Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سارتر يهجو الحرب الباردة التي حولت النصابين أبطالا للحرية

فيلسوف الوجودية في مسرحيته "نيكراسوف" يكشف كيف تسهم "الصحافة الصفراء" في ولادة الفاشية

من تقديم معاصر لمسرحية "نيكراسوف" (موقع المسرحية)

ملخص

إذا كان جان - بول سارتر (1905 – 1980) قد عرف بخاصة كفيلسوف ابتدع نوعاً يسارياً علمانياً من الوجودية، فإنه كان أيضاً - وكما نعرف - روائياً وصحافياً وكاتباً مسرحياً، حتى وإن كان قد سخر كل ضروب الإبداع في هذا السياق، لخدمة أفكار فلسفية وسياسية وأيديولوجية بحيث كان مسرحه كما كانت رواياته فن تعبير عن الأفكار في المقام الأول.

في أواسط سنوات الـ50 من القرن الـ20، كان جان - بول سارتر يعد "رفيق درب"، وهو تعبير كان في ذلك الحين ينطبق بخاصة على جماعات من المثقفين والمبدعين اليساريين أو الديمقراطيين الذين كانوا يناصرون الاتحاد السوفياتي من على مسافة ما، حافظين لأنفسهم حق النقد والاعتراض، من دون أن يكونوا على عداء مع أفكار دول المنظومة الاشتراكية. ومن هنا كان رفاق الدرب ينظرون بشيء من التعاطف إلى الأحزاب الشيوعية المحلية من دون أن يؤيدوا مواقفها كلها.

في أواسط الخمسينيات، إذاً، كان سارتر، ومعه سيمون دي بوفوار، رفيقته، على هدنة مع الأوساط الشيوعية الفرنسية، في الأقل انطلاقاً من موقف مشترك إزاء بعض القضايا الأساسية، مثل حرب الجزائر، والوقوف ضد الأميركيين في "الحرب الباردة"، ناهيك ببعض البرامج السياسية والاقتصادية المحلية التي كانت ذات نفس تقدمي واضح.

في تلك السنوات كتبت سيمون دي بوفوار واحداً من أكثر كتبها التقاء باليسار "الواقع الفكري اليميني" نقله جورج طرابيشي إلى العربية في ذلك الحين، كما كتب سارتر مجموعة من أعمال فكرية وفنية مسرحية تلقفها اليساريون بكل اهتمام وأسهموا في صنع مكانتها ومجدها، بالتالي في ترسيخ سمعة سارتر بوصفه كاتباً تقدمياً "يكاد يكون مثبتاً للمواقف الشيوعية". ومن هذه الأعمال مسرحيته "نيكراسوف" التي أول ما يمكن أن يقال عنها، إنها كانت العمل الذي وازن به سارتر مسرحية سابقة له، بدت في حينه، أواسط الأربعينيات، "غير منصفة" تماماً إزاء الشيوعيين الفرنسيين، وهي مسرحية "الأيدي القذرة".

لا أحد يريد الحقيقة

إذاً، كتب سارتر "نيكراسوف" عام 1955 لتقدم على خشبة المسرح في العام نفسه، وتنشر في العام التالي. واللافت أن تلك السنوات التي تلت موت ستالين وواكبت بداية إصلاحات خروتشوف وخروج الاتحاد السوفياتي من عزلة أيديولوجية خانقة، كانت تشهد ذروة في انتشار الكتابات الصحافية المعادية للسوفيات، وكذلك شهدت انشقاق مسؤولين سوفيات هربوا إلى الغرب وحجتهم الدائمة أنهم يهربون من ممارسات ستالينية لا تزال قائمة. وكانت الأوساط الغربية، ولا سيما الفرنسية المرتبطة بمنظمات ذات صلة بالأجهزة الأميركية -كما ستبين فرانسيس ساوندرز لاحقاً في كتابها "من يدفع أجر الزمار" - كانت ترحب بهم وتقيم من حولهم ضجة كبيرة في سياق حرب أيديولوجية مفتوحة لم تنتهِ إلا مع سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية الحاكمة كلها لاحقاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ضمن هذا الصراع الفكري اتخذ سارتر موقفه معبراً عنه، خصوصاً، من خلال مسرحية "نيكراسوف"، لكنه في الوقت نفسه عبر أيضاً عن موقف واضح تجاه نوع من الصحافة اتخذ من الكذب سبيلاً له، كأنه مؤمن بنظرية غوبلز الشهيرة "اكذب... اكذب وستجد في النهاية من يصدقك". ومن هنا أصاب صاحب "الوجود والعدم" أكثر من هدف في مسرحيته.

انشقاق الرفيق الوزير

تدور "نيكراسوف" التي تتألف من ثماني لوحات، من حول نصاب فرنسي يدعى جورج دي فاليرا، يجد نفسه ذات حين محاصراً من قبل أجهزة الأمن التي تكاد تطبق عليه بعدما اكتشفت فنون نصبه واحتياله، فيقوم بلعبة كانت على "الموضة" في ذلك الحين: يقدم نفسه إلى الصحافيين العاملين في صحيفة يومية متخصصة في نشر المقالات المعادية للشيوعية، على أنه وزير سوفياتي انشق وهرب من بلاده، مفضلاً الهرب "إلى فردوس عالم الحرية الغربي، على عيش العبودية ولو وزيراً وراء الستار الحديدي"، بحسب تعبيره نفسه. ويعطي النصاب لنفسه اسم "نيكراسوف". طبعاً، وكما يحدث عادة في هذا النوع من الصحافة المأجورة، لا يود الصحافيون تحري الحقيقة، بل إنهم يتلقون حكاية "نيكراسوف" المزعومة وتصريحاته ويجعلون منه قضية الساعة، ما يحوله بين ليلة وضحاها إلى فتى مدلل لدى المجتمع الصاخب المعادي للشيوعية، ويستصرح الرجل ويفيض حتى اللحظة التي يشعر فيها أنه قد جرى استخدامه أكثر مما يتحمل، بخاصة أن تلك الأوساط، راحت تنسج تصريحات باسمه وتنشرها، أما حين يرسل تكذيباً غاضباً على ما نسب إليه، فإن التكذيب لا ينشر.

