نحيي ذكرى الروائي الفرنسي أونوريه دو بلزاك بعد 170 سنة على وفاته لأنه كان أول كاتب يوظف القصة الخيالية ليوثّق عبرها مختلف مظاهر الحياة في مجتمعه في فترة معيّنة في التاريخ، وبهذا وحده صار أبرز مؤسسي الواقعية الاجتماعية، وهي التيار الأدبي الرئيسي الذي ينتمي إليه معظم كتْاب الرواية حول العالم.
الوجود الإنساني
يعود مصدر الواقعية الاجتماعية في كتابات بلزاك إلى وصفه المتناهي الدقة لشخوصه ومحيطاتها. وهذا لأنه كان يؤمن بأن "العمل الروائي العظيم يكمن في التفاصيل": مثلاً، شكل الغرفة وأثاثها وألوانها وما إن كان المقعد يميل قليلاً لأن إحدى أرجله أقصر من البقية، وعلى أي هيئة كانت ثياب المتحدث عنه وما إن كان خيط تائه يتدلى من كُم قميصه... الخ. وكان يعتقد أن إغراقه في نقل دقائق مسرح الأحداث وإسهابه في وصف شخوصه مهمّان لنفخ الروح في قصصه لأن مهمتها الأولى والأخيرة هي نقل صورة أمينة للوجود الإنساني على أرض الواقع.
ولأن الوجود الإنساني – تبعاً لعديدين – مدعاة للحزن والتشاؤم أكثر منها للفرح والتفاؤل – فقد نُفيت عن بلزاك صفة الرومانسية (الأوروبية) التي ألحقها البعض به. فقال عنه مواطنه إميل زولا (مؤسس التيار الأدبي المعروف باسم "الطبيعية") إنه "طبيعي بامتياز" ورفعه إلى مقام "أبو الرواية الطبيعية". وبرر ذلك بقوله إن الرومانسيين ينظرون إلى العالم عبر عدسة ملوّنة، بينما ينظر إليه بلزاك عبر عدسة صافية لا لون لها.
والواقع أن هذا الروائي اعتنى في قصصه بعنصرين، هما الجوهر المظلم الكامن في الطبيعة البشرية، وما كان يعتبره "التأثير الفاسد للطبقات الوسطى والعليا في المجتمع". وهذان أمران لم يستلزما منه – على سبيل البحث والتقصي – أكثر من أن يخرج إلى الطرقات وأن يراقب الناس ومجريات أمورهم ليعود بالمواد الخام لرواياته.
من اليأس إلى التضامن
تبعاً للمؤرخين الأدبيين فقد تبدل منظور بلزاك عبر الزمن من اليأس إزاء ظلمة الوجود الإنساني إلى التضامن في الظلمة... ولكن ليس إلى حد التفاؤل بالمخرج. ويشير هؤلاء إلى التبدل التدريجي الذي حدث بين أهم رواياته الأولى وهي La Peau de Chagrin "جِلد الأحزان" التي تعكس صورة متشائمة للواقع وسط قدر هائل من الدمار والفوضى، وروايات لاحقة مثل Illusions Perdues "أوهام ضائعة" التي تفيض بالتعاطف مع أولئك الذين همّشهم المجتمع وأفقدهم القدرة على المساهمة الإيجابية في تقدمه. ويبدو أن هذا تأتى لأن بلزاك عزز قناعته بأن الرواية هي "أفضل تعبير للديمقراطية الأدبية" كونها "تُكتب للجميع بغض النظر عن المقام الطبقي للمتلقي".
كوميديا إنسانية
"الكوميديا الإنسانية" La Comédie Humaine هي سلسلة هائلة من القصص والروايات بدأها بلزاك في 1832 وقصد أن يخلق منها مجتمعة صورة بانورامية لسائر جوانب المجتمع الباريسي في عصره. وتتألف هذه السلسلة (التي سمّاها أولاً "دراسات في السلوك") من 90 من رواياته وقصصه القصيرة، اختار لها هذا الاسم المستوحى من "الكوميديا الإلهية" لدانتي على ما يبدو. وبسبب استحالة صدور هذه المجموعة في مجلد واحد أو مجلدات قليلة، فقد قسّمها إلى مجموعات أصغر سمّاها "مناظر". وتشمل هذه "الحياة الخاصة"، والحياة السياسية"، و"الباريسية" و"الريفية"، و"الفلسفية" وهلم جرا. وكانت "الفلسفية" هي المجموعة الوحيدة التي تحوي قصصاً تاريخية لأن البقية بأكملها كانت تتخذ من عصره في باريس مصدراً لها.
