الأعمال الدرامية لم تترك مهنة إلا وصورت البعض من المنتمين لها باعتبارهم فاسدين أو مرتشين أو مهملين أو عديمي الضمير. ولم تدع حرفة إلا وجعلت البعض من العاملين بها مدعين أو محتالين. ولا يكاد يخلو عمل درامي من ممرضة لعوب، أو مهندس فاسد، أو محامٍ انتهازي، أو طبيب مهمل، أو سباك نصاب، أو حداد محتال، أو عاملة منزل تنتمي لعصابة، أو ضابط شرطة يسيء استغلال وظيفته، والقوس مفتوح.
فتح موسمي
فتح باب الدراما التي تسيء لمهنة بعينها هو فتح موسمي، للبحث عما يسيء لمهنة هنا أو حرفة هناك، ومن ثم تنظيم الصفوف وتجييش الجيوش لرفض "الإساءة" والمطالبة باعتذار وإلغاء المشاهد وإيقاف البث، وربما اللجوء للقضاء لإقامة القضايا وعقاب المسيئين من ممثلين ومخرجين وكتاب. وإن لم تصل أصوات الاعتراض لمن يهمه الأمر بالقدر الكافي، فإن تنظيم وقفة احتجاجية أو مناشدة رئاسية ربما تؤدي المهمة وتعيد الاعتبار.
إشعارات لا أول لها أو آخر ترسلها نقابة التمريض كلما عرض عمل درامي لعاملين وعاملات بالتمريض، بخاصة إذا كان يحظى بمشاهدة عالية وشعبية جارفة. ولم يكن ظهور "مربوحة" زوجة العمدة في مسلسل "الكبير أوي" بزي التمريض في ليلة الدخلة، وما أثار ذلك من حفيظة نقابة التمريض المصرية، إلا حلقة في سلسلة طويلة من التعامل الدرامي والرفض المهني واللجوء للتقاضي أو التظاهر أو مناشدة الرئيس.
التمريض الملائكي
ممرضة لعوب مرة وأخرى مهملة وثالثة تدعي أنها ممرضة لكنها تعمل رقاصة، ورابعة تتخذ التمريض وسيلة لسرقة المرضى، وقائمة طويلة من الأعمال الدرامية ترى نقابة التمريض أنها أساءت للمهنة. مواسم كثيرة من الدراما شهدت كراً وفراً بين التمريض والدراما، حيث شجب من الأول الذي يرفض الإساءة، وإدانة من الأخير لفرض القيود على الإبداع.
وفي دراما رمضان الماضي، اختارت نقابة التمريض أن تصدر بياناً شديد اللهجة تناشد فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التدخل بنفسه، بتبني حملة إعلامية تبرز الصورة المشرفة لمهنة التمريض. وجاء في البيان أن "التمريض يهتم بالفرد ككل، جسماً وعقلاً وروحاً، ويمتد الاهتمام بالمريض إلى أسرته ومجتمعه، ويشتمل على العناية بالبيئة التي يعيش بها وتقديم التثقيف الصحي عن طريق الإرشاد والقدوة الحسنة".
المؤكد أن ما جاء في البيان هو ما تنص عليه المراجع العلمية لمهنة التمريض وما ينبغي أن تكون عليه. لكن المؤكد أيضاً أن ما يعايشه ملايين المرضى في المستشفيات والعيادات من تجارب مع هذه المهنة العظيمة ليس كله رقياً وسمواً ورحمة وعطفاً وتعاطفاً ورعاية وحماية، فقصص الإهمال كثيرة، وحكايات اشتراط الحصول على "مقابل" غير رسمي لتلقي خدمة تمريض معقولة كثيرة. ولأن الممرضين والممرضات بشر، والبشر خطاء، فمنهم من يخطئ أو يهمل أو يحيد عن متطلبات المهنة أحياناً.
