في اليوم الذي اندلعت فيه حرب أوكرانيا، قال الرئيس الأميركي، جو بايدن، إن الغرب سيتأكد من أن روسيا ستصبح دولة منبوذة على المسرح الدولي، لكن بعد أسابيع قليلة تأكد الجميع أن روسيا بالنسبة لكثير من الدول المؤثرة في العالم غير الغربية، ليست دولة منبوذة كما ظن الغرب، بل إن أكثر من نصف سكان العالم لا يدينون روسيا على ما قامت به في أوكرانيا، فلماذا كانت حسابات الغرب خاطئة؟ وكيف سيؤثر ذلك على وضع روسيا والحسابات الجيوسياسية في المستقبل؟
فجوة جيوسياسية
بعد مرور أكثر من شهرين على بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، بدا المسؤولون الغربيون أكثر إدراكاً بأن الجهود الأميركية والأوروبية المشتركة لجعل العالم "غير الغربي" موحداً معهم في إدانة روسيا وجعل الرئيس فلاديمير بوتين منبوذاً لم تحقق مرادها، بل إن الحقيقة غير المريحة للغرب هي أن عديداً من الدول لا ترى فائدة اقتصادية أو سياسية تُذكر في تجنب التعامل مع الكرملين، بحسب ما قالت صحيفة "وول ستريت جورنال" قبل أيام، والتي اعتبرت أن هناك فجوة جيوسياسية تستغلها روسيا بقوة في سعيها لإضعاف الجهود الغربية.
وبدت هذه الصورة، بشكل واضح، حين انقسمت مجموعة دول العشرين بالتساوي حول حضور الرئيس بوتين قمتها السنوية هذا العام في إندونيسيا، ومن المتوقع أن تكون هناك معارضة أقل بكثير عندما ينضم بوتين إلى قادة الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا في قمة "بريكس 2022" المقررة في الصين، وهو التجمع الاقتصادي الذي يضم أكثر من 40 في المئة من سكان العالم، كما أبدت دول أخرى مكتظة بالسكان مثل باكستان وإندونيسيا وبنغلاديش والمكسيك وغالبية دول الشرق الأوسط وعدد من دول عدم الانحياز، رغبتها في الحفاظ على العلاقات التجارية وغيرها من الروابط الأخرى مع روسيا، التزاماً بسياسة الحياد حول الحرب في أوكرانيا، وهو ما يثير قدراً كبيراً من مشاعر الإحباط في الغرب الممتزج بعلامات استفهام حول أسباب ابتعاد كثير من الدول عن الاستجابة للدعوات الغربية.
وعلى الرغم من أن عمليات التصويت الثلاث في الأمم المتحدة منذ بدء الحرب، انتهت بإدانة روسيا مرتين لهجومها على أوكرانيا، إضافة إلى تعليق عضويتها في مجلس حقوق الإنسان، فإن الدول التي امتنعت عن التصويت أو صوتت ضد القرارات، تصل إلى أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، وهو ما يشير إلى أن العالم ليس موحداً في الرأي القائل إن الهجوم الروسي غير مبرر، وإن جزءاً كبيراً ومهماً من العالم ليس مستعداً لمعاقبة روسيا على أفعالها، ما سوف يعقد قدرة الغرب على إدارة العلاقات مع الحلفاء، ليس فقط الآن، ولكن أيضاً عند انتهاء الحرب، بحسب ما تقول أنغيلا ستينت الباحثة في معهد "بروكينغز"، ولكن ما السبب في أن العديد من الدول المؤثرة غير الغربية حول العالم، أبقت على علاقاتها متصلة وفاعلة مع روسيا؟ وهل تختلف الدوافع من دولة لأخرى؟
الدور الصيني
طوال العقد الماضي، عملت روسيا على تنمية العلاقات مع كثير من الدول في كل من الشرق الأوسط وآسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، وهي مناطق انسحبت منها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، حيث دأب الكرملين على التودد إلى الصين منذ ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وعندما سعى الغرب لعزل روسيا، تدخلت بكين لدعم موسكو، ووقعت معها صفقة ضخمة لخط أنابيب غاز سيبيريا، ولولا إدراك المسؤولين في روسيا أن الصين ستدعم موسكو مجدداً، لما غامر الرئيس بوتين بالهجوم على أوكرانيا بحسب ما يقول موقع "فورين بوليسي"، الذي يدلل على ذلك بالبيان الروسي - الصيني المشترك في الرباع من فبراير (شباط)، والذي تم التوقيع عليه عندما زار بوتين بكين في بداية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، وأثنى على شراكة بلا حدود بينهما، والتزامهما بمقاومة الهيمنة الغربية، على الرغم من تأكيد السفير الصيني لدى الولايات المتحدة، أنه لم يتم إبلاغ الرئيس الصيني شي جينبينغ بخطط بوتين في أوكرانيا عندما التقى الاثنان في بكين.
