نحن نعيش في إيرلندا الشمالية في ظل لعبة دائمة من شد الحبل. يقف القوميون والجمهوريون في أحد طرفي الحبل ويقومون بجذبه في اتجاه إقامة علاقات أوثق مع جمهورية إيرلندا، ويتمثل هدفهم النهائي في الوصول إلى إيرلندا الموحدة. في المقابل، يقف الوحدويون والموالون عند الطرف الآخر من الحبل، ويشدونه في اتجاه بريطانيا، من أجل تعزيز مكانة إيرلندا الشمالية ضمن المملكة المتحدة.
لكل فعل هناك رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكس له في الاتجاه. ويعود هذا إلى أن القرارات السياسية يجري اتخاذها في سياق المسألة الدستورية [بقاء إيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة، أو انضمامها إلى جمهورية إيرلندا كي تشكلا دولة إيرلندا الموحدة]، مع إيلاء قدر ضئيل من الاهتمام إلى ما إذا كانت هذه القرارات ستجعل حياة الناس أفضل بشكل ملموس. وإذا أعطي إنش واحد، فإن ميلاً كاملاً سيؤخذ قبل أن يتعذر على الحبل تحمل التوتر والتجاذب فينقطع. يسقط الجمهوريون والموالون في الوحل الذي يتطاير ليصيب المتفرجين على المشهد الطائفي. جاء ذلك تاريخياً على شكل تفجيرات وقتل. أما اليوم، فإنه يجيء على هيئة انهيار الجمعية التشريعية.
قبل شهرين، سحب "الحزب الوحدوي الديمقراطي" الحبل من تحت "قلعة ستورمونت" [مقر الجمعية التشريعية] من خلال إسقاط السلطة التنفيذية لإيرلندا الشمالية بسبب البروتوكول الذي جاء من بين نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي [إذ وقع الطرفان بروتوكول خاص بشأن الحدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا]. وما يثير السخرية أن "الحزب الوحدوي الديمقراطي" قد ناضل من أجل تحقيقه [هذا الخروج الذي يعرف أيضاً بتسمية بريكست].
وعلى الرغم من الضرر الذي سيلحقه بريكست باقتصاد إيرلندا الشمالية، فإن "الحزب الوحدوي الديمقراطي" كان مستعداً للتضحية برفاهية مواطنيه الاقتصادية من أجل سحب إيرلندا الشمالية بعيداً من جمهورية إيرلندا عبر إنشاء نقاط مراقبة جمركية وحدود صلبة في أنحاء جزيرة إيرلندا [للفصل بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا].
ولهذا السبب فقد رفض الحزب الوحدوي الديمقراطي صفقة بريكست الناعمة [بمعنى الخروج التدريجي من الاتحاد الأوروبي والحفاظ على علاقات وثيقة به وعدم الانسحاب من السوق الموحدة والاتحاد الجمركي] التي وضعتها رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي، وكان من شأنها أن تسمح لإيرلندا الشمالية بالاستمرار في التجارة بحرية مع بريطانيا ومع الاتحاد الأوروبي. وبدلاً من ذلك، فقد اختار أن يقامر بميزان القوى الخاص به في البرلمان البريطاني، معتمداً على كلام بوريس جونسون. إذ تحدث جونسون في المؤتمر العام لـ"الحزب الوحدوي الديمقراطي"، مشيراً إلى أنه لن "يلحق الأذى بنسيج الاتحاد بين بريطانيا العظمى وإيرلندا الشمالية من خلال الرقابة التنظيمية والضوابط الجمركية"، ومعتبراً أنه ليس هناك من "حكومة بريطانية محافظة ستشارك في ترتيب من هذا النوع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لنتذكر تلك الكلمات التي قالها إدوارد كارسون، الأب المؤسس لإيرلندا الشمالية، "كم كنت أحمق! لقد كنت مجرد دمية، وكذلك كانت أولستر [إيرلندا الشمالية]، وكذلك كانت إيرلندا، في اللعبة السياسية التي سعت إلى إيصال حزب المحافظين إلى السلطة". ولا تزال كلماته هذه تنطبق اليوم [على الوضع في إيرلندا الشمالية] كما كانت قبل قرن مضى. ليس الخداع مجرد شذوذ غريب في عهد بوريس جونسون، بل إنه عنصر بالغ الأهمية في العلاقة المسمومة لآلة حزب المحافظين مع النزعة الوحدوية في "أولستر".
