إلى جمهوره السني الغاضب... كان كلام رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري موجهاً بالدرجة الأولى، عندما وقف معلناً أنه "لا يمكن أن يبقى ساكتاً على الخطأ وعلى أي كلام غير مقبول يمسّ بالكرامات ويتجاوز الخطوط الحمر والدستور والأصول والأعراف".
تبنى بيان رؤساء الحكومات السابقين وكلام مفتي الجمهورية اللبنانية، والنائب ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، والتقى بالمضمون، مع ما تخوف منه المعارضون من طائفته ومنهم من يعتبرهم، طامحين إلى رئاسة الحكومة. وقف متحدثاً عن حليفه في التسوية الرئاسية رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجية جبران باسيل، فوصف كلامه عن السياسية السنية بزلة لسان، مبرراً له نفيه كلاماً موثقاً، واكتفى بالتمني لو أنه عجّل في نفيه.
صلاحيات رئاسة الحكومة
واعتبر الحريري انه امتصّ غضب شارعه الخائف على صلاحيات رئاسة الحكومة، من دون أن يغضب شريكه في التسوية الرئاسية، بدليل أن أي موقف لم يصدر عن التيار الحر، ولا عن أي من نوابه أو وزرائه تعليقاً على مؤتمره، بل بالعكس فإن أوساط باسيل أكدت ألا مشكلة مع الحريري وأن المحيطين به هم من يفتعلون المشاكل.
هكذا، جرى احتواء عاصفة الفنجان بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، وأعيدت الأمور إلى طبيعتها، فزار الحريري قصر بعبدا مستكملاً جولة الاستيعاب، ومن هناك دعا إلى تفعيل العمل الحكومي ووقف خطابات التوتير.
التسوية الجوفاء...
أنقذ الحريري بصدره التسوية مجدداً من دون أن يحدد لها شروطاً أو سقوفاً أو قواعد جديدة، ما دفع مسؤولاً كبيراً إلى وصفها بالتسوية الجوفاء المرشحة للسقوط مع أي تطور إقليمي يمكن أن يطرأ، وما أكثر التطورات.
ويعدد المحيطون بالرئيس الحريري تجاوزات رئيس التيار الوطني الحر لصلاحيات رئيس الحكومة التي لا تحصى، والانطباع السائد داخل الطائفة السنية أن باسيل يتجاوز بشكل فادح رئيس الحكومة ويتعاطى بشكل فوقي معه مستفزاً جمهور المستقبل خصوصاً والطائفة السنية عموماً، وكم من تجاوزات ومخالفات للطائف ترتكب باسمك ولا تزال أيتها "التسوية".
معركة الصلاحيات
وانطلق عهد رئيس الجمهورية ميشال عون وبدأت معه معركة الصلاحيات بين رئاستي الجمهورية والحكومة، وإن كانت مستترة خجولة في البدايات، بيان مجلس الوزراء الصادر عن قصر بعبدا، والذي اعتمد صيغة "ترأس رئيس الجمهورية الجلسة بحضور رئيس الحكومة"، استفز محيط الحريري ورؤساء الحكومات السابقين الذين اعتبروا النص تجاوزاً متعمداً لاتفاق الطائف.
وخرجت معركة الصلاحيات إلى العلن في أكثر من محطة، أبرزها إعداد وزير العدل السابق سليم جريصاتي المحسوب على رئيس الجمهورية، مطالعة قانونية نصت على إمكانية تعديل اتفاق الطائف لجهة استرداد صلاحيات أُخذت من رئيس الجمهورية وأُعطيت لرئيس الحكومة، ولم يتوان التيار الوطني الحر ورئيسه عن اعتماد ما جاء في المطالعة في ممارساته في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي كل مفارق الشركة في إدارة شؤون الدولة.
