بعد عقدين من المعارك القانونية وتبادل الاتهامات والالتماسات القضائية، أنهت المحكمة العليا الإسرائيلية في جلسة حاسمة، حبست أنفاس 4 آلاف فلسطيني، الجدل القائم حول شرعية طردهم من منطقة التدريب العسكري، التي يعيشون فيها عند تلال جنوب الخليل، أو ما يعرف فلسطينياً بـ"مسافر يطا".
المحكمة رفضت الالتماس، الذي قدمه أهالي 12 تجمعاً سكنياً، ضد القرار العسكري الصادر عام 1981 بإعلان مكان سكنهم مناطق "إطلاق نار"، كما أمر القاضي بدفع 20 ألف شيكل (حوالى 6 آلاف دولار) لكل واحد من مقدمي الالتماس.
بينما يحظر القانون العسكري الإسرائيلي طرد المقيمين الدائمين من منطقة إطلاق نار، إلا أن المحكمة العليا قضت بأن سكان المنطقة لا يستوفون هذا المعيار، وقالت في ردها "لا يوجد للملتمسين حقوق ملكية معترفاً بها في هذه المناطق، إنهم دخلاء يستخدمون هذه المناطق للرعي. إن الإخلاء سيخدم أيضاً السلامة الشخصية للسكان، بسبب تواجد الجيش في المنطقة".
في حين قال الجيش، إن "الأهمية الحيوية لمنطقة إطلاق النار هذه بالنسبة إلى جيش الدفاع تنبع من الطابع الطبوغرافي الفريد للمنطقة وسماتها الجغرافية المميزة، التي تسمح بطرق تدريب ومناورات عسكرية خاصة بكل من الأطر الصغيرة والكبيرة، من فرقة إلى كتيبة".
كارثة إنسانية
بدورهم، يرى الفلسطينيون في القرار أحد أكبر قرارات التهجير والتشريد منذ سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية عام 1967، مؤكدين أنه يتنافى مع اتفاقيات جنيف المتعلقة بالمعاملة الإنسانية في الحرب، فيما أشار ناشطون وحقوقيون إلى أن رد الالتماس يهدف للاستيلاء على ما يزيد على 30 مليون متر مربع لصالح تدريبات الجيش.
رئيس مجلس قروي مسافر يطا، نضال يونس، قال لـ"اندبندنت عربية"، إن قرار المحكمة عنصري ومجحف لا أخلاقي، ويمثل كارثة إنسانية حقيقية باتت وشيكة في أي لحظة، فالقاضي خلال دقائق وتحت مسمى "طرد قانوني"، قرر تدمير حياة 4 آلاف فلسطيني وطردهم من قراهم التي عاشوا فيها لسنوات طويلة، وهي تضم مئات الأطفال والنساء وكبار السن".
وأضاف يونس أن "المحكمة تجاهلت كل الأدلة والبراهين والشهادات القانونية والصور والوثائق والخرائط، التي تقدمنا بها طوال 22 عاماً، والتي تثبت بأن تلك المناطق كانت ولا تزال مأهولة بالسكان". مشيراً إلى أن "هذه نكبة جديدة مريرة، ولن نسكت عنها، سنتوجه إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لتقديم شكوى جماعية من قبل الأهالي، وسنكثف الضغوطات الدولية على إسرائيل لوقف تهجير وتشريد 4 آلاف من قراهم".
وعلق الناشط الحقوقي محمد حمدان على رد الالتماس بالقول "لم تنظر المحكمة بشهادات سكان المسافر وثلاثة تقارير خبرة وتقرير لقصف قرية جنبا عام 1966 باعتبارها أدلة على الوجود الحقيقي للسكان قبل إعلان المنطقة منطقة عسكرية مغلقة مخصصة للتدريبات العسكرية منذ عام 1981، حيث ادعت المحكمة أن هذه الأدلة وصلت متأخرة".
طرد قانوني
يُصر الفلسطينيون على أنهم مقيمون دائمون في منطقة تلال جنوب الخليل، وأن وجودهم يسبق عام 1967، فيما تؤكد الحكومة الإسرائيلية أن الفلسطينيين هناك ليسوا سوى رعاة موسميين في المنطقة، وليسوا مقيمين دائمين، وأنه يمكن طردهم بشكل قانوني.
وقال المحامي العسكري يتسحاق بريت، خلال جلسة المحكمة، "قبل إعلان المنطقة منطقة إطلاق نار، لم تكن هناك بنية تحتية ولا مدارس ولا عيادات ولا رياض أطفال ولا مساجد، كما أن البناء في منطقة إطلاق النار غير قانوني".
على الرغم من أن الأغلبية الساحقة للمنازل في قرى مسافر يطا، التي تضم 16 تجمعاً سكنياً، تفتقر إلى شبكة المياه والكهرباء والصرف الصحي، ومعظمها ذات أسقف مؤقتة، تهدم الإدارة العسكرية الإسرائيلية بانتظام المنازل التي بنيت هناك من دون تصاريح، ويهدم الجيش أنابيب المياه وخطوط الكهرباء، التي يبنيها الفلسطينيون الذين يعتمدون في معيشتهم على الزارعة، وتربية المواشي عند سفوح التلال.
