أعين المراقبين مشدودة على مرحلة ما بعد انتخابات البرلمان اللبناني التي جرت الأحد، لمعرفة طبيعة المرحلة الآتية في بلاد الأرز. هل سيطلق السياديون المعارضون للهيمنة الإيرانية مسيرة لإعادة فتح ملف التدويل ونزع سلاح الميليشيات، أم أن النواب المنتخبين سيعودون إلى رقصة تقاسم النفوذ مع "حزب الله"، ويتجنبون الانخراط في جهد جارف لإجبار الميليشيا على التراجع؟ قرار القيادات السياسية اللبنانية بعد الانتخابات سيحدد عناوين المرحلة التالية. وتاريخ لبنان في العقود الماضية حافل بالأمثلة.
مرحلة الوجود السوري
بالعودة إلى الوراء، بعد أن اجتاح جيش النظام السوري آخر مناطق لبنان الحرة في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1990، وسيطر على وزارة الدفاع والقصر الجمهوري، أمسك المحور الإيراني منذ وقتها بكامل مؤسسات الجمهورية اللبنانية، من الرئاسة، إلى الحكومات، إلى البرلمان، إلى كامل مؤسسات الدولة. وقامت المنظومة المسيطرة بإلغاء كامل المعارضات لأكثر من عقد. ولم يتمكن المعارضون الباقون من الحصول على تمثيل داخل السلطة التشريعية. لذا انعدمت قدرة التمثيل التشريعي لمعارضة الوجود العسكري الذي فرضه نظام بشار الأسد، لأكثر من عقد، مما صعب العمل مع المجتمع الدولي لإجلاء القوات السورية لسنين عديدة. حتى تحركت جماعتان منذ عام 2000، الأولى كانت جبهة سيادية داخل لبنان بقيادة البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير، والثانية في الاغتراب اللبناني باتجاه واشنطن والأمم المتحدة. وجاءت ضربات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 لتوقظ أميركا وتعبئها ضد الإرهاب. فوضعت الجاليات ثقلها في الميزان، في ظل غياب البرلمان اللبناني الذي هيمنت عليه قوى المحور. وتتالت انتصارات المعارضة اللبنانية، أولاً عبر صدور القرار الدولي 1559 في سبتمبر 2004، ومن ثم "ثورة الأرز" في مارس (آذار) 2005، التي تبعها انسحاب قوات الأسد الكامل من كل الأراضي اللبنانية في أبريل (نيسان) من ذلك العام، كل ذلك من دون أي دور للبرلمان الذي انتخب مراراً تحت الوجود السوري.
"برلمان ثورة الأرز"
بعد انسحاب القوات السورية، تم تنظيم انتخابات نيابية، انتصرت فيها جبهة "14 آذار" المقاومة لنظام الأسد، والداعية لنزع سلاح "حزب الله". فقامت لأول مرة منذ انتهاء الحرب في عام 1990، غالبية نيابية حاسمة، تمتلك القدرة القانونية والسياسية لاستكمال تنفيذ القرار الدولي لجهة تفكيك الميليشيات ونزع سلاحها. فقامت ببعض الخطوات المحدودة، لكنها أخفقت في اتخاذ القرارات الكبرى الضرورية. الخطأ الأول المميت كان بإعادة إدخال القوى التي تدعمها إيران إلى "حكومة ثورة الأرز" على الرغم من الأكثرية البرلمانية التي صوت لها الشعب. الخطأ الثاني كان بعدم مطالبة عرَّابي القرار الدولي، أميركا وفرنسا، بالعمل على استكمال تطبيق القرار فوراً. الخطأ الثالث الفادح كان بعدم انتخاب رئيس جمهورية يواجه "حزب الله"، ويطلب رسمياً من مجلس الأمن أن يساعد في التنفيذ. وكان ذلك ممكناً رقمياً وممكناً دبلوماسياً مع إدارة بوش حتى نهاية عام 2008.
واستفاد الحزب من أخطاء الحكومة، ومن تردد البرلمان. فاتهم بشن حملة اغتيالات بحق النواب أنفسهم، وقتل عدد، وإرهاب آخرين، وشل المجلس النيابي، ومحاصرة الحكومة. وكان بإمكان هذه الأخيرة في الأقل أن تنفذ القرار في المناطق الخارجة عن سلطة "حزب الله"، وأن تقيم "منطقة حرة" ما بين العامين 2005 و2008، تمتد على طول المناطق المعارضة للميليشيا. ولكن "حزب الله" استبق الحكومة، واجتاح بيروت وهاجم الشوف. وعلى الرغم من أكثرية بسيطة في البرلمان كانت لا تزال قادرة على إصدار نداء دولي للتدخل، فضل السياسيون أن يشاركوا في "مؤتمر الدوحة"، الذي كرس، ولو من دون أن يعلنها رسمياً، سلطة "حزب الله" على البلاد.
