قبل انتهاء عملها في يونيو (حزيران) المقبل، يمكن الوصول إلى ما أفضت إليه جهود بعثة الأمم المتحدة لدعم الفترة الانتقالية في السودان "يونيتامس"، وهو إدارة حوار غير مباشر بسبب أن "لاعبين أساسيين في الساحة السياسية السودانية واصلوا رفضهم الجلوس مع الطرف الآخر على طاولة واحدة".
هذه نتيجة سابقة للحوار المرتقب بين السودان ومجلس الأمن حول التجديد للبعثة بالمهام نفسها، أو إجراء تعديلات عليها، بعد أن وعد رئيس البعثة فولكر بيرتس، ضمن "الآلية الثلاثية" التي تضم بعثته إضافة إلى الاتحاد الأفريقي و"إيغاد"، بأنهم أوشكوا على جمع الفرقاء السياسيين على طاولة الحوار. وقد كثر الحديث أخيراً عن احتمال مغادرة البعثة، ما يعني أن النظر في مهامها الأساسية دخل حيز الجدية، مع عدم إغفال علو بعض الأصوات التي تستهدف وجود البعثة من الأساس.
ومع كثرة الانتقادات لأداء الحكومة الانتقالية، أصبح مجلس السيادة الانتقالي بدوره يبدي عدم رضاه عن أداء البعثة، إذ إن في مطالبة وزارة الخارجية البعثة بالإيفاء بالتزاماتها إشارات واضحة إلى أكثر من مهمة، منها المساعدة في توفير مطلوبات الانتقال السياسي وحشد الموارد اللازمة لذلك، بتأكيدها أن البعثة لم تقدم أي دعم مالي سوى مبلغ 400 مليون دولار، منها 200 مليون دولار لمشروع برنامج (ثمرات) لدعم الأسر الفقيرة، الذي تعثر في مراحله الأولى، وتسهيل بناء السلام.
وجاء هذا الخلاف الأخير في ظل مرور السودان بحال متزايدة من الاضطراب السياسي والأمني وتفاقم الأزمة الاقتصادية، ما يشكل امتداداً لما كان يعيشه السودانيون في ظل النظام السابق، ولم تقطعه إلا فترة قصيرة من عمر الفترة الانتقالية انتهت بإصدار الفريق عبد الفتاح البرهان قرارات 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التي قضت بإقالة الحكومة الانتقالية، وفرض الطوارئ. وهذا المشهد يوضح أن هناك فواعل أساسية في هذه الأزمة لا يمكن قصرها على البعثة وحدها، أو الفرقاء السياسيين، بمعزل عن الأجواء التي يعملون بها.
مهام أساسية
حينما طالبت الحكومة بإنشاء البعثة التي جاءت وفق قرار مجلس الأمن رقم 2524 المتخذ في يونيو 2020، كانت تهدف إلى تسريع عملية المساعدة الاقتصادية وتوفير الدعم اللوجيستي والمالي لإنجاح الفترة الانتقالية، وصولاً إلى إقامة الانتخابات وترسيخ دعائم الانتقال بدعم حكومة ديمقراطية بقيادة مدنية، ما يستلزم استكمال مطلوبات السلام، الذي بدأ بمؤتمر لم تسفر مخرجاته عن سلام حقيقي.
وعلى الرغم من أهمية ومحورية ما أكده فولكر حول أن مهمة بعثته هـي "العمل على إعادة الأوضاع في السودان للمسار الانتقالي، وتكوين حكومة يقودها المدنيون، والتوافق على دستور انتقالي، وتسمية رئيس أو رئيسة وزراء بالتوافق"، فإنها لم تنجز شيئاً، وعلل ذلك بالإجراءات التي اتخذها البرهان، وصنفها المجتمع الدولي على أنها "انقلاب عسكري" أجهض العملية السياسية.
وتأمل البعثة أن يجري الاعتراف بها من قبل الحكومة السودانية، الأمر الذي يعطيها الحق في الاستمرار، وقد قادت مشاورات منذ يناير (كانون الثاني) الماضي لحل الأزمة السياسية في البلاد، وسعت على قدم وساق لخلق توافق بين الفرقاء السياسيين ذوي الخلافات المتشابكة. وهو ما أظهر مقاربة جديدة ضمن سياق العملية السياسية من جهة، إذ لا تعتنق معظم القوى السياسية رؤية واقعية واحدة لحل الأزمة، وضمن العلاقات الدولية النابعة من مسؤولية مجلس الأمن من جهة أخرى، إذ خلال العامين الماضيين تبين مدى الاستعجال في إنهاء مهمة البعثة المشتركة لحفظ السلام في دارفور "يوناميد" واستبدال "يونيتامس" بها.
