ليس من السهل أن يوافق كاتب ومؤرخ ودبلوماسي فلسطيني في حجم الياس صنبر، على الفوز مناصفة مع كاتب ودبلوماسي إسرائيلي هو إيلي بارنافي، بجائزة "القسطنطينية" التي تهدف ألى مكافأة كتاب وكاتبات يجمعون "بين ضفتي البوسفور"، والتي يشرف عليها الكاتب السويسري الشهير مارتن أرديتي الذي ولد في تركيا ويجاهر بانتمائه إلى طائفة السفاردين اليهودية. تخطى الياس صنبر، المؤرخ الفلسطيني، سفير فلسطين في منظمة الأونيسكو ومؤسس مجلة "الدراسات الفلسطينية" في باريس ومترجم معظم قصائد محمود درويش إلى الفرنسية، كل الحواجز التي نصبها مناهضو التطبيع وتجاوز جدار "التابو" التطبيعي الذي طالما كان - ومازال - سداً منيعاً في وجه الكتاب والفنانين العرب الذين تتم دعوتهم إلى مناسبات أدبية وفنية عالمية يشارك فيها إسرائيليون، أو يتم اختيارهم للفوز بجوائز مناصفة مع إسرائيليين. والمفارقة أن لا أحد من "المناضلين ضد التطبيع" يمكنه أن يخوّن الياس صنبر، أو يشك في انتمائه الوطني الفلسطيني، هو الذي باشر التزام القضية في العشرين من عمره، والذي هجره الجيش الإسرائيلي من أرض فلسطين عام 1948 مع عائلته إلى لبنان وعانى مثله مثل سائر النازحين الذين اقتلعوا من مدنهم وقراهم وحقولهم. هو الناشط في منابر العالم والذي قضى كل سنواته يكتب ويؤرخ ويترجم، في سبيل فلسطين.
خطوة جريئة
إنها خطوة جريئة جداً، قام بها الياس صنبر، واثقاً من نفسه ومن تجذره الفلسطيني، وغير مبال بما قد تقام عليه من حملات يقودها "فرسان" مقاومة التطبيع الذين يقفون بالمرصاد ضد من يشارك في أمسية أو ندوة عالمية يحضر فيها إسرائيليون، حتى وإن كان شاعراً كبيراً أو فناناً أو ملكة جمال... وفي تصريح له لجريدة "ليبراسيون" الفرنسية بعد فوزه بالجائزة قال: "لا أحد يستطيع أن يتخلص منا نحن الفلسطينيين، فلسطين حسكة مزروعة في صدر العالم، ولا يقدر أحد على ابتلاعها".
أما الكاتب والمؤرخ والدبلوماسي الإسرائيلي إيلي بارنافي الذي فاز بالجائزة مناصفة مع صنبر، فهو ولد في بوخارست - رومانيا عام 1946، وهاجر إلى إسرائيل في الخامسة عشرة من عمره، وبعد تجنسه أدى الخدمة العسكرية خلال حرب الأيام الستة، وقضى فترة في إحدى المستوطنات أو الكيبوتز، محاولاً الاعتياد على الحياة الجماعية، هرباً من الظروف النفسية الصعبة التي كان يعانيها والده ووالدته. ثم انتقل إلى فرنسا هو الذي كان يجيد الفرنسية ويقرأ فيها صغيراً، والتحق بجامعة السوربون، وتخصص في العلوم السياسية والتاريخ، وسمي بـ"الإسرائيلي اليساري"، وكان لديه اهتمام واضح بالشؤون الأوروبية. عين بارنافي سفيراً لإسرائيل في فرنسا بين العامين 2000 و2002، وهما العامان اللذان شهدت فلسطين خلالهما الانتفاضة الشعبية الشهيرة، ومجيء العسكري "البطاش"، آرييل شارون، إلى الحكم عام 2001. لا يخفي بارنابي الذي يدرّس في جامعة تل أبيب، إسرائيليته على الرغم من نضاله المعلن من أجل إحلال السلام العادل في فلسطين وقيام دولتين منفصلتين ومستقلتين تماماً. يقول بارنافي لجريدة "ليبراسيون": "العقدة بيننا (يقصد الياس صنبر) عقدة تذكارية، فنحن لا نملك الحساسية التاريخية نفسها. إنني على قناعة دائمة بضرورة الصهيونية. الياس لا يمكنه أن يأخذ بهذا الاقتناع، وانطلاقاً من هذا الاختلاف في وجهة النظر، نستطيع أن نبني شيئاً ما".