وقد عزز بلزاك الاتصال العضوي بين روايات الكوميديا الإنسانية بعدة وسائل منها الشخوص التي تظهر في روايات عدة لتؤدي غرضين: الأول أن تؤكد للقارئ ذلك الاتصال العضوي وترابط أحداث قد تبدو منفصلة للوهلة الأولى، والثاني أن تتيح لبلزاك نفسه التوسع في سيرة الشخصية وبنيتيها النفسية والاجتماعية ومساهمتها في الأحداث من حولها على مر الزمن.
على أن ثمة عملين لا غنى عنهما لمن أراد قراءة بلزاك لأنه بلغ بهما قمة إبداعه ويعتبران المنصة التي انطلق منها إلى سماء النجومية، أولهما Eugénie Grandet "يوجيني غرانديه" (1833) الذي يحكي فيه عن شابة ترث عن أبيها بخله. والثاني هو Le Père Goriot "الأب غوريو" (1835) وهي رواية استعار فيها الملك لير (شكسبير) فنقله إلى باريس العشرينات في القرن التاسع عشر لينتقد مجتمعه الذي "تجرد من كل شيء إلا حب المال".
وقراءة الكوميديا الإنسانية تعني في الواقع قراءة كل ما طمح بلزاك لكتابته لأنها - عدا بعض القصص المبكرة في حياته الأدبية وبعض المسرحيات قرب نهايتها – هي كل وأهم ما أنتج هذا الكاتب الذي تبلغ مكانته في ساحة الأدب العالمي أننا نتحدث عنه اليوم بعد انقضاء 170 عاماً على وفاته.
بلزاك السياسي
من المحتم لكاتب نذر حياته للإبداع المستقى من الشارع ونبضه ولتوثيق الواقع الاجتماعي عبر الخيال القصصي (والبديل الذي يرى فيه اللاعبين الأساسيين متمثلين في الطبقات والمال والطموح الشخصي) أن يكون سياسياً من الطراز الأول وإن لم ينتظم في حزب سياسي معيّن. وبالفعل فقد خاض بلزاك بقلمه غمار السياسة مدافعاً عن الملكية وشرعية أسرة بوربون الفرنسية التي حكمت امبراطورية أوروبية صغيرة تشمل شمال إسبانيا وممالك نابولي وصقلية وبارما. وعلى هذا الأساس فقد كان على الطرف الآخر من عمالقة آخرين معاصرين و/أو لاحقين مثل فيكتور هوغو الذي كان جمهورياً ديمقراطياً.
ومع ذلك فقد كان بلزاك – وليس هوغو – هو الكاتب المفضل لدى أبرز أسماء اليسار الاشتراكي في تاريخ العالم مثل كارل ماركس، الذي وصل حد إعجابه به أن أشار إلى أعماله مرات عدة في مؤلفه الشهير "رأس المال"، وأيضاً شريكه الفكري ورفيق دربه فريدريش إنجلز الذي قال إنه تعلّم من بلزاك أكثر مما تعلم من خبراء الاقتصاد والإحصاء والتاريخ. ويقال إن المفكر ليون تروتسكي انصرف مرة باهتمامه إلى قراءة رواية لبلزاك بينما كان يحضر اجتماعاً للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي. ويبدو أن اشتغال هذا الكاتب بتصوير هموم مجتمعه خاصة طبقاته الدنيا والمسحوقة ضربت على الوتر الحساس لدى أولئك المفكرين الذين أعملوا أقلامهم في التنظير حول تغيير أوضاع العمال والمحرومين أينما كانوا.
تأثيره وتركته
بكل هذا في الاعتبار، لا يُدهش المرء إذا علم أن واقعية بلزاك كانت ضمن أكبر العوامل المؤثرة في مختلف الكتاب، سواء أولئك الذين عاصروه أو الذين أتوا في أزمان بعد زمانه – بمن فيهم كتاب يعتبرون من أعمدة الأدب الغربي الذي وضع بدوره بصماته الواضحة في آداب الشعوب الأخرى، كالعربية حيث تجد نجيب محفوظ مثالاً وليس حصراً.
وحتى غوستاف فلوبير، الذي بلغ هجومه على بلزاك حد أن وصمه بالجهل باللغة، تأثر بواقعيته حتى قيل إن "فلوبير أكمل في صرح الأدب الفرنسي ما بدأه بلزاك". وبالمثل هاجم مارسيل بروست بلزاك بسبب ما اعتبره "سوقية" كتاباته على رغم الأثر الواضح الذي خلّفه على كتابات بروست نفسها وأشهرها À la recherche du temps perdu "البحث عن الزمن الضائع".