عالقون في فخ
قال دان يكير، وهو محام في جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، التي تمثل الملتمسين الفلسطينيين، "لا يمكن الحصول على تصاريح في منطقة إطلاق نار. إن مقدمي الالتماس عالقون في فخ منذ 22 عاماً".
وأضافت الجمعية، في بيان، أن "الحكم ستكون له عواقب غير مسبوقة، وأن المحكمة العليا سمحت رسمياً بترك عائلات بأكملها، بأطفالها وكبار السن فيها، من دون سقف فوق رؤوسهم."
من جهتهم، قال السكان المحليون، إنه لم يكن لديهم خيار آخر سوى البناء بصورة غير قانونية، لأن الإدارة المدنية نادراً ما تمنح التراخيص للفلسطينيين الذين يقيمون في المنطقة الخاضعة للسيادة العسكرية والمدنية الإسرائيلية، وفقاً لاتفاقية أوسلو في عام 1993.
حسب بيانات قدمتها الإدارة المدنية لجمعية "بمكوم" الحقوقية، تمت الموافقة بين عامي 2016-2018 على 1.4 في المئة فقط من الطلبات الفلسطينية للحصول على تصاريح بناء في مناطق (ج).
أحد السكان من قرية "خلة الضبع" المهددة بالإزالة، قال لـ"اندبندنت عربية"، يسمونها منطقة عسكرية ويغلقونها ويمنعوننا من الرعي والمياه، لكنهم يفعلون ذلك فقط لطردنا من هنا. أولاً يتخلصون منا في مناطق نائية، وبعد ذلك تدريجاً سيأتي المستوطنون وستصبح أراضي زراعية مرة أخرى".
مناطق رماية
تشير منظمات حقوقية تنشط في الدفاع عن الفلسطينيين إلى أنه في بعض الحالات يتم الإعلان عن مناطق إطلاق نار كوسيلة لتعزيز السيطرة الإسرائيلية، فيما تجادل سلطات تل أبيب في القضايا التي تطعن في مناطق تدريب الجيش بالمحاكم، بأن مناطق التدريب العسكري والرماية مُحددة مع مراعاة الاعتبارات المهنية، مثل السمات الطبوغرافية الفريدة للمنطقة.
أفاد تقرير دولي بأن السلطات الإسرائيلية صنفت حوالى 18 في المئة من الضفة الغربية مناطق عسكرية مغلقة للتدريب، أو "مناطق رماية"، وهو ما يشكل تقريباً مساحة الضفة الغربية نفسها الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية المصنفة كمناطق (أ) البالغة مساحتها حوالى 17.7 في المئة من مساحة الضفة.
وأشار مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية "أوتشا" إلى أن حوالى 5.000 فلسطيني يقيمون في مناطق الرماية، في 38 تجمعاً سكانياً، معظمهم من البدو أو تجمعات الرعاة، وكثير منها كان موجوداً قبل إغلاق المنطقة، وأن غالبية هذه التجمعات السكانية تقع في غور الأردن ومنطقة البحر الميت أو الجبال الواقعة جنوب الخليل.
وأضاف التقرير، أن حوالى 90 في المئة من هذه التجمعات السكنية شحيحة المياه، حيث يتوفر أقل من 60 لتراً لكل فرد يومياً، مقارنة مع 100 لتر للفرد يومياً، وفقاً لتوصيات منظمة الصحة العالمية، وأكثر من نصف السكان فيها يحصل الفرد منهم على أقل من 30 لتراً يومياً، فيما تبلغ نسبة انعدام الأمن الغذائي في المنطقة (ج) حوالى 24 في المئة، وتصل إلى 34 في المئة بين الرعاة الذين يعيش كثيرون منهم في مناطق الرماية، حيث يعتمدون على الماشية، وخصوصاً الخراف والماعز، كمصدر رئيس للدخل.
وأشارت "أوتشا"، في دراسة سابقة، إلى أن بعض العائلات في تلال جنوب الخليل لا تسطيع إطعام ماشيتها، نظراً لتقييد الوصول إلى مناطق الرعي، بسبب تهديد المستوطنين أو بسبب الجيش الإسرائيلي، بالتالي انخفض دخل العائلات اللازم لتلبية احتياجاتهم الخاصة، مما رفع من مستويات الفقر في أوساطها.
جريمة حرب
تضامناً مع الفلسطينيين الملتمسين، احتج عشرات الإسرائيليين والأميركيين خارج قاعة المحكمة العليا، فيما أعرب عدد من الدبلوماسيين الأوروبيين، الذين حضروا الجلسة، عن دعمهم لحق الفلسطينيين في البقاء في منازلهم.