جهود البعثة
غير أن هناك تمييزاً مبدئياً بين فضاءي المواجهة العسكري والمدني، فقد عبر فولكر عن خيبة أمله في عدم توفر مناخ مواتٍ لعقد لقاء تحضيري للتفاوض، وألقى بالمسؤولية كاملة على عاتق المكون العسكري باعتباره الطرف الأقوى.
وتنبثق المفارقة من استجابة المكون العسكري للضغوط بإطلاق سراح القادة السياسيين وبعض النشطاء، لكن لا تزال الطوارئ سارية، بينما لم يتخذ المكون المدني أية مبادرات تعكس حسن نيته في الوصول إلى وفاق، بل إن بعضهم رفض الجلوس مع المكون العسكري واشترط التفاوض عبر أعضاء "الآلية الثلاثية".
يمكن الإشارة إلى أنه ثمة قضايا مثلت تحديات كبيرة أمام البعثة في السودان خلال هذين العامين، وأسهمت في إطالة أمد الأزمة، لعل أبرزها، إضافة إلى تنامي دور العسكر ومحاولتهم الدؤوبة احتواء النشاط السياسي، تراخي القوى السياسية واعتمادها فقط على ضغوط المجتمع الدولي وضغط الشارع من دون فاعلية أصيلة لديها. لأنها لم تغير فقط من هيكل الحكم بإسقاط النظام السابق، بل أدت أيضاً إلى إحداث تغييرات جوهرية في إدراك الثوار حقيقة الصراع بين مكونات الحكم، وهو صراع تاريخي، وكانت إشاراته واضحة منذ البداية، لكن الثوار كانوا منشغلين عنه بنضالهم.
موقف البعثة، وإن كانت له دلالات سياسية ودبلوماسية واضحة من زاوية الصراع بين المدنيين والعسكر، يبدو أنه متأرجح بين الميل للمدنيين أحياناً والعسكر أحياناً. ومن الملاحظ أن السودانيين بدأوا يدركون تدريجياً فشل عملية التسوية من أجل وفاق وطني. فالسودان، بقدراته الاقتصادية المحدودة، كان يركز على المساعدات الاقتصادية والإعفاء من الديون، ومع عودة العلاقات مع المجتمع الدولي بعد الثورة، بذلت كثير من الوعود بشأنها، وفي ضوء المتغيرات الجديدة بعد إجراءات 25 أكتوبر، علقت هذه المساعدات.
إعادة إنتاج
يتمثل لنا التاريخ السياسي السوداني القريب كأنه سلسلة متصلة من جهة إعادة تشكيل ذهنية القادة العسكريين التي درجت على طرد الدبلوماسيين وموظفي المنظمات والبعثات الأممية. وفي حال البرهان يمثل ذلك تناقضاً صارخاً بين المطالبة بالبعثة أولاً والخطاب التسلطي أخيراً، ما يمثل الوجه الآخر للمواءمة بين حكم العسكر في كل العهود. وإضافة إلى ما تردد عن عزم البرهان طرد رئيس "يونيتامس"، فقد رفض طلب تجديد إقامة كبيرة مستشاري البعثة روزالندا مارسدن بعد انتهاء عقدها، وذلك وفق ما بررت السلطات "بسبب نشاطها السالب المعادي للحكومة الحالية". وكانت مارسدن شغلت منصب السفيرة البريطانية بالسودان خلال فترة النظام السابق، ثم أصبحت مندوبة الاتحاد الأوروبي بالخرطوم، وعندما قابلت الرئيس السابق عمر البشير بعد انتهاء مهمتها وحاولت إعطاءه توجيهات، ذكر في أحد خطاباته الجماهيرية أنه "صرف لها بركاوي" (نوع من التمور السودانية المعروفة)، وأصبحت هذه العبارة التي تعني "الطرد" ملازمة للبعثات الغربية. كما كان البشير يفاخر بطرد كل من ممثل المفوضية الأوروبية بالخرطوم كينت ديغرفيلت، والقائمة بالأعمال الكندية، بحجة تدخلهما في الشؤون الداخلية للبلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد التقرير الذي قدمه رئيس "يونيتامس" أمام مجلس الأمن في أبريل (نيسان) الماضي، تم تداول تهديد للبرهان، خلال مخاطبته مجموعة من ضباط الجيش الجدد، بطرد فولكر إن تجاوز التفويض الممنوح لبعثته وتدخل في الشأن السوداني. وبعدها أبدى فولكر استعداده لمراجعة أية معلومات غير دقيقة في البيان الذي قدمه أمام مجلس الأمن، لكنه في ما بعد اجتمع مع البرهان، وناقشا "سبل الخروج من الأزمة السياسية، وتحقيق الانتقال الديمقراطي، وتهيئة بيئة مواتية للعملية السياسية التي تيسرها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي و(إيغاد)".