وكثيراً ما يقارن بلزاك بتشارلز ديكنز من جهة التأثير الهائل الذي أحدثه كلاً من الكاتبين على الأدب الأوروبي خصوصاً والعالمي عموماً، فقيل عن بلزاك إنه "ديكنز الفرنسي" وعن ديكنز إنه "بلزاك الإنجليزي". وهناك أيضاً الكاتب الأميركي (البريطاني في آخر سنة من عمره) هنري جيمس المعتبر الجسر بين واقعية بلزاك الاجتماعية والواقعية الحديثة وأحد أهم الأعمدة التي يقوم عليها اليوم الأدب المكتوب بالإنجليزية بروايات مثل The Portrait of a Lady "صورة سيدة" و The Ambassadors "السفراء" و The Wings of the Dove "جناحا الحمامة". فها هو يقول: "ما تلقيته من المعلم الأكبر (بلزاك) عن صنعة الكتابة القصصية يفوق ما تلقيته من أي شخص آخر".
ويمكن القول باختصار إن تأثير بلزاك وتياره الواقعي على الروائيين استمر طوال الحقبة الزمنية من نهاية الثلث الأول للقرن التاسع عشر حتى بعيد منتصف القرن العشرين عندما أدهشت أميركا اللاتينية العالم بنوع جديد من الفن القصصي سُمّي "الواقعية السحرية" وصار الكولومبي غابرييل غاثيا ماركيز أشهر نجومه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ضوء على حياته
ولد أونوريه دو بلزاك في 20 مايو (أيار) 1799 بمدينة تور الفرنسية (حوالى 200 كيلومتر إلى الجنوب الغربي من باريس) ونشأ في عهد الإمبراطورية الأولى معجباً بنابليون فصار طموحه أن يصبح "نابليون القلم". مع ذلك فقد كان ثلثا أعماله القصصية يدوران في وقت لاحق لسقوط بطله في 1815.
وبينما أراد له والداه أن ينخرط في السلك القانوني ويمارس المحاماة، فقد توصل هو إلى اتفاق معهما يسمح له بتجريب يده في الكتابة الأدبية لفترة سنة يتكفلان فيها بدعمه مالياً. فانتقل إلى باريس لكنه أخفق في العيش من قلمه. وفي الفترة 1825 – 1827 خاض في دنيا التجارة والأعمال كناشر وصاحب مطبعة لكنه أخفق حتى في مسعاه إلى البقاء على السطح. فتعاظمت ديونه حتى بلغت 60 ألف فرنك بخاصة أنه كان مولعاً بأطايب العيش من مأكل ومشرب وملابس غالية واقتناء ما لا يُتاح الا للميسورين. ولذا صار مضطراً للكتابة بين 14 و18 ساعة في اليوم على حساب صحته المتدهورة على رغم بنيته الجسدية الضخمة، ومعتمداً إلى حد كبير على دعم والدته وسلسلة غير صغيرة من سيدات المجتمع المخملي العواجيز.
وفي 1832 أقام بلزاك علاقة مع الأرملة الكونتيسة البولندية، إيفلين هانسكا، وظل يبادلها الرسائل بانتظام على مدى 13 سنة. لكنه كان غير قادر على الزواج منها لأنها، من جهتها، كانت غارقة إلى أذنيها في المشكلات القانونية المتعلقة بورثتها من زوجها الراحل. ولم يتبدل هذا الوضع إلا في 1850 عندما جمع بلزاك من المال ما يكفي لحل مشكلاته ومشكلاتها معاً فتزوجها في 14 مارس (آذار) 1850. على أن زواجه لم يدم لأكثر من خمسة أشهر قضى معظمها في سرير المرض. وقيل إنه لما أحس بدنو أجله أصر على أن يُستدعى له الطبيب بيانشون. وبعد التحري عن هذا الطبيب اتضح أنه شخصية خيالية ابتدعها بلزاك نفسه في روايته "الأب غوريو".
توفي بلزاك في مثل هذا اليوم 18 أغسطس (آب) 1850 ودفن في مقبرة بير لاشيز بباريس، وتلا مرثية وداعه فيكتور هوغو الذي قال إن الأمة الفرنسية فقدت بموته أحد أبنائها العباقرة.