مثّل خبر الانهيار الجزئي لمحطة الطاقة النووية الموجودة في جزيرة ثري مايل بالولايات المتحدة، أحد تلك العناوين التي بقيت عالقة في ذاكرتي الطفولية الضبابية، سواء حينما وقعت الحادثة أو أثناء عمليات التطهير التي أعقبتها في وقت لاحق.
أتذكر بوضوح كيف دأبت على مشاهدة مقاطع الفيديو والاستماع إلى التعليق المرافق لجولة الكاميرا في المفاعل. إن تلك اللقطات القاتمة بالأبيض والأسود لرجال يرتدون بدلات واقية من الإشعاعات يتفقدون الدمار، تبدو كأنها مجتزأة من فيلم خيال علمي بائس.
ما حدث في تلك المحطة كان قريباً بشكل مخيف من خلق واقع متشائم ويائس، لكنه أصبح في زمن لاحق حقيقياً بصورة مرعبة في شوارع مدينة بريبيات الأوكرانية المهجورة الآن، التي تحولت إلى مدينة أشباح بسبب كارثة انفجار مفاعل "تشيرنوبل" الذي جاء أكثر خطورة مما حدث في جزيرة ثري مايل. بالنسبة إلى الجنود الروس الذين تمترسوا أخيراً بالقرب من المحطة، قد يكون ذلك سبباً واقعياً للتحسر على الحرب الوحشية التي يشنها بوتين وقرارات القادة الذين أرسلوهم إلى هناك.
لقد دُفع بحادثة جزيرة ثري مايل مرة أخرى إلى الوعي العام، على الرغم من أن ظهورها هذه المرة، لحسن الحظ، لا علاقة له بأزمة مهمة على المستوى العالمي، إذ يتمثّل السبب الأكثر واقعية لعودة الحكاية في إطلاق شبكة "نتفليكس" المتخصصة في البث التدفقي لأشرطة الفيديو عبر الإنترنت، سلسلة وثائقية تحكي تفاصيل القصة التي مر عليها أربعون عاماًـ وماذا حدث بعد ذلك.
ليس من وقت أكثر ملاءمة لإصدار تلك السلسلة من الزمن الحاضر، إذ عادت الطاقة النووية إلى دائرة الضوء مجدداً في ظل سعي الدول الغربية إلى إيجاد مصادر طاقة جديدة بهدف تقليل اعتمادها على الغاز الروسي، لا سيما في بريطانيا التي أعلن رئيس وزرائها بوريس جونسون بملء صوته دعمه لبناء جيل جديد من محطات الطاقة النووية.
هناك مفارقة أكيدة في ذلك الأمر. يتبدى ذلك في أن الشكل الوحيد من أشكال الطاقة الروسية الذي لم يفرض عليه الرئيس الأميركي جو بايدن عقوبات، هو اليورانيوم الروسي المستخدم في تزويد محطات الطاقة النووية الأميركية البالغ عددها 55 محطة بالوقود، وتوفر حوالى خُمس حاجات بلاده من الكهرباء (تبلغ النسبة 18.9 في المئة بحسب هيئة إدارة معلومات الطاقة الأميركية).
استطراداً، تكشف السلسلة الوثائقية عن المشكلة الخطيرة في هذا الشكل من الطاقة. وبقول آخر، تكشف أن المشكلة ليست الطاقة النووية بحد ذاتها، حتى لو أخذنا في الاعتبار المشكلة المعقدة للنفايات المشعة والتكلفة الباهظة لإزالة محطات الطاقة النووية أو التعقيد الذي ينطوي عليه الأمر. بالأحرى، إن المشكلة الحقيقية هي البشر.
تتجسّد المشكلة الأولى (والواضحة) في رد فعلهم على دافع المنفعة. أستطيع تخيلكم وأنتم تهزون رؤوسكم كالحكماء. لقد أسهمت تلك المشكلة في الرسائل الرديئة وحتى المعلومات الخاطئة التي شوهدت في الأيام الأولى للكارثة، حينما لم يكُن أحد يعرف حقاً ما يجري ومدى خطورة الموقف، وكذلك ظهر إحجام عن توضيح الأمور خوفاً من تأثيره المحتمل في الصناعة (التي تعرضت في النهاية لضربة شديدة موجعة).
