تودع السعودية "الملف الأخضر" الورقي أو العلاقي إلى مثواه الأخير مع مطلع العام الدراسي المقبل، وذلك بعدما ألغت وزارة التعليم أخيراً متطلب الملف الذي كان شرطاً لتسجيل الطلاب والطالبات المستجدين في مراحل التعليم العام.
وما إن أعلنت وزارة التعليم القرار، وأكدت على مدارس الطفولة المبكرة والمدارس الابتدائية الحكومية والأهلية للبنين والبنات بمناطق ومحافظات السعودية بعدم مطالبة أولياء الأمور بالملف الورقي كمتطلب تسجيل للطلاب المستجدين، والاكتفاء بمطابقة الأصول الثبوتية مع المرفقات المرفوعة على نظام "نور" الإلكتروني، حتى بدأ الأهالي في مواقع التواصل الاجتماعي بنقل تجاربهم مع الملف العلاقي، واشتراطات المدارس في اختيار الألوان الغريبة لكل مدرسة، تارة بالأحمر وتارة بالأبيض أو الأخضر، ليميزها عن المدارس الأخرى بلا سبب، ولتصل اشتراطات بعض المدارس طلب كتابة معروض لمديري المدارس لقبول الأبناء.
كل ذلك دفع أولياء الأمور إلى مقابلة القرار بالترحيب الممزوج بالسخرية من ماضيهم القديم مع "الملف"، معتبرين أن الخطوة تسهم في "الانتهاء من البيروقراطية المدرسية التي كانت تخضع لمزاج مسؤولي التعليم، بما فيها "الملف العلاقي" المنسي في أرشيفات المدارس.
قصة "الملف العلاقي" في السعودية
قصة "الملف الأخضر" الذي ارتبط بكل مواطن سعودي ومقيم سارت خطاه في ردهات الإدارات الرسمية في السعودية لأكثر من 50 سنة مضت، فلم تقتصر العلاقة بينهم وبينه على معاملات الدراسة أو العمل كما هو الحال في المقارنة السابقة، بل امتدت إلى كل الجوانب الحياتية من الميلاد حتى الوفاة، فهو يرافق السكان عند الحصول على شهادة الميلاد، مروراً بالتقديم على المدرسة في كل مراحلها، واستخراج هوية وطنية ومعاملات الجوازات، والبحث عن وظيفة، وإضافة إلى الزوجة وتسجيل المواليد وطلب منحة، ليحمل في نهاية الركض أوراق إصدار شهادة الوفاة.
ملف علاقي؟
بداية ما "الملف العلاقي"؟، هو عبارة عن ملف يملك في طرفيه نهايات معدنية، له مقاسات وألوان عدة، إلا أن أشهرها كان الأخضر لاشتراطه في المعاملات الرسمية السعودية، ربما تيمناً بلون علم البلاد الأخضر، توضع الأوراق الرسمية في هذا الملف بعد تخريمها وتثبيتها بإحكام بواسطة مشبك حديدي في أحد الأطراف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا تقبل الجهات والمؤسسات الرسمية النظر في أي ورقة بغض النظر عن اكتمالها ما لم يلتزم حاملها بهذه الشروط، مما يطرح تساؤلاً حول أهمية هذه المواصفات وكيف بدأ اشتراطها؟
ولم يذكر المسؤولون الحكوميون ولا المؤرخون في البلاد توقيتاً محدداً لبداية تسلل الملف العلاقي إلى حياة السعوديين، إلا أن الأكيد أنه بدأ في التلاشي تبعاً لتراجع اشتراط تقديم الوثائق فيه حصراً منذ ست سنوات تقريباً، مقابل تنامي التعاملات الإلكترونية التي دمجت عدداً واسعاً من الملفات في ملف رقمي واحد.
ولا يمكن حصر عملية التحول بشكل دقيق، لكن يمكن الإشارة إليها مبدئياً من تجربة "أبشر"، التطبيق الرقمي الذي حصر تعاملات وزارة الداخلية السعودية في منصة واحدة، إذ يبلغ عدد مستخدمي المنصة التي ألغت استخدام الملفات الورقية تماماً 19 مليون عميل موثق، يستفيدون مما يزيد على 279 خدمة كانت لا تنجز إلا بملفات خضراء قبل إطلاق التطبيق.
وتجمع المنصة خدمات القطاعات الأمنية مثل المديرية العامة للجوازات والأحوال المدنية والإدارة العامة للسجون وقطاعات الأمن العام (الإدارة العامة للمرور والشرطة وإدارة الأسلحة والمتفجرات) وغيرها من القطاعات.
لكن أهم القطاعات التي كانت مخزناً ضخما للملفات كان القطاع التعليمي، قبل أن يقضى نظام "نور" الرقمي التابع لوزارة التعليم على جميع التعاملات الورقية فيه، في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة ودخول الجامعات حتى التخرج، لتنتهي أخيراً من خطوة تسجيل المستجدين في المدارس.
قطاعات عاشت وماتت في ظل الملف
لم يكن الملف العتيق وحيداً في رحلة الإدارات الحكومية، إذ رافقه عدد من الأشكال والطقوس على أبواب المؤسسات، أمثال كاتبي المعاريض الذين كانوا يجلسون على الأرصفة المجاورة لمباني الحكومة، يتولون كتابة الخطابات والشكاوى والطلبات التي يرغب المراجعون في وضعها وسط الملف الأخضر.
تضرر حاملو الأقلام والآلات الكاتبة وأجهزة الطباعة بعد ذلك، الذي كانوا يبيعون مهاراتهم في الكتابة على المراجعين، بجوار بيع الملفات كنشاط إضافي يضاعف فيه سعر الخدمة، إلا أن هذا النشاط تحول من الرصيف إلى المكاتب، إذ استغلت مكاتب الخدمات التي تحيط بالإدارات الرسمية جهل بعض كبار السن في التعامل الإلكتروني، وصارت تنجز المعاملات الرقمية بالنيابة عنهم مقابل مبالغ مالية تصل إلى 50 ريالاً سعودياً (14 دولاراً).
وبعد عرض مختصر لرحلة الملف العلاقي، يظل السؤال البيئي المؤرق في عهد "حماية البيئة"، أين صارت كل تلك الملفات الطلابية طوال العقود الماضية؟