وبغض النظر عن تفسير مدى قوة العلاقة بين موسكو وبكين، فلا يمكن إنكار أن الصين قد دعمت روسيا منذ بدء هجومها، وامتنعت بكين عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة روسيا، وصوتت ضد قرار تعليق عضويتها في مجلس حقوق الإنسان، وتكرر وسائل الإعلام الصينية، الخطاب الروسي حول ضرورة نزع سلاح أوكرانيا وفي إلقاء اللوم على الولايات المتحدة وحلف "الناتو" في الحرب.
وعلى الرغم من دعوة الصين إلى إنهاء الحرب، وتأكيد أهمية وحدة أراضي وسيادة كل الدول بما في ذلك أوكرانيا التي تعد الصين الشريك التجاري الأول لها، فإن الصينيين اختاروا التحالف مع الروس ضد النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، ويعتقدون أنه أهمل مصالحهم، ويبدو أنهم عازمون أيضاً على إنشاء نظام عالمي جديد بعد انهيار أو اضمحلال الهيمنة الغربية، على الرغم من اختلافهما في الشكل الذي يجب أن يبدو عليه هذا النظام، وفي إطار هذا التصور، تحتاج كل من الصين وروسيا إلى بعضهما البعض، ولا تزال بكين غير مستعدة للتحدث ضد روسيا، على الرغم من أن المؤسسات المالية الصينية الكبرى امتثلت حتى الآن للعقوبات الغربية.
أكبر زبون لأسلحة روسيا
أما الهند التي تعد أكبر ديمقراطية في العالم وشريك للولايات المتحدة في الحوار الأمني الرباعي، مع اليابان وأستراليا، فقد رفضت معاقبة روسيا، وامتنعت عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة الثلاثة، واكتفت بالتعبير عن قلقها حيال تقارير الحرب، وإدانة عمليات القتل، بينما اعتبر وزير الخارجية الهندي سوبرامنيام جايشانكار أن روسيا شريك مهم للغاية في مجموعة متنوعة من المجالات، وأن الهند تواصل شراء النفط والأسلحة الروسية التي تجعلها أكبر زبون للأسلحة بالنسبة لموسكو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلاوة على ذلك، لدى نيودلهي أسباب عدة لرفض إدانة روسيا، حيث تنظر إليها على أنها عامل توازن مهم ضد الصين، فقد عملت روسيا على نزع فتيل التوترات الهندية الصينية بعد الاشتباكات الحدودية التي وقعت بينهما عام 2020، فضلاً عن أن الهند اتبعت سياسة حياد تقليدية استمرت طوال الحرب الباردة وزرعت الشك تجاه الولايات المتحدة، وخلقت تعاطفاً شعبياً كبيراً مع روسيا في الهند.
العودة إلى الشرق الأوسط
ولا يختلف المراقبون في أن أحد النجاحات الرئيسة التي حققها بوتين في السياسة الخارجية خلال العقد الماضي هو عودة روسيا إلى الشرق الأوسط، وإعادة العلاقات مع الدول التي انسحبت منها روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وإقامة علاقات جديدة مع دول لم تكن لها علاقات سابقة مع موسكو، حتى أصبحت روسيا الآن القوة الكبرى الوحيدة التي تتحدث مع كل دول المنطقة، السنية والشيعية ولديها علاقات مع مختلف الأطراف.
وعلى الرغم من أن معظم الدول العربية صوتت لإدانة الهجوم الروسي في أول تصويت للأمم المتحدة، فإن الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية البالغ عددها 22 دولة لم تفعل ذلك لاحقاً، حيث امتنع عديد من الدول العربية عن التصويت على تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، ولم يفرض حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، عقوبات على روسيا.
وفي حين أرسلت إسرائيل مستشفى ميدانياً ومساعدات إنسانية أخرى إلى أوكرانيا، إلا أنها لم ترسل أسلحة، كما عمل رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت لفترة وجيزة كوسيط بين روسيا وأوكرانيا، لكنه فشل، ومع ذلك ظل موقف إسرائيل يرتبط إلى حد كبير بدعم روسيا نظام بشار الأسد في سوريا، حيث توجد كل من القوات الروسية والإيرانية، ولا ترغب إسرائيل في استعداء روسيا بسبب اتفاق تفادي التضارب مع روسيا، والذي يتيح لإسرائيل ضرب أهداف إيرانية في سوريا.