نقابة التمريض رأت أنه في الآونة الأخيرة لوحظ وجود مسلك إعلامي يتنافى و"الدور العظيم" لأعضاء التمريض، بالإساءة إلى مهنتهم وأعضائها، ما يمثل خطورة مجتمعية وصحية في تأثير تلك المشاهد في نفسية العاملين بالتمريض. نقيبة التمريض، كوثر محمود، ترى أن الدراما المصرية تتعمد إظهار المهنة بشكل يضعف من إنسانيتها، وعدم إبراز دورها الإيجابي.
المحامون وطبيعة المهنة
هيمنة الشعور بالاضطهاد والاستهداف لا تتوقف عند حدود القائمين على مهنة التمريض، فالمحامون أيضاً لهم صولات وجولات مع الدراما، ونظراً إلى طبيعة العمل بالمحاماة حيث التخصص يدور حول التقاضي والمرافعات وإيجاد الثغرات التي يمكن النفاذ منها لتبرئة ساحة هذا أو تأكيد اتهام ذاك، فإن الشد والجذب بينهم وبين الدراما رنان طنان.
وطالما خرج المحامي في العمل الدرامي باعتباره ساذجاً أو فاسداً أو طماعاً أو محتالاً أو فاشلاً، فإن مآل العمل الدرامي ساحات القضاء بتهمة الإساءة وتشويه الصورة وخدش السمعة.
ولولا أن مرافعة مصطفى خلف الشهيرة في فيلم "ضد الحكومة"، 1992، جعلت منه بطلاً يحارب الفساد ولا يسكت على الظلم، لقاضت جموع المحامين البطل أحمد زكي وورثته من بعده بتهمة الإساءة للمهنة، لظهوره بشخصية وكيل النيابة المرتشي الذي فصل ليعمل بالمحاماة متخصصاً في الدفاع عن المجرمين من خلال ثغرات القانون وتقفي أثر أقارب ضحايا الحوادث ليقنعهم برفع قضايا للحصول على تعويضات يحصل منها على نسبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإساءة للمهنة لأن البناء الدرامي للعمل أظهر طبيباً تسبب في وفاة مريضة بسبب الإهمال، أو مهندساً تسبب في انهيار عمارة لعدم اتباع مقاييس البناء، أو معلمة أهملت في المدرسة لتحتفظ بجهدها للدروس الخصوصية، أو حارس عقار يحتال على السكان ولا يؤدي مهام عمله، أو موظفاً حكومياً لا ينجز معاملة للمواطنين إلا بتقاضي رشوة، أو محاسباً يسرق أموال الشركة التي يشرف على ميزانيتها، أو سياسياً يستخدم سطوته لطلب رشاوى جنسية من النساء، أو صحافياً يبتز المصادر طلباً للهدايا والخدمات في مقابل التلميع الإعلامي، أو سائق أجرة يغش في العداد، وغيرها -اتهام قد يعكس قصر رؤية في فهم دور الدراما المختلف عن درس "أصول التمريض في التضميد" أو "قواعد الهندسة في العمارة" أو "دور المعلم في بناء الأوطان" أو "مفاهيم المحاسبة وقواعد المحافظة على المال العام" أو "أخلاقيات العمل الصحافي" في المناهج التعليمية أو خطب المنابر في دور العبادة.
رجال الدين على الخط
الدعاة ورجال الدين هم أحدث المنضمين إلى أبناء المهن المعترضين على "الإساءة" لهم في الأعمال الدرامية، بل يعتبرون أن مهنتهم "غير قابلة للمساس" و"غير خاضعة للانتقاد" و"غير مقبول سوى التعامل معها بكل إعلاء وإجلال".
وعلى الرغم من ظهور انتقادات واعتراضات في أعوام سابقة لدى عرض مسلسلات مثل "الداعية" و"تفاحة آدم" و"عد تنازلي" وغيرها، وذلك بسبب تقديم رجل الدين الإسلامي بشكل لم يعجب رجال الدين في الواقع، حيث التعرض لاستغلال البعض للدين لتحقيق مآرب شخصية، أو التزمت الشديد، أو احتكار التفسير وغيرها، فإن نبرة الغضب أعلى بكثير هذا العام.