مصادفات بين كاتبين عدوين
ثمة مصادفة تجمع بين الكاتبين "العدوين"، فهما أولاً يحملان الاسم نفسه الذي يعود إلى النبي إيليا، وهما ثانياً متقاربان عمراً، وهما ثالثاً فرنكوفونيان يعيشان في باريس، ورابعاً مشاركتهما كل على حدة في مفاوضات السلام... لكنّ ما يفرق بينهما هو طريق الهجرة من فلسطين وطريق العودة إليها: بينما كان يغادر الياس صنبر وطنه الأم نحو المنفى بصفته ضحية، كان إيلي بارنافي يلجأ إلى فلسطين، قادماً من رومانيا، بصفته جلاداً.
ولعل صدفة أخرى تجمع بين الكاتبين هي إصدار كل منهما كتابين متشابهين يحملان طابع المذكرات أو السيرة الذاتية والجماعية. كتاب الياس صنبر "مُلك الغائبين" (دار أكت سود، باريس 2001) وكتاب إيلي بارنابي "اعترافات رجل عديم النفع" (دار غراسيه)، الذي يكتب فيه سيرته الذاتية بين رومانيا وفلسطين المحتلة، والسيرة الجماعية لأهله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"مُلك الغائبين" للياس صنبر، كتاب بديع، يراوح بين السرد والسيرة الذاتية والجماعية والمذكرات، ويحمل في عمقه مشروع عمل روائي ضخم، نظراً إلى ما يحوي من وقائع ومرويات وأحداث وشخصيات وأطياف شخصيات. ويكفي أن يرمز العنوان "مُلك الغائبين" إلى البيت العائلي في حيفا وإلى الأرض الفلسطينية التي غادرتها العائلة إلى ما غير رجعة. في هذا الكتاب يرسم الياس صنبر ما يشبه المنحنى الشخصي للذات الشخصية والجماعية، راصداً المشهد العام للمأساة الفلسطينية في الداخل أو الماضي، وفي المنفى أو الحاضر. ومن الجمل الافتتاحية البديعة في الكتاب: "حمل السكان مفاتيح بيوتهم في جيوبهم". إنها الجملة التي تفتتح مشهد التهجير الذي يقود إلى المنفى الكبير. المفاتيح لا تؤدي هنا وظيفتها المفترضة في فتح الأبواب للدخول أو العودة، بل هي مفاتيح الخروج واللاعودة. يصبح المفتاح رمز المنفى الذي يرافق المنفيين! كان ذلك في العام 1948 بُعيد النكبة عندما تركت العائلة البيت القديم في حيفا ولجأت إلى بيروت بحراً وبراً تاركة كل شيء هناك، مثلها مثل عائلات كثيرة.
الياس صنبر صاحب كتب مهمة جداً في التاريخ وعلم الإجتماع والأدب، علاوة على تأسيسه "مجلة الدراسات الفلسطينية" بالفرنسية، والتزامه مشروع ترجمة شعر محمود درويش وتقديمه إلى القراء الفرنكوفونيين.
ترى هل اخطأ الياس صنبر في موافقته على تقاسم جائزة "القسطنطينية" مع كاتب اسرائيلي فرنكوفوني، معروف أيضاً بكتبه المهمة، سواء الإسرائيلية الغاية، او الداعية إلى السلام؟ طبعاً الكاتب الإسرائيلي لن يسأله أحد إن كان أخطأ ام لا.