وبالنسبة لعديد من دول الشرق الأوسط، فإن موقفها تجاه روسيا يتحدد من خلال تشككها في الولايات المتحدة كشريك غير موثوق به في المنطقة وغضبها من التوترات التي تحدث مع الولايات المتحدة بين حين وآخر.
رفيق نضال
وبالنسبة لعديد من الدول الأفريقية، ينظر إلى روسيا على أنها وريث الاتحاد السوفياتي، الذي دعمها خلال نضالاتها ضد الاستعمار، وكان داعماً رئيساً للمؤتمر الوطني الأفريقي خلال حقبة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وتشعر القيادة الحالية هناك بالامتنان تجاه روسيا، وكما هي الحال في الشرق الأوسط، يلعب عدم الارتياح تجاه الولايات المتحدة أيضاً دوراً في التأثير على وجهات النظر الأفريقية بشأن الهجوم الروسي على أوكرانيا.
وإضافة لذلك، أدت عودة روسيا إلى أفريقيا في السنوات الأخيرة والدعم الذي تقدمه مجموعة القوات المرتزقة "فاغنر" للزعماء المحاصرين هناك، إلى ظهور قارة رفضت إلى حد كبير إدانة أو معاقبة روسيا، حيث امتنعت معظم الدول الأفريقية عن التصويت لإدانة موسكو، وصوت العديد ضد تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان، ولم توجه جنوب أفريقيا أي انتقادات لروسيا.
الفناء الخلفي
وحتى في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، يوجد لروسيا مشجعون، فقد دعمت كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا موسكو كما هو متوقع، لكن البعض الآخر رفض أيضاً إدانة روسيا، فقد أعلنت البرازيل، موقفها المحايد، وزار الرئيس جايير بولسونارو بوتين في موسكو قبل وقت قصير من بدء الهجوم الروسي، وأعلن نفسه متضامناً مع روسيا، بينما لا تزال البرازيل تعتمد بشكل كبير على واردات الأسمدة الروسية.
لكن أكثر ما يثير قلق واشنطن هو رفض المكسيك الانضمام إلى جبهة مشتركة في أميركا الشمالية مع الولايات المتحدة وكندا، حتى إن حزب "مورينا" الذي يتزعمه الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، أطلق ما يسمى "تجمع الصداقة بين المكسيك وروسيا" في مجلس النواب بالكونغرس المكسيكي في مارس (آذار)، ودعا السفير الروسي لإلقاء كلمة في المؤتمر الحزبي، الأمر الذي يفسره محللون بأنه يعود إلى معاداة اليسار التقليدي لأميركا على غرار فترة السبعينيات.
النصف الأكثر فقراً
وفي حين تمثل باقي الدول المؤيدة للغرب في حرب أوكرانيا أكثر من نصف سكان العالم، لكنها في الواقع تشكل النصف الأكثر فقراً، الذي يشمل عديداً من البلدان الأقل نمواً والأضعف تأثيراً في المجتمع الدولي، ومع ذلك، فإن الناتج المحلي الإجمالي والقوة الاقتصادية، والثقل الجيوسياسي للدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة، يفوق تأثير الدول التي رفضت إدانة روسيا أو معاقبتها، لكن الانقسامات الحالية بين الغرب وبقية الدول التي رفضت إدانة روسيا ستشكل أي نظام عالمي يظهر بعد انتهاء الحرب.
ما بعد الحرب
وتتوقع أنغيلا ستينت أنه في أعقاب هذه الحرب الدموية، ستعزز الولايات المتحدة وجودها العسكري في أوروبا، ومن المرجح أن تنشر قواتها بشكل دائم في دولة واحدة أو أكثر على الجانب الشرقي لحلف "الناتو"، حيث كان أحد أهداف بوتين طويلة الأمد هو إضعاف هذا الحلف، لكن حرب أوكرانيا، حققت العكس تماماً، فقد أحيته، ومنحته هدفاً جديداً، ومع احتمال توسيع "الناتو" ليضم السويد وفنلندا، سيعود الحلف إلى سياسة احتواء روسيا.
لكن مع تشكل سحب حرب باردة جديدة في القرن الـ12، سترفض الدول غير الغربية الانحياز إلى أي طرف بالطريقة نفسها التي كان الكثيرون يفعلونها خلال الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، حيث ستعاود حركة عدم الانحياز التي سادت سنوات الحرب الباردة الظهور في تجسد جديد، وسيحافظ الباقون على علاقاتهم مع الكرملين حتى في الوقت الذي تعامل فيه واشنطن وحلفاؤها روسيا على أنها دولة منبوذة.