على مدى أكثر من 70 عاماً ظل علماء الفلك يرسلون ويحاولون التقاط إشارات لاسلكية وضوئية في محاولة للبحث عن حضارات أخرى خارج كوكب الأرض نظراً لأن العلماء أصبحوا يثقون بوجود حياة ذكية عاقلة في نحو 300 مليون كوكب يمكن أن تكون صالحة للحياة في مجرة درب التبانة وحدها، ولهذا ستبدأ خلال أشهر قليلة محاولتان جديدتان للتواصل مع حياة ذكية محتملة في الفضاء، فما الجديد الذي تحمله هذه الرسائل، ومن يحق له التحدث باسم الأرض؟ ومتى يمكن أن تتلقى الأرض ردوداً؟ ثم هل من الحكمة التواصل مع كائنات فضائية؟
الصمت العظيم
وفقاً لبحوث وكالة ناسا الأميركية، فإن نصف النجوم المماثلة لدرجة حرارة شمسنا في مجرتنا "درب التبانة" وحدها تشمل كوكباً صخرياً قادراً على حمل الماء السائل على سطحه، وهذا يعني أن هناك احتمالاً لوجود 300 مليون كوكب يمكن أن تكون صالحة للحياة، كما يعتقد علماء الفلك أيضاً أن هناك فرصة جيدة لأن تطور أشكال الحياة في هذه الكواكب نوعاً من الذكاء الإدراكي والحكمة والتكنولوجيا التي تماثل أو ربما تتفوق على ما وصل إليه الإنسان من ذكاء وتطور تكنولوجي على سطح الأرض، ومع ذلك لم يتم التقاط أي إشارات وصلت إلينا من حضارة أخرى، وهو لغز يطلق عليه العلماء اسم "الصمت العظيم".
ولعل ذلك يعود إلى أن إرسال رسائل ذكية خارج الأرض، كان أقل شيوعاً على الرغم من أن البحث عن حياة ذكية عاقلة في الفضاء الواسع، ظل لفترة طويلة جزءاً من العلوم السائدة، بحسب ما يقول كريس إمبي، أستاذ علم الفلك في جامعة أريزونا والذي يجري بحوثاً تابعة لمنظمة غير ربحية تصمم رسائل لإرسالها إلى حضارات فضائية أخرى.
تاريخ من المحاولات
كانت المحاولات المبكرة للاتصال بأي نوع من الحياة خارج كوكب الأرض، أشبه بتلك الرسائل التي يضعها في زجاجة المفقودون على جزر نائية وسط المحيط، ويأملون في أن تدفعها الأمواج ليلتقطها شخص ما على الشاطئ فيأتي لإنقاذهم، ففي عام 1972، أطلقت وكالة ناسا مركبة فضائية تحمل اسم "بايونير 10" باتجاه كوكب المشتري تحمل لوحة عليها رسم خطي لرجل وامرأة ورموز لإظهار المكان الذي انطلقت منه المركبة، وفي عام 1977، تابعت وكالة ناسا هذا الأمر بإرسال سجل ذهبي شهير وألحقته بالمركبة الفضائية "فوييجر 1".
لكن هاتين المركبتين بالإضافة إلى توأمهما من مركبتي "فوييجر 2" و"بايونير 11"، غادرت جميعها النظام الشمسي، وأصبح احتمال العثور عليها من قبل كائنات تعيش في الفضاء الشاسع ضئيلاً جداً بشكل خيالي وفقاً لتقديرات علماء الفلك.
الإشعاع الكهرومغناطيسي
أطلق علماء الفلك من مرصد أريسيبو في بورتوريكو عام 1974، أول رسالة لاسلكية مصممة لسهولة التقاطها من الكائنات الفضائية المحتملة، حيث جرى تصميم سلسلة من الآحاد والأصفار لنقل معلومات بسيطة حول البشرية والبيولوجيا، وتم إرسالها في اتجاه ما يسمى الكتلة الكروية "أم 13"، وهي مجموعة كبيرة من النجوم القديمة المكدسة في شكل كروي والتي يصل عددها إلى 100000 نجم، ولكن نظراً لأن مجموعة "أم 13" تبعد 25000 سنة ضوئية عن الأرض، فليس من المتوقع تلقي أي رد إلا بعد عشرات الآلاف من السنين، إذا افترضنا وجود كائنات فضائية ذكية تمكنت من التقاط الإشارات الأرضية.
