تضج مساجد القاهرة، التي عرفت دائماً بمدينة الألف مئذنة، بالمصلين على مدار الزمن، وتعد منطقة القاهرة القديمة، بما تضمه من مساجد تاريخية وأضرحة لأولياء الله الصالحين، واحدة من أكثر المناطق التي تعكس روح التراث الإسلامي بشكل فريد، ويتوافد المصلون على مساجدها العريقة بشكل لا ينقطع.
لكن مسجداً يقع في منطقة باب الوزير لم تقام فيه صلاة، ولم يرفع فيه أذان منذ أكثر من 500 عام، هو مسجد خاير بك، الأمير المملوكي الذي خان جيشه، وكان سبباً رئيساً في هزيمة المماليك وأفول عهدهم، وانتصار العثمانيين وسيطرتهم على مصر لما يقارب ثلاثة قرون.
يعد المسجد جزءاً من مجموعة معمارية فريدة تعد واحدة من أجمل إبداعات تلك الحقبة، حيث تعتبر قبة المسجد واحدة من أجمل قباب القاهرة بزخارفها النباتية الدقيقة، وقد كان شائعاً في تلك الفترة أن يقيم الحاكم مجموعة متكاملة تضم مسجداً ومدرسة وسبيلاً، وتباري الحكام والأمراء آنذاك بهذه المجموعات. وزائرو القاهرة القديمة لا يكفون في رواحهم وغدوهم عن قراءة الفاتحة والترحم على أصحابها، إلا صاحب هذا المسجد الذي لا يدعو له أحد أو يترحم عليه إنسان.
محاولات عدة جرت على مر السنوات لإحياء المسجد الذي دفن فيه خاير بك وإقامة الصلوات فيه، لكن رفضاً شعبياً وحاجزاً نفسياً وقف بينه وبين المصريين على مدار خمسة قرون، فرفضوا الصلاة في مسجد الخائن رفضاً قاطعاً ليبقي المسجد مزاراً سياحياً وشاهداً على التراث المعماري لتلك الحقبة من دون إقامة صلاة واحدة.
من هو خاير بك؟
يقول سامح الزهار، المؤرخ والباحث في التاريخ الإسلامي، لـ"اندبندنت عربية"، "خاير بك واحد من كبار أمراء المماليك الجراكسة في مصر، وهو أول حاكم لمصر بعد سيطرة العثمانيين عليها، وقد كان أميراً ذا نفوذ، مما دفع السلطان قنصوة الغوري حاكم مصر وقتها إلى تعيينه نائباً على حلب، ربما لإبعاده عن الحكم في مصر، لكنه كان قراراً خاطئاً من الغوري، حيث أصبح خاير بك مركز قوة في حلب، وغالباً ما بدأ اتصاله بالعثمانيين خلال هذه الفترة".
يضيف، "تعد مجموعة خاير بك من أجمل الآثار التي تعود لتلك الفترة، وتعرف عمارة القاهرة عموماً بأنها عمارة وظيفية، أي أنها تؤدي وظيفة معينة مثل المساجد أو المدارس والأسبلة، وإلى جانب ذلك كان للقائمين على إنشائها من الحكام والأمراء أهداف أخرى، مثل تخليد الذكر أو استعراض القوة".
موقعة "مرج دابق"
عدت معركة "مرج دابق" التي وقعت خارج مصر في سهل قرب حلب بداية النهاية لحقبة حكم المماليك لمصر ووقوعها في قبضة العثمانيين لما يقرب من ثلاثة قرون، فانتصارهم فيها أتاح لهم التقدم والاشتباك في معركة أخري هي معركة الريدانية الواقعة قرب القاهرة، لتنتهي بانتصار العثمانيين وتمكنهم من مصر بعد القضاء على طومان باي السلطان المملوكي الأخير الذي شنقوه على باب زويلة، وتركوا جثمانه معلقاً لثلاثة أيام رمزاً لأفول عهد المماليك.
يوضح الزهار، "عندما أصبحت المعركة حتمية ولا مفر من تلاقي الجيشين ظهر الفارق بين طبيعة كل جيش وأسلوبه في القتال، فالجانب العثماني كان أكثر تطوراً من الناحية العسكرية ويعتمد وسائل وأسلحة أحدث، بينما المماليك يعتمدون السيف والفرس، إضافة إلى مفهومهم بأن القتال لابد أن يكون وجهاً لوجه، وغير ذلك يعتبر عجزاً عن المواجهة، وعلى الرغم من ذلك، فعندما احتدم القتال واشتدت المعارك أبلي المماليك بلاء حسناً، وكانوا على وشك الانتصار حتى جاءت لحظة الخيانة".