معايير جديدة للتأليف
والمشهد تجلى فاقعاً في مرحلة تأليف الحكومة، والمهمة التي ينيطها الدستور اللبناني حصراً بالرئيس المكلف، فكانت صولات وجولات واجتماعات في وزارة الخارجية، أرست معايير جديدة للتأليف، كانت تسرَّب إلى الإعلام، حتى طرح المراقبون السؤال: من يؤلف الحكومة، الحريري أم باسيل؟
وفي السياق نفسه، خاض رئيس التيار معركة تمثيل نواب اللقاء التشاوري السني المعارض للحريري، الذي جرى تجميعه على عجل من كتل مختلفة هجينة لا يجمع بينها سوى تبعيتها للنظام السوري وحزب الله، فحصل تمثيل اللقاء المذكور وفق معيار جديد ابتدعه باسيل ويقول بحق كل أربعة نواب إنشاء كتلة وتمثيلها بوزير، وقضَم التمثيل حصة الرئيس الحريري من الوزراء السنة.
استطاع تأخير ولادة الحكومة
واستطاع باسيل، ودائماً خلافاً للطائف، وباسم التسوية الرئاسية، تأخير ولادة الحكومة حتى كان له ما أراد، فحصل على ثلث معطل وحصة فضفاضة لرئيس الجمهورية، فبات "الثلث" سلاحاً يهدد به ضمناً بإسقاط الحكومة كلما دعت الحاجة. وفي التعيينات الإدارية، حصل باسيل على كل المراكز المسيحية ولم تعتمد آلية التعيينات المقررة في مجلس الوزراء، وبقي رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان شاغراً بسبب رفض رئيس الجمهورية الأسماء التي نجحت وفق الآلية العلمية التي يقول بها القانون والتي اعتمدها وزير الإعلام القواتي ملحم رياشي.
تصرف رئيس التيار الحر جبران باسيل مدعوماً من رئيس الجمهورية بالتشكيلات القضائية الأولى بداية العهد، فدفع بتجاوزاته رئيس مجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر إلى الاستقالة المبكرة من السلك، وهو شارك في وضع نظام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وعيّن قاضياً مقرباً من التيار بدلاً منه.
الآمر الناهي باسم التسوية
وفي التعيينات القضائية أيضاً، جرى تجاوز رغبة الرئيس الحريري في إبقاء مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر، وعيّن مكانه القاضي بيتر جرمانوس الذي يدعو الحريري إلى اتخاذ إجراء مسلكي بحقه بعد انصياعه في أكثر من ملف قضائي لرغبة التيار الحر، ويستخدمه التيار في حربه على المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان وفرع المعلومات غير الخاضعَين للتيار.
وباسم التسوية، صار باسيل الآمر الناهي في كل الملفات، ولم يراع شريكه في الوطن ولا شريكه المسيحي الذي وصل العماد عون بفضل دعمه إلى قصر بعبدا، واستفز باسيل الطائفة السنية في عقر دارها، عندما اتهمها بالتسلق على جثة المارونية السياسية مطالباً بالحقوق السليبة للمسيحيين. وفي جلسات مناقشة الموازنة، تجاوز باسيل دور رئيس الحكومة، فكان كلما أعلن الحريري الانتهاء من النقاش محدداً آخر جلسة، يعود باسيل ويصر على التمديد فكانت 19 جلسة كما أراد رئيس التيار.
لزم باسيل الصمت
ولزم باسيل الصمت عندما هاجم حليفه حسن نصر الله موقف الرئيس الحريري في القمتين العربية والإسلامية في مكة المكرمة، إذ اعتبر أن موقف الحريري في السعودية لا يمثل لبنان. هذا غيض من فيض تجاوزات باسيل في حق الرئيس الحريري وما يمثل طائفياً وفي معادلة الطائف، وما يخيف عقلاء الطائفة السنية واللبنانيين الحريصين على الصيغة والتوازن، أن الحريري مستعد دائماً لأن يلدغ من الجحر تكراراً ولا يعدم وسيلة من اجتراح الأعذار المخففة لما يرتكبه حلفاؤه الألداء.