وإضافة إلى هذه المحاولات الهادفة للتواصل مع الكائنات الفضائية، فإن الإشارات الضالة من البث التلفزيوني والإذاعي تتسرب إلى الفضاء منذ ما يقرب من قرن، حيث يعتقد العلماء أن فقاعة الثرثرة الأرضية الإذاعية والتلفزيونية والتي تتوسع باستمرار، وصلت بالفعل إلى ملايين النجوم، لكنها على الأرجح ستكون ضعيفة جداً، لأن هناك فرقاً كبيراً بين الإطلاق المركّز لموجات الراديو من تلسكوب عملاق، وتسرب موجات البث التلفزيوني والإذاعي المنتشر على كوكب الأرض والتي تتلاشى إشاراتها الضعيفة في الفضاء الخارجي بعد وقت قصير من مغادرتها النظام الشمسي، بسبب تأثير الإشعاع الذي خلفه الانفجار العظيم في الفضاء.
رسائل جديدة
وبعد ما يقرب من نصف قرن من إرسال رسالة مرصد "أريسيبو"، يعتزم فريقان دوليان من علماء الفلك بدء محاولات جديدة للتواصل مع الكائنات الفضائية، أحدهما يستخدم تلسكوباً لاسلكياً جديداً عملاقاً، والآخر يختار هدفاً جديداً لكنه قريب من الأرض، حيث من المنتظر أن يرسل علماء الفلك، إحدى هذه الرسائل الجديدة من أكبر تلسكوب لاسلكي في العالم (قطره 500 متر)، والذي يوجد في الصين خلال العام المقبل 2023، من خلال إطلاق سلسلة من النبضات الراديوية التي تشبه المعلومات الرقمية الآحاد والصفرية على مساحة واسعة من السماء.
ويُطلق على الرسالة اسم "منارة المجرة" كنوع من الإرشاد والهداية للكائنات الفضائية كي يسهل عليها تحديد موقع الأرض وفهم شكل الحياة على كوكبنا، حيث تتضمن الرسالة الأعداد الحسابية وكيفية عملها، والكيمياء الحيوية الخاصة بالحياة، وأشكال البشر في عالمنا، وموقع كوكب الأرض والحسابات الزمنية الخاصة به.
ويرسل الفريق هذه الرسالة إلى مجموعة فضائية تتكون من ملايين النجوم توجد بالقرب من مركز مجرة درب التبانة التي توجد الأرض على أطرافها، بما يؤدي إلى زيادة عدد الكائنات الفضائية المحتمل أن تلتقط الرسالة إلى الحد الأقصى، غير أن هذه المجموعة توجد على بعد حوالى 10 آلاف إلى 20 ألف سنة ضوئية من الأرض، ما يعني مرور عشرات الآلاف من السنين قبل أن تتلقى الأرض رداً.
أما المحاولة الأخرى، فهي تستهدف نظاماً نجمياً واحداً أشبه بالنظام الشمسي للأرض، ولكن مع إمكانية الرد بشكل أسرع، ففي 4 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري 2022، سيرسل فريق من محطة غونهيلي الفضائية الأرضية في بريطانيا، رسالة نحو نجم يدعى "ترابيست 1" والذي يدور حوله سبعة كواكب، ثلاثة منها عوالم شبيهة بالأرض في ما يسمى "منطقة غولديلوكس" ما يعني أنها يمكن أن تحتوي على سوائل وربما نوع من الحياة فوق سطحها.