كذلك لعبت [المنفعة ورد فعل البشر عليها] دوراً رئيساً في ما وصفه النقاد بأنه اختصار مراحل أثناء عملية التطهير، وقد أماط اللثام عنه ريتشارد باركس، الذي أبلغ عن المخالفات ويُعدّ نجم الوثائقي، إضافة إلى كونه ضيفاً مقنعاً. لقد فقد وظيفته وعلاقته العاطفية نتيجة تصميمه على فضح ما حدث، إلى جانب عيشه حالة ذعر بشعة حينما تعرضت شقته للسطو من قبل أشخاص سعوا على ما يبدو إلى الحصول على الوثائق التي كانت بحوزته، وقد احتفظ بها في مكان آخر. على الرغم من كل ذلك، هناك من يصر على أنه لا بأس في دافع المنفعة طالما أن الصناعة منظمة بشكل صحيح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مرة أخرى، تضع قضية [انفجار المفاعل النووي في] جزيرة ثري مايل هذا الأمر موضع تساؤل، إذ يعمد السياسيون إلى تعيين المشرعين الذين يتولّون صياغة القوانين المنظمة لتلك الصناعة. وحتى لو كانت لديهم مسؤولية غير سياسية كالحفاظ على سلامة الناس مثلاً، فإن زعماءهم يميلون إلى الاهتمام بشدة بالأولويات السياسية. إذا تمثّلت الأولوية السياسية في تشجيع الطاقة النووية كبديل لاستيراد الهيدروكربونات من شركاء غير موثوقين، فعندئذ سيصبّون اهتمامهم على تلك الناحية.
حينما وقعت الحادثة، رأى الرئيس جيمي كارتر، المتمرس في تلك الصناعة، أنها وسيلة مهمة لتقليل اعتماد أميركا على نفط الشرق الأوسط. وقد اتّضحت تلك المشكلة بشكل لا يرحم في الفترة الأولى من سبعينيات القرن العشرين.
واستطراداً، أبدت إدارة ريغان التي خلفت حكومة كارتر حرصها على ذلك الأمر [استمرار صناعة الطاقة النووية] أيضاً. حتى باركس نفسه، كان مؤيداً قوياً للطاقة النووية التي وفّرت له وظيفة جيدة ومهنة محترمة. لقد توجّب عليه أن يتصارع مع ضميره قبل أن يبلغ عن المخالفات، وهو قرار حفزته حادثة اقتحام شقته. لكنه شعر بأنه لا يمتلك خياراً آخر.
سأقول لكم الحقيقة. يتمثل أكبر تهديد لهذا الكوكب في حرق الهيدروكربونات والتغيّر المفاجئ والعنيف في المناخ الناجم عن ذلك. ولقد توصل بعض علماء البيئة على مضض إلى استنتاج مفاده بأنه يمكن للطاقة النووية لعب دور في الحرب ضد التغيّر المناخي. لن يتلاشى تلهف العالم للطاقة فجأة ويجب العثور على بدائل عملية قابلة للديمومة.
أعترف بأن موقفي تأرجح دوماً بالتجاوب مع حججهم. لقد بدأنا للتو نشعر بالتأثير الكارثي للاحترار العالمي. في المقابل، تتطوّر تكنولوجيا الطاقة المتجددة بوتيرة سريعة، لكن لم يتوصل أحد حتى الآن إلى حل جيد للمشكلة الحقيقية للطاقة النووية، وهي البشر.
وتذكيراً، كانت قرارات الناس السيئة في صميم شبه الانهيار الذي وقع في قلب المفاعل الثاني في محطة جزيرة ثري مايل النووية، واستمرت تلك المحطة في العمل بشكل لا يصدق حتى عام 2019 (لم يتعرض المفاعل النووي الأول فيها للضرر).
واستكمالاً، كان الناس وراء عدد من الفضائح اللاحقة. لقد دفعوا باركس إلى المحاججة بأنه يجب "التخلص من دافع المنفعة" من الطاقة النووية كي تصبح آمنة. لكن بالطبع لم تمثّل المنفعة وحدها الهدف الرئيس لمفاعل "تشيرنوبل" الذي كان يديره النظام السوفياتي (من الناحية النظرية).
كخلاصة، إن البشر هم سبب عدم ثقة بشر آخرين بالطاقة النووية، ويحدث ذلك الأمر [عدم الثقة] لسبب وجيه، وفق ما يبيّن هذا العمل الوثائقي.
نشر في "اندبندنت" بتاريخ 15 مايو 2022
© The Independent