يتابع، "كان خاير بك يقود ميسرة الجيش وهو أول من هرب من القادة إضافة إلى نشره إشاعة مفادها أن السلطان الغوري قتل في المعركة، مما كان له عظيم الأثر على الجيش الذي انفرط عقده وانهزم، والحقيقة أن خيانته بدأت قبل موقعة (مرج دابق) بكثير، إذ كان على صلة بالعثمانيين، يراسلهم بأحوال مصر، ويكشف أسرارها لهم، ولا يعرف تحديداً بداية علاقته بالعثمانيين، لكن يعتقد أنها كانت عندما ولاه السلطان الغوري نيابة حلب، فهي منطقة تقع عند حدود السلطنة المملوكية، وتحاذي السلطنة العثمانية".
خاير بك والياً
قبل أن يغادر السلطان سليم مصر عين خاير بك نائباً له بمصر، ولقب خاير بملك الأمراء، وصعد إلى القلعة التي كانت مقراً لحكم السلاطين، ولم يلق أي قبول من الناس، كما لم يكن موضع ثقة العثمانيين أنفسهم لما عرفوه عنه من خيانته، يقول الزهار، "حاول خلق الهيبة لنفسه والتشبه بسلوك السلاطين، فكان ينزل من القلعة في مواكب يحاول أن يضفي عليها الأبهة، لكنها كانت تلاقي فتوراً واحتقاراً من عموم الشعب، ولا يذكر المؤرخون أن الناس قابلته أبداً بالترحيب والتهليل كما كان يحدث أيام السلاطين، فقد كان الشعب المصري يحتقر الخائن احتقاراً كبيراً، ولا يذكره إلا بـ(خائن بك)، وكان احتقار الشعب له نتيجة عدة عوامل على رأسها الخيانة الفادحة التي تسببت في هزيمة مصر أمام العثمانيين، والثانية هي حكمه الظالم وعجزة عن رد الحقوق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضيف، "قيل عن خاير بك أنه كان مخلصاً في خيانته، فلم يفكر في الاستقلال بمصر أبداً، بل إنه قطع رأس أحد المواطنين كان جرؤ وردد إشاعة عن نية الخائن في الاستقلال بمصر، بعكس آخرين من خونة هذا العصر، فجان بردى الغزالي الأمير الملوكي الذي خان طومان باي وأعطاه السلطان العثماني نيابة الشام تمرد بعد فترة وطمع بالاستقلال بالشام ليقطع العثمانيين رأسه في النهاية، وأما الخائن الثالث في هذه الأحداث فكان شيخ العرب حسن بن مرعي الذي سلم طومان باي للعثمانيين بعد أن اختبأ عنده فقد قطعت رأسه أيضاً، وقيل إن المماليك الجراكسة شربوا من دمه وقطعوا لحمه بالسيوف انتقاماً منه على خيانته لقائدهم".
النهاية
حينما اقتربت النهاية، تغير خاير بك وانتهج أسلوباً لم يعهده الناس عنه، حيث وزع الصدقات والعطايا، وأطلق سراح المظلومين، واعتق الرقاب، أملاً في أن يعفو الله عنه ويرفع عنه المرض، يقول الزهار، "بدأ مرض خاير بك في ذي القعدة سنة 928هـ، واشتد به، وقيل إنه وقع فريسة أمراض عدة جاءته مجتمعة، وعندما تزايد مرضه لجأ إلى أفعال الخير للمرة الأولي، فتصدق على جميع أطفال الكتاتيب بالقاهرة، لكل صغير نصف فضة، وكانوا يقولون لهم اقرءوا الفاتحة وادعوا لملك الأمراء بالعافية، وبذل العطايا للمجاورين في الأزهر، والمزارات، والزوايا، ولم تتحسن حالته حتى أنه شلّ تماماً وعجز عن القيام، فأعتق حينها جميع جواريه ومماليكه، وأفرج عمن كان سجنهم ظلماً، وقيل عن تلك الأيام إنها أفضل ما مر على الناس في عهده، حيث جاد على الفقراء وأبر المساكين وانتهي ظلمه الذي عهده الناس".
يختتم حديثه، "توفي خاير بك في سنة 928 هـ، ودفن في مقبرته التي بناها قرب باب الوزير على طريق القلعة، ويقول ابن زنبل الرمال، الذي عد من أشهر مؤرخي هذه الفترة، عن قبر خاير بك إنه كان يمر عليه الباشات والصناجق والأغوات عند ذهابهم وإياهم، فلم يلتفت إليه منهم أحد، ولا يترحم عليه ولا يقرأ له الفاتحة، مع أنها تربة مليحة المنظر، ومع ذلك صد الله عنه قلوب الخلق لأنه كان سبباً في هلاك ألوف مؤلفة من الجراكسة والأروام والعرب وغيرهم".