إذ يسمح ذلك الترتيب [وقد توصل إليه جونسون مع الاتحاد الأوروبي في سياق بريكست] الذي يعرف أيضاً باسم بروتوكول إيرلندا الشمالية أو "حدود البحر الإيرلندي"، لإيرلندا الشمالية بمزاولة التجارة بحرية مع جمهورية إيرلندا وأيضاً مع أوروبا، وبتصدير السلع بحرية إلى المملكة المتحدة، في الوقت الذي يجري فيه إخضاع بعض الواردات للتفتيش داخل موانئ في أنحاء إيرلندا الشمالية.
وهذا يجعل إيرلندا الشمالية المكان الوحيد الذي يتمتع بالقدرة على الوصول في شكل متزامن إلى هذه الأسواق. وقد جرى الاعتراف أخيراً بذلك في استطلاع حديث للرأي أظهر أن غالبية المشاركين فيه اعتبرت أن ذلك الترتيب "شيء جيد" بالنسبة لاقتصاد إيرلندا الشمالية.
كان يمكن أن ينسب الفضل في ذلك إلى "الحزب الوحدوي الديمقراطي"، إذ كان الحزب الرئيس الوحيد الذي نشط من أجل دعم بريكست. في المقابل، ينظر إلى تعزيز الروابط التجارية مع جمهورية إيرلندا وإنهاء التطابق في الإجراءات التنظيمية مع بريطانيا العظمى، بوصفهما عامل جذب في اتجاه علاقات أقوى مع جمهورية إيرلندا أو أنه يجذب الحبل باتجاه "إيرلندا موحدة اقتصادياً"، باعتبار أن التجارة بين شمال جزيرة إيرلندا وجنوبها قد ازدادت في عام 2021 بقيمة 2.3 مليار جنيه استرليني (نحو 2.87 مليار دولار). بالتالي، أدت المفارقة المتمثلة في أن تعزيز التعاون مع جمهورية إيرلندا مفيد لاقتصاد إيرلندا الشمالية، إلى خلق شرخ في "الحزب الوحدوي الديمقراطي"، ما أفضى إلى إطاحة الوزيرة الأولى [لإيرلندا الشمالية] آرلين فوستر في "انقلاب" قاده النائب إدوين بوتس الذي يؤمن بنظرية "خلق الأرض الفتية" [توجه ديني يؤمن أن الأرض وكائنتها خلقت إلهياً قبل ما لا يزيد على عشرة آلاف سنة]، وقد حل محله [زعيم الحزب الوحدوي الديمقراطي] جيفري دونالدسون منذ ذلك الحين.
