إذا كان عدد من دارسي أدب الفرنسي أونوريه دي بلزاك قد رأوا دائماً أن ظلالاً كثيفة من الحس الرجعي تخيم على نظرته السياسية إلى الأوضاع في بلده، وفي الأقل منذ الثورة الفرنسية وما تلاها من قيام إمبراطورية نابوليون وانفراطها، فإن قسماً من أولئك الدارسين رأى أن الكاتب قد ركز اهتمامه في العديد من مؤلفاته، ولا سيما الروائية منها، على ما كان قد بدأ يسمى في ذلك الحين "القضية الفلاحية"، بما في ذلك إصراره في العديد من تلك المؤلفات، صراحة أو في الثنايا في الأقل، على توجيه انتقادات للذهنيات الفلاحية. ففي نهاية الأمر لم يكن بلزاك ريفياً ولم يكن فلاحاً، كان راصداً للحالات الاجتماعية أكثر منه أي شيء آخر. لكنه في المقابل كان دقيقاً في رصده بالتالي؛ فهو حين وقف معارضاً ما اعتمدته الثورة من قوانين تتعلق بتوزيع الأراضي، وبشكل عشوائي سيئ كما سيرى دائماً، فإنه كان يحذر من مغبة تفتيت الأراضي الشاسعة ما سيجعل من المستحيل الإبقاء على وظائفيتها كما كانت ما من شأنه أن ينسف إنتاجيتها، ويخلق اضطرابات طبقية جديدة وثورات ومجازر. وفي هذا المعنى لا شك أن بلزاك كان متبصراً وعبر عن ذلك في العديد من رواياته فنرى المسألة مثلاً واضحة إلى حد ما في أولى رواياته الكبرى، "الشوان" التي من خلال حكاية حب وغدر ومغامرات، "أرخت" لذلك القطاع من الفرنسيين من أهل بريتاني من الذين وقفوا ضد الثورة وإلى جانب الملكية فذبحهم الجمهوريون.
رواية لم تكتمل
وكما أن بلزاك قد بدأ حياته الكتابية الكبيرة برواية تدور في أجواء الفلاحين، كذلك نراه يختم تلك الحياة برواية فلاحية أخرى هي تحديداً "الفلاحون" التي لم يتمكن من استكمالها فتركها ناقصة عند رحيله عام 1850 مباشرة بعد عودته من زيارة لأوكرانيا أحيا خلالها زواجه المتأخر جداً من مدام هانسكا النبيلة ذات الأصل الأوكراني، التي كانت عشيقته لفترة طويلة من سنواته الأخيرة فأضحت أرملته بشكل مبكر وستتولى هي نشر كتاباته الأخيرة بعد رحيله وتعرف بكونها "الأرملة بلزاك". ولقد كانت رواية "الفلاحون" من بين تلك الأعمال؛ والطريف أن الكاتب قد بدأ صياغتها مباشرة بعد إنجازه رواية أخيرة أخرى له هي "البورجوازيون الصغار" وكأنه أراد هنا أن يوازن بين مدينيته الأصيلة، وتطلعه الغاضب إلى ما حل بالطبقة الفلاحية على يد الثوار ومن بعدهم أنصار بونابرت.
رصد الواقع الاجتماعي
لكن بلزاك الذي كان في تلك الأثناء قد بدأ يولف بين أعماله الروائية جميعها ضمن مجموعته النهائية التي أطلق عليها عنواناً جامعاً هو "الكوميديا البشرية"، لم يكن عالم اجتماع ولا كان مؤرخاً حتى وإن كان كثر من الباحثين لن يتوانوا عن الاستعانة بعدد كبير من نصوصه في مجال رصدهم الواقع الاجتماعي في زمنه وربما كذلك في الأزمان السابقة عليه، فإنه جعل البعد السياسي والاجتماعي في خلفية أعماله، مفسحاً المجال واسعاً لحكايات غدر وغرام وصراعات عائلية وما شابه ذلك، تدور في فضاءات رواياته فترضي قراءه ولا سيما منه متابعو رواياته المنشورة غالباً على حلقات في صحافة تلك الأزمنة. فهو كان في نهاية الأمر كاتباً روائياً وكان يعرف تماماً ما يتوقعه قراؤه منه. ويبقى مع ذلك أن من الأمور ذات الدلالة القصوى أن يفتتح بلزاك مجده الأدبي برواية فلاحية لا تزال تقرأ بشغف حتى اليوم، هي كما أشرنا "الشوان" التي حولتها السينما الفرنسية الحديثة إلى فيلم بالغ القوة من بطولة صوفي مارسو، تبناه أهل مقاطعة بريتاني معتبرين إياه فيلماً أنصفهم وعبر عن "كاثوليكيتهم" وتعلقهم بالنظام الملكي وقد ذكرهم بأن بلزاك كان رائدهم في ذلك؛ كما أنه اختتم حياته برواية فلاحية هي كما نشير "الفلاحون". ولعل القاسم المشترك بين الروايتين هو وضع الكاتب المناخ السياسي والتاريخي في خلفية الصورة إنما غير بعيد من إدراك القراء.