ويبعد "ترابيست 1" نحو 39 سنة ضوئية فقط، لذلك قد يستغرق الأمر ما لا يقل عن 78 عاماً لتلقي الكائنات الفضائية الذكية المحتملة هذه الرسالة وتتلقى الأرض الرد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسئلة أخلاقية
تثير احتمالية الاتصال بالكائنات الفضائية كثيراً من الأسئلة الأخلاقية، ومن بين هذه الأسئلة من يحق له التحدث باسم الأرض؟ وفي غياب وجود قوانين دولية تنظم عمليات الاتصال هذه، لماذا تظل القرارات المتعلقة بالرسائل الفضائية التي يجب إرسالها وأين يتم إرسالها، تقتصر على مجموعة صغيرة من العلماء المهتمين؟ ثم أن هناك أيضاً سؤالاً أعمق بكثير، وهو أنه إذا كنت تائهاً في الصحراء أو في غابة، فقد يكون العثور عليك أمراً جيداً، لكن عندما يتعلق الأمر بما إذا كان يجب على البشرية أن تبث رسالة إلى كائنات فضائية مجهولة ولا يعرف أحد نواياها أو سلوكياتها، فإن الإجابة تكون خلافية وغير واضحة.
وعلى سبيل المثال، عبر العديد من العلماء البارزين، مثل ستيفن هوكينغ قبيل وفاته، عن مخاوفهم بشأن الكشف عن موقع وجودنا للحضارات الأخرى، والتي قد ترى في وجود منافس خطراً عليها، لأن الحضارة الفضائية المجهولة قد تكون خبيثة وإذا أعطيت موقع الأرض لهم، فقد تدمر البشرية، كما اقترح ديفيد كيبينج عالم الفلك في جامعة كولومبيا الأميركية بناء آلية يمكن من خلالها إخفاء الأرض عن أي حضارة فضائية أخرى، لكن هذه المخاوف تنبع إلى حد كبير من الفصول المظلمة من تاريخ البشرية، عندما تدمر حضارة أكثر تقدماً، حضارة أخرى أقل تقدماً، ولهذا لا يرى آخرون أي أخطار إضافية، لأن الحضارة المتقدمة ستعرف بالفعل وجودنا وموقعنا في هذا الكون، ونظراً لعدم وجود لوائح دولية تحكم إرسال رسائل إلى الكائنات الفضائية خارج الأرض، فسوف تستمر التجارب، على الرغم من المخاوف.
لماذا لم يتصلوا بنا؟
غير أن علماء فلك آخرين مثل روبرت شيرر، رئيس قسم الفيزياء والفلك في جامعة فانربيلت، يطرح أسئلة أخرى عن السبب في عدم اتصال الحضارات الفضائية المحتملة بنا، إذا كانت موجودة وذكية ومتقدمة، وهو ما يتطلب قدراً من التدقيق، حيث كان أول شخص تناول هذا السؤال بطريقة منهجية هو فرانك دريك، الذي اخترع معادلة دريك المعقدة للتنبؤ بعدد الحضارات خارج كوكب الأرض في المجرة، والتي يمكن تبسيطها في أن هناك مليارات من النجوم التي اكتشف العلماء خلال العشرين عاماً الماضية وجود كواكب حولها، ومن المحتمل أن يكون عدد كبير منها من الكواكب المعتدلة الحرارة بما يتيح وجود ماء سائل على سطحها والذي يعد أساس كل أشكال الحياة على الأرض.
ولكن ما مدى احتمالية تطور الحياة على كوكب قد يكون صالحاً للحياة؟
لا توجد إجابة واضحة حتى الآن، لكن الحياة على الأرض بدأت بعد فترة وجيزة جداً من تكوين نظامنا الشمسي، وانتشرت في كل مكان متاح، حيث تزدهر مستعمرات من المخلوقات الغريبة التي تعيش وسط ظلام دائم بالقرب من فتحات أعماق المحيط، حيث تنبعث مياه شديدة الحرارة غنية بالكبريت من تحت الأرض، كما تعيش كائنات في النيتروجين السائل أو الكحول المغلي، لذا فإن احتمال تطور الحياة في عوالم صالحة للعيش يبدو مرتفعاً جداً، ومع ذلك فإن احتمالية تطوير هذه الحياة لتصبح ذكية وعاقلة، يظل سؤالًا مفتوحاً، لأنه لا يوجد دليل يعرفه العلماء، لكن العديد منهم يعتبرون أن الحياة الذكية أمر لا مفر منه تقريباً، ولهذا يرى البعض أنه يجب أن يتعاون البشر مع الحضارات الفضائية.
