تكرار الأخطاء لا يصنع حقاً ولا عُرفاً. والأخطر هي أخطاء الكبار المخطط لها في الصراعات الجيوسياسية والاستراتيجية. لكن توظيف أخطاء الخصوم مستمر في خدمة مغامرات عسكرية خطيرة. وأسوأ دفاع عن الغزو الروسي لأوكرانيا هو قول سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي إن أميركا التي تسلح كييف غزت أفغانستان والعراق من دون حق. فالخطأ لا يبرره خطأ سابق.
سلسلة أخطاء
وأميركا التي احتلت العراق وأسقطت النظام والدولة وحلّت الجيش، ارتكبت سلسلة أخطاء في إطار غلطة استراتيجية كبيرة تحت عنوان لماع هو التغيير وبناء مشروع ديمقراطي وجيوسياسي. وفي البدء كان اختراع سبب وهمي لتبرير الغزو هو الادعاء أن نظام الرئيس صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل وعلى علاقة مع أسامة بن لادن زعيم "القاعدة" الإرهابية التي دمرت برجي مركز التجارة العالمي في "غزوة نيويورك". لكن القوات الأميركية لم تعثر على أسلحة دمار شامل. ويروي المحقق الأميركي اللبناني الأصل جورج بيرو الذي شارك في التحقيق مع صدام أن الرئيس العراقي اعترف بأنه "ليست لدينا أسلحة دمار شامل، لكننا أوحينا أننا نملكها لئلا نضع العراق في موقع ضعف. وبن لادن طلب منا عشرة ملايين دولار فلم نعطه شيئاً. وأميركا لم تكن عدواً للعراق، وأنا عارضت سياساتها فقط، وإيران هي الخطر الأكبر علينا".
أما الهدف الفعلي الذي اسمه "إعادة تشكيل" الشرق الأوسط، فإنه رهان غبي للمحافظين الجدد. والأغبى والأشد غطرسة هو قولهم بلسان ريتشارد بيرل وديفيد فروم في كتاب "نهاية الشر" إن "إسقاط النظامين في أفغانستان والعراق لا يكفي، ويجب إسقاط الأنظمة في ست بلدان أخرى" بينها إيران وسوريا وليبيا. وقمة الغباء هي التصور، بحسب ريتشارد بيرل، أن "سقوط صدام يحفز الإيرانيين على التخلص من ديكتاتورية الملالي". فما حدث بالطبع هو العكس. أميركا هدمت الحاجز على "البوابة الشرقية" للأمة العربية، وفتحت العراق وسوريا ولبنان واليمن أمام النفوذ الإيراني حتى عسكرياً. وفي النهاية انسحبت من أفغانستان والعراق، وارتفعت أصوات أميركية ضد مغامرات بوش الابن والمحافظين الجدد.
وأما روسيا فهي تحتل وتبقى. تغزو ثم تفصل أجزاء تسميها "جمهوريات" تعترف بها تمهيداً لضمها. هكذا فعلت في جورجيا عام 2008 التي سلخت عنها منطقتيّ أبخازيا وأوسيتيا الجنوبيتين. وهكذا فعلت في أوكرانيا عام 2014 حين ضمت شبه جزيرة القرم. وأقل ما تفعله الآن بعد العجز عن احتلال كييف هو سلخ منطقة الدونباس تحت عنوان موقت هو جمهوريتا غدانسك ودوينتسك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غلطة بوش وبوتين
غلطة بوش كانت هدية من السماء لجمهورية الملالي المعادية لأميركا، وقادت إلى انتخاب باراك أوباما ورهاناته على أردوغان والإخوان المسلمين وتوقيع الاتفاق النووي مع طهران وسياسة التخفف من الالتزامات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط. وغلطة بوتين قادت حتى الآن إلى عكس ما أراده من خلخلة العلاقات داخل الاتحاد الأوروبي، وخلق شرخ بين أميركا وأوروبا، وردع "الناتو" عن التوسع إلى حدود روسيا، وإعادة أوكرانيا إلى المدار الروسي الأوراسي. فالحلف الأطلسي الذي دعا البروفسور جون ميرشيمور عام 1990 في مقال نشرته "الأتلانتيك" إلى حله و"مغادرة أوروبا"، وقال جورج كينان عام 1997 إن توسعه "خطأ رهيب"، ونفض دونالد ترمب اليد منه، وقال الرئيس الفرنسي ماكرون إنه في حال "موت سريري"، جدد شبابه وصار قبلة الدول التي كانت على الحياد مثل السويد وفنلندا. أوروبا تماسكت. والتحالف بين أميركا وأوروبا بات أقوى. وأوكرانيا صارت رمز المقاومة في العالم ضد بوتين.
وبالطبع، لا أحد حاكم بوش، ولا أحد سيحاكم بوتين. ومن الوهم تصور محكمة مثل محكمة نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية التي حاكمت المسؤولين النازيين. ففي إحدى جلسات تلك المحكمة قال المسؤول الألماني النازي للقاضي الأميركي: "أنا لا أعترف بمحكمتكم، ولو ربحنا نحن الحرب لكنت أنا من يحاكمكم. فقال القاضي: نحن لا نحاكمكم لأنكم خسرتم الحرب بل لأنكم بدأتم الحرب". وأي ضابط أميركي أو روسي يستطيع أن يقول كما قال إيخمان في مذكراته تحت عنوان "آلهة مزيفة": "كنت واحداً من عدة خيول تجر العربة ولا تستطيع الهرب يميناً أو يساراً بسبب رغبة السائق". والسائق واحد، وإن تبدلت الأسماء.