حكاية مركبة
وهكذا تماماً كما الحال مع "الشوان" قبلها بنحو عشرين عاماً نجدنا في "الفلاحين" أمام حكاية بالغة التركيب، بدأ الكاتب صياغتها أول الأمر في عام 1834 ولكن بشكل شديد الاختلاف عما سوف تكون عليه في نهاية الأمر، بل حتى منذ عام 1838 حين شرع أخيراً في كتابتها الفعلية، لكنه سرعان ما أبطأ حركته بالنسبة إليها ليعود هذه المرة بصورة جدية إلى صياغتها خلال عام 1844، ناشراً إياها على حلقات أسبوعية في صحيفة "لا بريس" ويوقف نشرها في عام 1847 وهو غير قادر على المتابعة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مدام هانسكا تمكنت هي من رسم نهاية لما كان قد بدأه وذلك بفضل الأوراق والمخططات التحضيرية التي تمكنت من جمعها وإنجاز الرواية بفضلها، وطبعاً ضمن الأطر التي كان بلزاك يتوخاها ولكن في غياب لغته وأسلوبه المميزين. وكما في "الشوان" نجدنا هنا أمام حرب محلية ضروس تندلع بين وجه تاريخي حقيقي كبير هو الإقطاعي بول لوي كورييه وجمهرة الفلاحين العاملين في زراعة أراضيه، وهي حرب حقيقية دارت تاريخياً خلال الأعوام الأولى من ثلاثينيات القرن التاسع عشر لتنتهي في عام 1825 باغتيال كورييه. ويحمل كورييه في الرواية اسم الجنرال دي مونكورنيه الضابط السابق في الجيش الإمبراطوري، الذي يملك الآن بعد انقضاء حروبه مساحات شاسعة من أراضٍ زراعية تمكن من الحصول عليها في منطقة الـ"إيون". لكنه الآن عند مفتتح الرواية يجد نفسه موضع حسد وكراهية من قبل مدير إقطاعيات سابق يدعى غوبرتين تحول إلى شريك لمرابٍ يدعى ريغو، وتوحد الاثنان في هدف واحد: التخلص من دي كورنييه والاستيلاء على أراضيه تحت ذريعة إعادة توزيعها على الفلاحين، الذين وجدوا من مصلحتهم الانضمام إلى ذلك التحالف. ولسوف تنتهي الحكاية، ذات الأحداث الصحيحة تاريخياً على أية حال، بمقتل الحارس الشخصي للجنرال، ثم بقتل هذا الأخير وانفراط عقد أملاكه بعد تدمير قصره وإحراق ونهب كل ما كان قد جمعه في حياته.
أخلاق الفلاحين السلبية
كل هذا يقدمه بلزاك في قالب حكاية مغامرات شيقة، لكن الصورة التي يخرج بها القارئ من العمل ككل تبدو سلبية في تصويرها الفلاحين، الذين -على عكس صورتهم إلى حد ما في "الشوان"- يبدون هنا محملين بالحقد والكراهية، التي تبدو هنا معممة بقلم كاتبنا وكأنها السمة الملازمة للحياة الاجتماعية الفلاحية بأسرها. ولعل الغريب في الأمر أن هذه الصورة "القبيحة" التي رسمها بلزاك للأحقاد الريفية لم تثر في وجهه تلك العواصف التي كان يمكن توقعها، وربما يعود السبب إلى أنه لم يعش طويلاً بعد نشر الحلقات المنجزة من الرواية، وربما أيضاً لأن الصورة الإجمالية السلبية التي تحملها الرواية لا تلوح إلا في الحلقات الأخيرة التي لم يقيض لبلزاك أن ينشرها بنفسه، أو ربما كذلك، لأن العقلية الجمعية في فرنسا كانت قد باتت على استعداد بعد الثورة بنصف قرن لتقبل تلك الصورة التي ارتبطت في الأذهان بمسألة تفتيت الملكيات الزراعية الكبيرة، ما اعتبر أمراً بالغ السوء بالنسبة إلى الاقتصادات العامة كما بالنسبة إلى الاقتصاد الفلاحي الفردي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رأي من تولستوي
أما في ما عدا هذا فإن رواية "الفلاحين" تعتبر دائماً من روايات أونوريه دي بلزاك (1799 – 1850) الكبرى، بل إن ثمة من بين مؤرخي أدبه وحياته من ينظر إليها باعتبارها وصية أدبية وفكرية في الوقت نفسه، ناهيك بأن تولستوي الكاتب والحكيم الروسي الكبير نظر إليها دائماً - وعلى الرغم من تحفظه السياسي والاجتماعي عليها - بوصفها من خير الروايات التي كتبت عن حياة الفلاحين الفرنسيين والحياة الفلاحية عموماً، معلناً أنه وقع لفترة من الزمن طويلة تحت تأثيرها، ولا سيما حين كتب تلك القصص المتوسطة الطول التي دنا فيها من الحياة الفلاحية في روسيا وبخاصة في مناطق الجنوب الروسي.