أين هم؟
وإذا كانت المجرة تعج بالكائنات الفضائية، فأين هم؟
يعد السفر بين النجوم محدوداً لأنه يتطلب سرعة مماثلة أو أقرب من سرعة الضوء، لذلك ليس من المستغرب ألا يزورنا أحد، ومع ذلك فقد طرح هذا السؤال الشهير، عالم الفيزياء الإيطالي إنريكو فيرمي، الذي يشير إلى أن جميع حججنا تقول إن الحضارات الفضائية يجب أن تكون شائعة، ومع ذلك لم نر أي علامة على وجودها.
وللإجابة على ذلك، فإن أحد الاحتمالات هو أن الحياة الذكية نادرة حقاً، ففي حين قد تكون الظروف الملائمة لوجود حياة خارج كوكب الأرض شائعة، إلا أن الحياة الذكية نادرة، فبالنظر إلى كيفية تطور الحياة على كوكب الأرض في غمضة عين نسبياً بعد ولادة النظام الشمسي، فقد استغرق الأمر مليارات السنين قبل أن نظهر نحن الأذكياء في المشهد، ولا يعني ذلك أن البقاء للأصلح أو الأذكى، ففي حين أن الذكاء هو بالتأكيد سمة بقاء مفيدة، إلا أنه ليس حتمياً، فمن دون الكويكب الضال الذي ضرب الأرض قبل ملايين السنين، فقد تظل الديناصورات تحكم العالم حتى الآن.
احتمالات أخرى
أما الاحتمال الآخر بحسب بعض النظريات، فهو أن الحياة الذكية تدمر نفسها حتماً، فحتى وقت قريب، كانت ولا تزال هناك خيارات متاحة للتدمير الذاتي الكامل على الأرض باستخدام الأسلحة النووية، بينما تتسع دائرة أسطول التدمير لتشمل الفيروسات المعدلة وراثياً، والأمراض المعدية، والآلات الروبوتية والنانوية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي وقد تدمر البشرية إذا تطور نظام ذكاؤها على البشر وخرجت عن السيطرة، وهو ما يناقشه عالم الفلك البريطاني مارتن ريس الذي يتحدث عن الاحتمالات الكارثية في كتابه "ساعتنا الأخيرة"، وعلى هذه الفرضية قد يكون جميع زوارنا الفضائيين المحتملين قد تعرضوا للتدمير الذاتي.
لكن تظل هناك احتمالات أخرى منها أن المجرة تتضمن بالفعل أشكالاً أخرى من الحياة الذكية، لكن شيئاً ما يمنع الاتصال بنا؟ فقد تكون المجرة مكاناً خطيراً، مليئاً بالمسبارات والأجهزة الآلية القاتلة التي ترسلها كائنات فضائية معادية للقضاء على أي منافسة، لذا فإن الآخرين يختبئون، ولهذا ربما لم يكن علينا حقاً أن نضع وصفاً تفصيلياً لموقع نظامنا الشمسي على مجسات الفضاء الخاصة بنا.
ويبقى الاقتراح الأكثر غرابة، وهو أن الحضارات المتفوقة قررت تجنب الاتصال بكائنات أقل مثلنا، حتى نظل نعيش في نوع من حديقة الحيوانات الكونية، تشبه تلك اللافتة التي توضع في حدائق الحيوان وتقول: "لا تتحدث مع الحيوانات".
وفي ظل هذه الاحتمالات والفرضيات، يبقى الفضائيون الأذكياء في عالم الخيال العلمي، بينما يظل الشكل الذي قد يبدو عليه نجاح جهود إرسال رسائل ذكية خارج الأرض غير معروف، فقد لا ينتهي الأمر بخير للبشرية، لكن الأمل يظل معقوداً في أن يأتي الفضائيون بسلام.