برلمان "حزب الله"
وعلى مر السنين، عبر ما يسمى بـ "الربيع العربي" وبعده، سيطر المحور الإيراني عبر ما سمي بـ"الثنائي الشيعي" أي "حزب الله" و"حركة أمل"، وحلفائهما عند المسيحيين وسائر الطوائف، على البرلمان والحكومات، ولو أنهم قدموا مواقع نيابية ووزارية لبعض معارضيهم، من أجل تصوير الوضع وكأنه "حالة وحدة وطنية". واستمرت سيطرة الحزب على المؤسسات الدستورية بما فيها الرئاسة، حتى أول فرصة كان يمكن أن تغير ميزان القوى في خريف عام 2019.
ثورة أكتوبر
خلال خريف 2019، انفجرت ثورة شعبية عارمة في لبنان، باتت تهدد الطبقة السياسية بشكل عام، فطالبت بإسقاط ما سمته "المنظومة الحاكمة" من الرئاسة، إلى الحكومة، إلى البرلمان. رقمياً، لو تمكنت الثورة التشرينية من أن تسقط كل تلك المؤسسات عبر التظاهرات فقط، وأن تفرض انتخابات جديدة تحت إشراف حكومة محايدة، لكانت ربما انتصرت وأتت ببرلمان جديد تابع لها. ولكن "الحراك" لم تكن له استراتيجية موحدة أو واضحة، ورفض التواصل مع الولايات المتحدة والغرب والتحالف العربي، ورفض المطالبة بنزع سلاح "حزب الله"، بل تمسك بنظرية الثورة الطوباوية التي تسقط "كامل الهرم السلطوي"، بالهتافات فقط. لذا استمر البرلمان ذاته، وانتهت رئاسة دونالد ترمب من دون أن تقدم دعماً استراتيجياً لتحرير لبنان، كما انتهت إدارة جورج دبليو بوش بعدما أنجزت القرار 1559، ولكن من دون توفير دعم استراتيجي لحكومة ثورة الأرز، لأن سياسيي تكتل "14 آذار" تمنعوا عن مطالبة كهذه وقتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معركة التدويل
بعد انتهاء تجربة أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وعلى الرغم من تفشي فيروس كورونا، والانهيار الكامل للاقتصاد اللبناني، عادت قوى المجتمع المدني منذ صيف عام 2020 للتحرك من أجل تطبيق القرار الدولي، وتواصلت مع الحكومات والبرلمانات العالمية لإعادة تحريك المبادرة. وفي صيف 2021 أعلن البطريرك الماروني الراعي عن مبادرته لمؤتمر دولي لإعلان حياد لبنان وتطبيق القرار 1559. وفي السنة ذاتها، أدخل لبنانيون - أميركيون مشروعاً مرحلياً لتطبيق القرار الدولي، إلى الكونغرس، يؤدي إلى إقامة منطقة حرة من بيروت إلى الحدود الشمالية. وفي بداية هذا العام أطلقت عدة "جبهات سيادية" معارضة لـ"حزب الله". وجاءت الانتخابات النيابية في 15 مايو (أيار) الحالي.
برلمان 15 مايو
أمام صعوبة تنفيذ القرار 1559 من دون دعم خارجي، وبعد تفجير مرفأ بيروت، والتظاهرات الحاشدة التي انطلقت الصيف الماضي في الذكرى السنوية الأولى للفاجعة، اقتنعت معظم القوى السيادية بضرورة خوض الانتخابات النيابية في عام 2022، والوصول إما إلى أكثرية وإما إلى كتلة واسعة، لدفع عجلة الإنقاذ من الانهيار الكامل، وإنهاء حكم الميليشيات المؤيدة لإيران. فحشدت قوى المعارضة ضد "حزب الله"، وهي تضم أحزاب القوات اللبنانية، والكتائب، والأحرار، وتكتلات سنية ودرزية، وهيئات مجتمع مدني، وبعض اليسار الليبرالي بمن فيهم شيعة معارضون لإيران.