مسلسل "فاتن أمل حربي" أثار -ضمن ما أثاره- حفيظة مؤسسة الأزهر الرافضة لأي مساس من قريب أو بعيد لأغلب محاولات النقاش أو إعادة النظر في أوجه التراث والتفسير. ولم يكن البيان الذي صدر عن "مركز الأزهر العالمي للفتوى" إلا تعبيراً عن رفض "الإساءة" لرجل الدين، وهو ما فسره البعض برفض الأزهر أي تناول درامي لتلك الشخصية باستثناء كونه حكيماً منضبطاً على طول الخط.
وجاء في البيان الدال أنه "تعمد تقديم عالم الدين الإسلامي بعمامته الأزهرية البيضاء في صورة الجاهل، الإمعة، معدوم المروءة، دنيء النفس، عييّ اللسان -في بعض الأعمال الفنية-؛ تنمر مستنكر، وتشويه مقصود مرفوض، لا ينال من العلماء بقدر ما ينال من منتقصيهم، ولا يتناسب وتوقير شعب مصر العظيم لعلماء الدين ورجاله".
ويبدو أن البيان تحسب لرد البعض بأن رجل الدين بشر يخطئ ويصيب، فجاء في البيان "لا كهنوتية في الإسلام، ولم يدعِ أحد من الأئمة والفقهاء العصمة لنفسه على مر العصور، بل كلهم بين ما رآه حقاً وفق أدوات العلم ومعايير التخصص على وجه الإيضاح، لا الإلزام، ونسبة هذه الأوصاف الشائنة للعلماء تدليس، ووصاية، وخلط متعمد؛ يهدف إلى تشويههم، وإسقاط مكانتهم ومقامهم، كما يهدف إلى تشويه مفاهيم الدين الحنيف، وتفريغه من محتواه".
واعتبر البيان أن "تقديم خطاب إعلامي يدعم الفكر المتطرف، ويصنع الصراعات أو يثير الغرائز ويهدد القيم والفضائل؛ يخرج للأمة جيلاً مشوه العقيدة والشخصية والهوية".
حساسية مفرطة
ربما تعود الحساسية المفرطة في مسألة المعالجة الدرامية لمظاهر الفساد بالمهن المختلفة إلى العادات والتقاليد المصرية التي ما زال الجانب الأكبر منها يتمسك بتلابيب الرفض والشجب للسخرية أو الانتقاد على الملأ.
ويبدو ذلك واضحاً جلياً في تعثر فن الـ"ستاند أب كوميدي" الذي يعتمد على مؤدٍّ يقف أمام الجمهور يرتجل قصصاً وحكايات كوميدية ساخرة، وقد تتطرق إلى شخصيات عامة بالنقد اللاذع الضاحك. القاعدة الجماهيرية لمثل هذه المعالجات الفنية لا تلقى عادة قبولاً، وإن لاقت استحساناً يكون قصير العمر مرتبطاً باقتصار النقد والسخرية اللاذعة على "الغير"، أما حين توجه دفة السخرية أو الانتقاد للمتلقي أو ما يؤمن به أو يدافع عنه، فتقام جدران الصد وتشيد متاريس الرفض.
ولعل برنامج "البرنامج" الذي كان يقدمه الساخر باسم يوسف على مدى ثلاث سنوات عقب أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 خير مثال على ذلك. فقد استقبلته الملايين بصدر رحب واستحسان وإشادة، لكن حين توسعت قاعدة السخرية توقف "البرنامج".
الدراما التي تجعل من الجميع ملائكة يسيرون على الأرض أو حكماء ينطقون بالحكمة أو فلاسفة لا يتبعون إلا الحق والخير والجمال، ليست دراما. ومن يتصور أن كل عمل درامي يجعل من يعمل بمهنة ما فاسداً أو مستهتراً أو مهملاً هو عمل موجه ومدبر ومخطط من أجل النيل من المهنة وإسقاط العاملين بها ربما يبالغ أو يفرط في تصوراته.
يشار إلى أن العديد من الأعمال الدرامية تناول بالسخرية اللاذعة وأحياناً الانتقاد الحاد ظواهر ومظاهر وتصرفات عديدة تنتشر بين الممثلين والممثلات. فهل الدراما تعمل على هدم المعبد على رأسها؟