وقال الاتحاد الأوروبي، في بيان صدر عن مكتبه بالقدس، "بموجب القانون الدولي، يحظر النقل والترحيل الفردي والجماعي للأشخاص المحميين، من الأراضي المحتلة بغض النظر عن الدوافع، إذ يحاول الجيش الإسرائيلي طرد الفلسطينيين من مسافر يطا منذ 40 عاماً على الأقل، بعد تصنيف 30 مليون متر مربع من الأراضي الزراعية الفلسطينية الواقعة بملكية خاصة على أنها منطقة إطلاق نار".
وذكر البيان، أن سكان المنطقة أخبروا المجلس النرويجي للاجئين في الآونة الأخيرة، أن "إعلان معظم تلك الأراضي منطقة تدريب عسكرية مغلقة كان مجرد ذريعة إسرائيلية للاستيلاء على أراضيهم".
من جهتها، قالت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بتسيلم"، إن "قرار المحكمة يخدم غرض الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين لخدمة المصالح اليهودية، وإن القضاة أثبتوا مرة أخرى أن من يرزحون تحت الاحتلال لا يمكنهم توقع العدل من جانب محكمة المحتل".
بدورها، دانت وزارة الخارجية الفلسطينية قرار المحكمة في القدس، وناشدت المحكمة الجنائية الدولية البدء الفوري بتحقيقاتها في جرائم إسرائيل، كما طالبت المجتمع الدولي "بوقف سياسة الكيل بمكيالين في تعامله مع الانتهاكات والجرائم التي ترتكب بحق شعبنا وازدواجية المعايير في تعامله مع مبادئ حقوق الإنسان".
وحملت الخارجية الفلسطينية، في بيان، الحكومة الإسرائيلية، برئاسة نفتالي بينيت، المسؤولية الكاملة والمباشرة عن ما وصفته بالجرائم وتداعياتها على المنطقة برمتها، داعيةً الأمين العام للأمم المتحدة لتفعيل نظام الحماية الدولية للفلسطينيين.
وقالت منظمة "كسر جدار الصمت" الإسرائيلية، في بيان، "لقد أعطت المحكمة العليا للتو الضوء الأخضر لأكبر عملية نقل سكاني في تاريخ الاحتلال منذ أوائل السبعينيات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وثائق أرشيفية
في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي لأول مرة منطقة تلال جنوب الخليل (مسافر يطا)، التي تمتد على مساحة تزيد على 30 مليون متر مربع، بأنها منطقة إطلاق نار برقم 918، وفي عام 1999 أصدرت إدارة الجيش في الضفة الغربية إخطارات إخلاء للسكان الفلسطينيين بعد عملية هدم واسعة النطاق، وتهجير قسري لأهالي تلك التجمعات، حيث أغلقت السلطات الإسرائيلية آنذاك المنطقة بالكامل، ونقلت بقوة السلاح الأهالي وقطعان الماشية بحافلات من قراهم إلى مناطقة نائية، على الرغم من أن عديداً من تلك الأسر كان في حوزتها وثائق تعود في تاريخها إلى ما قبل عام 1967، وتثبت أنها كانت تملك أراضيها.
مكتب تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية قال، في بيان سابق، إن "المباني التي يتم هدمها في منطقة إطلاق النار 918 تم بناؤها بصورة غير قانونية"، وأضاف "خلال العامين الأخيرين، أجرت الإدارة المدنية عملية حوار مع السكان من أجل إضفاء الشرعية على المباني، وعندما لم يظهر أصحاب المنازل استعداداً لتنظيم الوضع، ولم تتوقف أعمال البناء غير القانونية، تم اتخاذ الإجراءات طبقاً لأحكام القانون."
لكن الوثائق الأرشيفية من السنوات الأولى للحكم الإسرائيلي في الضفة الغربية، وبحسب ما ذكرته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، تشير إلى أن الدافع وراء إعلان مناطق إطلاق نار محلية قد يكون "سياسياً وليس تقنياً".
ووفقاً للصحيفة، فإن الوثيقة التي ناقشتها المحكمة العليا في أوائل أغسطس (أب) العام الماضي، ذكرت أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون قال صراحةً في اجتماع للجنة حول الاستيطان في الضفة الغربية عام 1981، إن الجيش سيعتبر بعض المناطق، على وجه التحديد تلال جنوب الخليل، مناطق تدريب من أجل وقف "انتشار سكان قرى التلال العرب".
وقال شارون، الذي كان وزير المستوطنات آنذاك، للجنة وفقاً لـ"تايمز أوف إسرائيل"، "هناك أماكن لدينا مصلحة في اعتبارها مناطق نيران حية، وذلك لضمان بقائها في أيدينا".
وحسب "أوتشا"، تشمل أوامر الهدم التي ستطال آلاف الفلسطينيين في 12 تجمعاً سكنياً في مسافر يطا، أربع مدارس كانت قد شيدت كلها بدعم من المجتمع الدولي، إضافة لأربعة مراكز طبية تداوم فيها فرق صحية متنقلة مرة كل أسبوعين.