في القاعة الكبيرة لمنصة الفن المعاصر (كاب) التي تُعرض فيها أعمال الفنانة اللبنانية مانويلا بول غيراغوسيان بعنوان "أنا هنا"، تتوزع مجموعة من اللوحات الفنية اللافتة بألوانها القوية والمبهجة التي اتسمت بعدد من التقنيات الفنية قدمت بها الرسامة مواضيع تمثل هموماً شخصية لها وترتبط بالشأن العام. ولكنها أصرت على أن تقدمها بمنطق مختلف تماماً وهو منطق الطفولة التي تحاول أن تتعامى عن العنف والقباحة، وتلتقط من بين مشاهد الخراب ما قد تجد فيه لمحة من الأمل والحياة.
وإذ تبدو الأعمال في مجموعها جنة من الألوان الجميلة والرسوم العفوية التي تعبر عن براءة الأطفال وبحثهم عن البهجة، فإن الاقتراب من الأعمال التي تتضمن كثيراً من التفاصيل يكشف كيف تمنح الفنانة لأعمالها طاقة رمزية كبيرة لتضمينها الأسئلة التي تهتم بها حول قضايا كبيرة، مثل الهوية والوجود والقدرة على مواجهة التحديات والاستمرار في الحياة كإنسان بشكل عام، وكامرأة بنحو خاص، لكنها تتعامل مع كل هذه القضايا كما لو كانت من وجهة نظر طفولية، وهنا فرادتها، فالأعمال الفنية التي تضمنها المعرض تحمل كثيراً من الطابع العفوي للطفولة والبراءة، حتى وهي تسأل عما يعده الكبار أسئلة وجودية وفلسفية.
خبرة أكاديمية وشخصية
نشأت الفنانة مانويلا في سنوات الحرب الأهلية في بيروت، ولكي يجنبها والدها الفنان الكبير بول غيراغوسيان ويلات هذا العنف، جعلها تعيش في أحضان الفن كملاذ آمن في مرسمه، تتعرف على الفن وتتعلم منه في الوقت نفسه، وهو ما أسهم في اتخاذها مجال الفن مساراً بعد دراستها لفنون التحريك Animation في الولايات المتحدة، كما أنها اتخذت من الفن وسيلة للهرب من العنف والتعافي من آثاره والتشبث بملامح ذهنية الطفولة في طريقة رؤيتها للأمور والبحث عن الجمال في قلب العنف.
تقول غيراغوسيان أنها تحاول من خلال أعمالها أن تقدم الذهنية التي يتعامل معها الأطفال في المواقف العصيبة لكي تتجاوزها، سواء كانت حرباً أهلية أو عنفاً تتعرض له النساء والأطفال، من خلال البحث عن مصادر للبهجة والبراءة، ولهذا تبدو ملامح الوجوه حزينة على الرغم من كل الجمال والألوان الصاخبة من حولها.
وترى غيراغوسيان في الفنان الهولندي الذائع الصيت فينسنت فان غوخ نموذجاً محبباً إليها، وتقول إن ما تشعر به من التشابه معه أن الألوان البديعة التي يستخدمها غوخ في أعماله لا يمكن أبداً أن تقول بأن من قام برسمها شخص حزين أو يعيش مآسي مثل التي شاعت عنه وعاناها طوال حياته، كما ترى كيف أن فان غوخ استخدم الفن كوسيلة علاجية للمتاعب النفسية التي عاناها خلال فترة مراهقته وشبابه، وهي تؤمن بالدور العلاجي للفن.
بهجة الطفولة
ولكن عند الاقتراب من الأعمال يتبين المشاهد أن حال البهجة المحيطة بالأطفال لا تعني بالضرورة أن هؤلاء الأطفال سعداء، بل ربما نلمح طيفاً من الحزن، وهو ما تشير إليه غيراغوسيان بالقول إن هذا ما عاشه أكثر من جيل، سواء خلال الحرب الأهلية ووصولاً إلى تفجير مرفأ بيروت الذي دمر منزلها، وعانت آثاره وفقدت بعض المقربين إليها خلال الحادثة التي لا تزال مخيمة بقتامتها على اللبنانيين.
وبخيال طفولي تتمنى مانويلا أن تكون سمكة مرة أو طائراً مرات، وهذا الهاجس يمكن تقفي آثاره بسهولة في عدد لافت من الأعمال، تلعب فيها الطيور دوراً أساساً، فهي بالنسبة إليها كائنات جميلة الهيئة والتكوين، ولطالما أثارت إعجابها، كما أنها أيقونات للحرية وكثيراً ما تمنت أن تكون طائراً يمكنه أن يحلق أينما شاء. أما السمكة فهي الكائن الذي يتسنى له أن يعيش في الأعماق ويتحرك بانسيابية ويرى ما قد لا تتاح رؤيته لكثيرين، وهي كلها في جوهرها المواضيع التي ترى أنها جديرة بالتأمل.
ضد العنف
هي الأمنيات التي ترى فيها تحرراً من قيود الواقع التي تفرضها فكرة الهوية والعنف والتمييز بين الرجل والمرأة في المجتمع، والتمييز بين الأطفال على أساس الهوية أو اللون أو العرق أو اضطهاد المرأة، وكيفية التصدي لهذا كله بقوة تسمح للإنسان أن يواصل حياته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا المشروع الفني الكبير بدأته مانويلا العام 2010 لخلق خطاب فني يتعاطى مع هذه المفاهيم، وهي الفترة التي شهد فيها لبنان والعالم كثيراً من الأحداث الجسام وأعمال العنف وقضايا فساد، ورأت الفنانة أن دور الفن أن يواجه هذا كله ولكن بأعلى قيمة جمالية ممكنة، وباستخدام الأسلوب الذي اعتادت عليه وأصبح سمة مميزة لأعمالها الجميلة.
تتراوح أحجام الأعمال وأشكالها بين لوحات كبيرة تضم مشاهد عدة تتوزع فيها ملامح الأطفال والطيور وبعض الحيوانات، ولكل منها خلفية لونية ساطعة. وتتجلى مظاهر رمزية عدة في اللوحات، سواء تلك الكبيرة المحتشدة بالتفاصيل أو الصغيرة التي يأخذ بعضها أشكالاً دائرية، وتأخذ الطيور فيها دوراً محورياً.
اختارت مانويلا عنوان "أنا هنا" الذي يستخدمه الأطفال وهم يرفعون أيديهم ليعبروا عن وجودهم، وهو الوجود الذي ترى أنه يُتجاهل من أطراف عدة في المجتمع اللبناني وأرجاء العالم خلال الوقت الراهن، ويستمر المعرض في منصة الفن المعاصر (كاب) حتى منتصف شهر يونيو (حزيران) المقبل.