ويصل هذا الأمر إلى ذروته حين تنشر الصحيفة، والجوقة التي تدور من حولها، جملة تصريحات منسوبة إلى "نيكراسوف" تحمل "فضحاً" لعدد من المناضلين الشيوعيين المحليين، يؤدي إلى القبض عليهم. هنا يشعر الرجل أنه قد يكون نصاباً ولصاً... أجل، لكنه لا يمكنه أبداً أن يكون من الصنف الذي يؤذي الآخرين، لذا سارع إلى إعلان الحقيقة، لكن أحداً لا يصدقه، فهو إنسان لم تعد له قيمة إلا بقدر ما يستخدم في الصراع ضد الشيوعيين. ولذا تسارع أوساط اليمين المتطرف إلى إيداعه مصحاً، هو سجن في الحقيقة، بزعم أنه فقد عقله. وهنا فقط يتدخل الشيوعيون ويؤمنون له وسيلة للهرب من المصح، بمساعدة صحافية يسارية شابة هي فيرونيك.

الهزل في عالم السياسة

طبعاً لا يتعين على القارئ هنا أن يعتقد أن المسرحية درامية أو محزبة، بل بالعكس. لقد آثر سارتر أن يكتبها كعمل هزلي صاخب، بمشاهد مضحكة - تصل إلى حدود "الفارس" الذي كان عند بدايات زمن السينما، من حصة أفلام ماك سينيت ثم شارلي شابلن، وكان سارتر في ذلك الحين يبدي تأثره بذلك النوع السينمائي ويعلن أن المسرح يجب أن يقلد السينما في حركة سريعة مضحكة تعبر الزمن بخفة، وهو ما فعله حقاً في معظم مشاهد هذه المسرحية. مهما يكن من أمر، فإن هذا الجانب الهزلي، الذي يبدو على السطح مفتقراً إلى الجدية، كان في العمق جاداً جداً، ومكن سارتر من أن يسخف الأوساط الرجعية في فرنسا ذلك الحين والتي كانت تتخذ من "فضح عيوب الشيوعية" ميداناً لتحركها.

 

أراد سارتر أن يفضح تلك الأوساط وأن يفضح من خلالها ذلك النوع المأجور من الصحافة التي تنشر لذلك الغرض تحديداً لتسهم في خلق واقع يجعل أكاذيب جورج "نيكراسوف" تنطلي على الجمهور الساذج أكثر وأكثر كلما كانت الأكاذيب أكبر وأكبر. فالمطلوب في نهاية الأمر، ليس "نيكراسوف" وأفكاره وتوبته، بل تصوير كل شيء سيئ في الاتحاد السوفياتي بصورة شديدة التضخم. والاشتغال انطلاقاً من هذا الواقع للإمعان في المعركة. ويتجلى هذا خصوصاً حين تزعم الصحيفة أن "نيكراسوف" قد تحدث عن "قائمة تضم أسماء الذين سيعدمون حين يصل الشيوعيون إلى السلطة"، وتزيد أن "نيكراسوف" قد شكل، سراً، "جمعية الذين سيعدمون في المستقبل". وإذ نشرت القائمة راح كل واحد يشعر بالفخر كون اسمه وارداً فيها، بينما حل "العار" بالذين لم يجدوا أسماءهم، إذ يعني هذا أنهم "تقدميون خونة للفكر الحر"!.

إبداع في خدمة الفكر

من خلال هذا العمل السارتري المنسي بعض الشيء اليوم، تمكن صاحب "أبواب مغلقة" و"أسرى التونا" وفيلسوف الوجودية الفرنسية الأول، من التنديد بنمط معين من الصحافة السياسية التي لا توجد أصلاً إلا كي تكون ضد شيء ما مفتعلة معارك دون - كيشوتية كاذبة، لكن المؤسف أنها تعثر لنفسها عادة على جمهور يصدقها. وسيقول سارتر في ذلك الحين، تعليقاً على مسرحيته "نيكراسوف" هذه، إن نمو وانتشار هذا النوع بالتحديد من صحافة رد الفعل الكاذبة، كان في ألمانيا أواخر سنوات الـ20 مسؤولاً إلى حد كبير عن صعود الفاشية التي – وصحافتها - لم تكن صاحبة رسالة بناءة، بل مجرد رد فعل ضد القيم الديمقراطية يقوم بها فاشلون وخالقو أساطير وأناس لا مواهب لهم، مستغلين بؤس الجماهير ورغبتها في تعيين عدو وهمي يصبح مشجباً تعلق عليه إخفاقاتها.

ويبقى أخيراً أن نشير إلى أنه إذا كان جان - بول سارتر (1905 – 1980) قد عرف بخاصة كفيلسوف ابتدع نوعاً يسارياً علمانياً من الوجودية، فإنه كان أيضاً - وكما نعرف - روائياً وصحافياً وكاتباً مسرحياً، حتى وإن كان قد سخر كل ضروب الإبداع في هذا السياق، لخدمة أفكار فلسفية وسياسية وأيديولوجية بحيث كان مسرحه كما كانت رواياته فن تعبير عن الأفكار في المقام الأول.

المزيد من ثقافة