الأغنيات، وتكون مختصة بتعديد مآثر المتوفى.
و"الرحمتات" تتخذ شكلاً تراثياً قريباً من ذلك، ولكن يطغى عليها البعد الديني العاطفي، فهي مع تمسكها بمبدأ التصدق والدعاء لجلب الرحمة، فعند تقديم الطعام بعد صلاة العشاء والتراويح، يتجول الأطفال في فرح داخل الحي، ويطرقون الأبواب ليُقدم لهم الطعام والتمر.
صوت الأطفال المنطلق عبر الشوارع والأزقة يصل الأسماع في كل البيوت التي تتوقع مجيئهم لتناول حصتهم من الطعام، فيتوزعون في مجموعات ويتشاكسون على أفضل من يقدم لهم الطعام. والوجبة هي "الفتة" التي يُطلق عليها "الحارة" لأنها تُقدم على درجة حرارة مُعينة، ويبدأ الأطفال في التغني بأهزوجة مشهورة، وهم يضربون على الدفوف، وهي:
"الحارة ما مرقت
ست الدوكة ما وقعت
قشاية قشاية
ست الدوكة نساية
كبريتة كبريتة
ست الدوكة عفريتة
ليمونة ليمونة
ست الدوكة مجنونة"
والأهزوجة في مجملها تعبير عن استعجال تقديم "الفتة" لهم التي تعدها "ست الدوكة" وهي المرأة التي تحضر الوجبة، و"الدوكة" المذكورة هي كلمة من العامية السودانية تعني الصاج المسطح المصنوع من الفخار أو الحديد لصنع "الكسرة" والخبز. وعادة يقصد الأطفال المنازل التي سينعمون فيها باللحم الوفير والمميز. وهذه العادة تشبه في أحد أوجهها احتفائية "القرقيعان" في السعودية ومنطقة الخليج العربي، غير أن الأطفال في "الرحمتات" لا يرتدون أزياء مُزركشة، وتُقدم لهم "الفتة" بدلاً من الحلوى والهدايا.
"الفتة" ومنقوع التمر
تتكون وجبة "الرحمتات" من طبق كبير من "الفتة"، وهي طعام شعبي دخل السودان مع الغزو التركي، وهي في الأصل وليمة دسمة كان يقيمها الأمراء في الدولة العثمانية، وتتكون من الخبز المغمور بالحساء ومغطى بطبقة أولى من الأرز ثم طبقة ثانية من "التقلية" المكونة من الثوم وصلصة الطماطم والكزبرة، وأخيراً الطبقة العلوية المكونة من اللحم بقطع كبيرة ويُرص بطريقة دائرية على سطح الطبق. أما التمر فيُنقع في آنية من الفخار قبل ساعات من موعد تقديم وجبة "الرحمتات"، ليحتفظ ببرودته ويُقدم مع الطعام.
ثقافة الطعام تنتقل وتتطور مثل العلوم والآداب، في المجتمعات البدائية والمتحضرة على السواء. وفي حالة "الرحمتات"، فقد انفلتت "الفتة" من أصلها لتصبح مضاهية للواقع السوداني، مؤصلة لهدف آخر في التكافل، وانتقلت من موائد الأمراء العثمانيين إلى موائد العامة، يوزعونها على الفقراء والمحتاجين، وغير بعيدة من واقع الحياة اليومية، ومحتفظة بخصوصية المناسبة وهدفها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتختلف الوجبة المكونة في "الرحمتات" باختلاف وتنوع مناطق السودان، ومع أن "الفتة" هي السائدة في أجزاء واسعة، خصوصاً في الوسط والشمال، إلا أن مناطق أخرى في الشرق لها طبقها الخاص الذي يُقدم في هذه المناسبة، وتتكون "الرحمتات" هناك من بليلة ذرة تطبخ في وعاء كبير من الفخار، عند مدخل المنزل. ويوضع الإناء على نار كبيرة مشتعلة من الحطب، يتصاعد دخانها إلى أعلى. والمُعتقد المرتبط بمكان طبخ الذرة عند الباب هو أن الدخان المتصاعد يصل إلى السماء ويجلب الخير لأهل المنزل. وبعد أن تنضج الذرة، يوضع عليها السكر والزيت وتقدم للأطفال بعد العصر وقبل مغرب اليوم، إذ ينادي الأطفال على طير الرهو الذي يكون في رحلته اليومية عبر أراضي "البجا"، ويترنمون بأهازيج بلغة البجا (البداويت) داعين لمن يقدم لهم البليلة بالخير والنماء، وهناك معتقد بأن الأطفال دعوتهم مستجابة.
تكافل مستمر
تعبر "الرحمتات" عن التكافل الاجتماعي، ولكثرة الطعام والشراب المقدم في هذه الليلة يسميها البعض ليلة التوسعة، وهذه العادة هي أحد أنواع التمسك ببعض العادات التكافلية في السودان، مثل خروج أفراد الأسرة من الرجال والأطفال بإفطارهم لتناوله في الطرقات مع العابرين، وقطع الطريق على المارة، سواء أكانوا داخل أحياء المدن أو في الطرق السريعة وإجبارهم على تناول الإفطار قبل مواصلة مسيرهم، وهي من العادات السودانية الباقية على الرغم من الظروف الاقتصادية التي أثرت في كمية الطعام ولم تؤثر في أصل العادة ونوعية الطعام المُقدم.
وعلاقة هذه العادات التكافلية عموماً ومنها "الرحمتات" بالظواهر الاجتماعية المتغيرة، ظل مثار جدل كبير، وما إذا كان جيل اليوم قادراً على الاستمرار في المحافظة عليها، لضرورة اقتضتها الظروف الاقتصادية العاصفة التي انعكست على بنية التكافل ووظيفته وعلاقته بالمجتمع، وكذلك الظروف الاجتماعية من هجرة وغيرها.
هذه الطقوس التكافلية تُمارس بشكل جماعي على مستوى الأسرة النووية في القرى والأرياف وما يُسمى بـ"البيت الكبير" الذي يجمع الأبناء وزوجاتهم والبنات وأزواجهن وأبناءهم، لكنها تختلف في المدن، ففي أغلبها تُمارس بشكل فردي وبسيط. ومن سمات التكافل كأن يمد الجار لجاره من زاده أو يتكفل القريب المقتدر بالمصاريف الدراسية للطلاب المحتاجين من العائلة الممتدة، أو علاج أحد المرضى وغيرها. كما يمارسه بشكل جماعي في الأفراح والأتراح بأشكال مادية وعينية تتنوع بتنوع تلك المناسبات، ما يدل على أن هذه الثقافة الإنسانية المستمرة في ثوبها السوداني تحاول الانفلات من عقال الظروف السيئة أملاً في الاستمرار.
وهناك كثير من الأسر تهتم بـ"الرحمتات" من منظور نفسي وثقافي واجتماعي، باعتبارها سلوكاً تكافلياً، كصدقة تتم وفق عادات اجتماعية مميزة، وعلى الرغم من كل الظروف الاقتصادية والغلاء، يحاول المجتمع السوداني في مثل تلك المناسبات مشاركة أفراده، فلا يشعر الفقير بفقره، ولا يطغى الغني بغناه.