بعد يوم انتخابي طويل حافل باعتداءات من الميليشيات ضد مراكز الاقتراع وطواقم المعارضة، لا سيما في البقاع، وزحلة، والجنوب، بدأ فرز الأصوات، وأظهرت النتائج تقدم "القوى السيادية"، مع حصول حزب "القوات اللبنانية" على أعلى رقم مقاعد، ليس فقط لدى المسيحيين، بل في البرلمان ككل، وتمثيل قيادة حزبي الكتائب والأحرار، وصعوداً للقوى السنية السيادية بقيادة أشرف ريفي، والحزب الاشتراكي، وعدد مميز من الليبراليين التغييريين في مختلف المناطق في جبل لبنان، واختراقاً ليبرالياً في معقل "حزب الله" في الجنوب. نتائج كهذه تعتبر تراجعاً لكتلة "حزب الله" في البرلمان، وخسارةً لحلفائه من الطوائف المسيحية والسنية والدرزية. وبغض النظر عن كيف ستتكون أكثرية "النصف زائد واحد"، لتشكيل الحكومات المقبلة لأربع سنوات، فالميزان العام بات يميل إلى تراجع النفوذ الإيراني، وتصاعد الدور السيادي، إلى حد ما.
المعادلة الجديدة
النتائج النهائية ستحكم على المراحل الآتية ولكن المعادلة الجديدة باتت مفهومة. فالمعارضة السيادية لـ"حزب الله" سيطرت على عدد كبير من المقاعد النيابية، مما يسمح لها بامتلاك فيتو سياسي استراتيجي، وربما قد تتمكن من انتزاع أكثرية بسيطة عبر تحالفات، أو لا، ولكنها باتت رقماً صعباً في المعادلة الوطنية داخل البلاد. إلا أنه من الضروري الإدراك بأن هذه المعادلة داخل المجلس النيابي، ما لم تنجح في إنتاج حكومة سيادية بحتة، وليس مشتركة مع الميليشيا، ستبقى محاصرة من قبل المؤسسات الأمنية الواقعة تحت نفوذ الحزب، وسائر المؤسسات. لذا، فالأولوية للكتلة السيادية الجديدة يجب أن تكون قيام كتلة كهذه، وبسرعة، قبل أن تغرق في بحر المفاوضات البرلمانية، وتسقط في الوحول السياسية اللبنانية، لا سيما أنها تتألف من أحزاب وتجمعات وشخصيات منفردة، وليس تنظيماً واحداً.
الأولوية الثانية يجب أن تكون بتغيير قيادة المجلس النيابي، إذا كانت قادرة رقمياً، أو أن تستحصل على التزام بتطبيق القرار 1559، إذا دخلت في تحالف لقيادة البرلمان. أما الهدف الثالث فهو طبعاً تأليف حكومة سيادية، إما بأكثرية وإما بتحالف. أما كيف؟ فذلك سيعود إلى حكمة قيادة الكتلة السيادية. فتجربة عام 2005 إلى عام 2008 كانت صعبة وربما سيئة. إذ إن كتلة "ثورة الأرز" حصلت على أكثرية حاسمة، ولكنها فشلت في التقدم سيادياً، لأنها عادت إلى "المناورات السياسية اللبنانية" التي تؤمن مصالح تقليدية، في زمن كان الوجود الإيراني الجديد يتسلم من الوجود السوري المنسحب. أما برلمان 2022 فيجب أن تتحرك كتلته السيادية، استراتيجياً، وليس "تقليدياً".
الخيارات الاستراتيجية
هنالك ملفان أساسيان، على كتلة المجلس السيادية أن تتعاطى معهما:
أ- الاتجاه للمطالبة الدولية بتطبيق القرار 1559 تحت الفصل السابع. وبإمكان البرلمان أن يشرع ذلك عبر قوانين، وعلى الكتلة السيادية أن تدفع بهذا الاتجاه بكل قوتها.
ب- التهيئة لانتخاب رئاسة الجمهورية هذا العام، وهو أمر حاسم وضروري لتمكين الدولة اللبنانية من تحرير ذاتها من الميليشيات وتطبيق القرار الدولي. إلا أنه ينبغي على السياديين ألا يعقدوا صفقة مع المحور الإيراني كما حدث خلال ثورة الأرز.
البعض يعتقد أن الملفين منفصلان ويمكن التركيز على ملف من دون الآخر. البعض يعتقد أن التركيز يجب أن يكون على رئاسة الجمهورية، والتدويل يأتي بعد ذلك. هذا خطأ لأنه من دون ضغط لتنفيذ القرار 1559 وربما التوصل إلى منطقة حرة مرحلياً، سيضعف المعسكر السيادي تجاه معركة الرئاسة. وفي المقابل يعتقد آخرون أن معركة التدويل تشكل أولوية، ولا معركة غيرها. وبتقديرنا أيضاً الفصل بين الاثنين فيه مخاطر، لأن انتخاب رئيس غير سيادي، سيضع التدويل في خطر.
إذاً ما العمل؟ الجواب أنه ينبغي على الكتلة السيادية أن تعمل على جبهتين متلازمتين: الاتجاه فوراً إلى المطالبة بتنفيذ القرار 1559 والمباشرة بالعمل على ملف الرئاسة، بعد حسم رئاسة المجلس والحكومة الجديدة. لنرَ.