والآن، مع إجراء انتخابات الجمعية التشريعية يوم الخميس الماضي، لمح "الحزب الوحدوي الديمقراطي" إلى أنه لن يتقاسم السلطة مع القوميين الإيرلنديين، علماً بأن هذا شرط مسبق ضروري لإنشاء سلطة تنفيذية على النحو المنصوص عنه في "اتفاق الجمعة العظيمة" [اتفاق وقع في 1998 بإشراف أميركي، وأنهى النزاع المسلح بين البروتستانت والكاثوليك في إيرلندا الشمالية]. بالتالي، لقد أصبح البروتوكول [المتعلق بالتجارة مع الاتحاد الأوروبي وإيرلندا الشمالية] آخر سلاح يستعمله "الحزب الوحدوي الديمقراطي" في إطار محاولته لجعل الانتخابات طائفية. وقد نظمت المسيرات المناهضة للبروتوكول في محافل "أخوية أورانج" [نظام أخوي بروتستانتي في إيرلندا الشمالية] وعلى ظهور مقطورات الشاحنات. وإذ لبسوا [الوحدويون] الأوشحة ولفوا أنفسهم بأعلام المملكة المتحدة، فقد حاولوا جمع أبناء أولستر من جديد، وهم يشددون قبضتهم على الحبل، رافضين السماح للشمس أن تغرب عن آخر معقل للإمبراطورية البريطانية، بيد أن صرخاتهم التي تعالت معلنة أن "لا استسلام"، باتت تقع على آذان صماء، إذ يبدو أن إعداد المشاركين في هذه المسيرات آخذة في التضاؤل.
في الوقت الحالي، يتصدر "شين فين"، وهو الحزب القومي الإيرلندي والجمهوري [بمعنى ميله إلى الوحدة مع جمهورية إيرلندا]، استطلاعات الرأي التي تدل على أن الوزير الأول سيكون قومياً للمرة الأولى في تاريخ إيرلندا الشمالية. وهذا من شأنه أن يجعل "شين فين" أكبر حزب في شمال جزيرة إيرلندا وجنوبها، وسيستخدم ذلك الوضع من أجل ممارسة الضغط على الحكومة البريطانية كي تسمح بإجراء استفتاء حول إعادة توحيد إيرلندا.
في المقابل، سعى "شين فين" إلى التقليل من أهمية ذلك الأمر. ولم يستجب إلى محاولات "الحزب الوحدوي الديمقراطي" لجعل الانتخابات تتركز على المسألة الدستورية، ما من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد التوترات. وبدلاً من ذلك، فقد تركز خطاب "شين فين" على الجماعية والتنوع.
وتوجد في إيرلندا الشمالية مجموعة من الأحزاب التقدمية، هي "التحالف"، و"الخضر"، و"الشعب قبل الربح"، التي تكسب أصوات عدد متزايد من الناخبين غير المنحازين [طائفياً أو قومياً]. ويمثل هؤلاء التهديد الحقيقي للوضع الراهن الراسخ، إذ يتخطون التمييز الثنائي بين القوميين والوحدويين. وكذلك فإن أذهانهم متحررة من قيود المسائل الدستورية، ومن ماضٍ يملك جذوراً عميقة تتعلق بمدى صحة بعض الأمور أو خطئها، ذلك أنهم يختارون أن يصوتوا بعقولهم قبل قلوبهم.
إن نهج حزب "شين فين" الناعم حيال الانتخابات، وسجله التقدمي حول القضايا الاجتماعية، وإيماءاته التضامنية مع الأحزاب التقدمية الأخرى، تمثل كلها إشارة إلى حل وسط. قد لا يعطي هؤلاء الناخبون أصواتهم التفضيلية الأولى لـ"شين فين"، لكن في ظل نظام انتخابي يقوم على التمثيل النسبي، فإن أصواتهم قد تتحول لمصلحته من أجل استبعاد "الحزب الوحدوي الديمقراطي"، بالتالي سيقرر أولئك الناخبون بشكل حتمي مصير إيرلندا الدستوري، في حال إجراء استفتاء على الوحدة الإيرلندية.
ولذا، ففي هذه الانتخابات، ألقى حزب "شين فين" الحبل، وانضم إلى حشد المتفرجين كي يراقب انغماس "الحزب الوحدوي الديمقراطي" في تربيط نفسه بعقد متشابكة. ثمة جيل جديد من الناخبين يريد أن يحرر نفسه من قيود الحبال التي ألّبت المجتمعين كليهما ضد بعضهما البعض على مدى قرن من الزمان.
نشر في "اندبندنت" بتاريخ 02 مايو 2022
© The Independent