في المقابل، وبينما لم تسفر المشاورات بين فولكر والقوى السياسية عن أية بادرة اتفاق، أكد فولكر أن تركيزها انصب على "ضرورة إعادة النظر في دور مجلس السيادة وحجمه وعضويته، وتشكيل جيش مهني موحد، وتهيئة الظروف لإجراء انتخابات ذات مصداقية، وإجراء عملية دستورية شاملة تحظى بمشاركة قوية من المجتمع الدولي لدعم الانتقال السياسي، بما فيه إمكانية العمل كضامن لأي اتفاق".
آثار المواجهة
تميزت فترة العامين السابقين من نشاط البعثة بأنها مرحلة كاشفة لكثير من التصورات الخاصة بتعاطي القادة العسكريين مع مندوبي المجتمع الدولي من موظفين دبلوماسيين ومنظمات أممية، ذلك أنها بدأت بقبول عام، سرعان ما تلاشى مع الأيام فتحول إلى مثل هذا الرفض الصاخب الذي اقترن بالصراعات السياسية المتعددة الأقطاب ما بين المدنيين والعسكريين من جهة، وبين العسكريين أنفسهم، وداخل المكون العسكري، وداخل المكون المدني. وهذه الأزمة أشار إليها فولكر بقوله، "لو لم تكن هناك أزمة بين العسكريين لما كانت هناك أزمة بينهم وبين المدنيين. ولو كان مجرد صراع بين المكون العسكري والمدنيين لكان الحل أسهل، فالمسألة أكثر تعقيداً".
أما الإطار العام الذي يحكم هذا التنافر فيتمثل في أن السودان مهدد بخسارة مليارات الدولارات من الدعم الخارجي، إذ تم مؤقتاً تعطيل الدعم من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمانحين من دون أجل محدد، إضافة إلى تعطيل استفادته من قرار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون "هيبك" التي كانت ستحقق له نحو 50 مليار دولار أميركي في إطار تخفيف عبء الديون. ولا يتوقع أن يستفيد منها السودان بالوصول إلى حل قبل أن يحين أجلها.
تعويل على البعثة
لا يتوقع أن تذهب الحكومة السودانية بعيداً في رفضها بعثة "يونيتامس"، ويرجح أن يجدد عملها وفق شروط جديدة مع تعديل إجراءات التفويض، ومنها "استثناء البعثة من العمل السياسي، وسحب الصلاحية التي تتمتع بها الآن لإدارة الحوار بين الأطراف السودانية". كما يتوقع أن يكون هناك تغيير على مستوى رئيس البعثة ومستشاريه غير المرضي عنهم من جانب المجلس العسكري لاتهامهم بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد وانحيازهم لبعض القوى السياسية.
على الرغم من دخول السودان منعطفاً تاريخياً مهماً بعد هذه الإجراءات، فإن المجلس العسكري لا يزال يعول على هذه البعثة كونها المنفذ الوحيد أمامه، لكنه ألقى في وجهها باتهامات التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، بينما يعمل المكون المدني على استراتيجية إضعاف الخصم (المكون العسكري) من خلال إضافة مزيد من الاتهامات للجيش.
وتحاول الولايات المتحدة والدول الغربية استخدام برنامج التعاون الدولي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية تجاه السودان، ومن اللافت للنظر أن الاختراق الذي أحدثته البعثة في السودان بعد الثورة ارتبط بحالة من التراجع الواضح للوعود الغربية، خصوصاً المساعدات الاقتصادية وإعفاء الديون، لدرجة أصبح ينظر إليها وكأنها ذراع غربية تدير الشأن الداخلي، تارة بالانتقادات، وتارة بالتوجيه من دون تقديم أية مساعدات واتخاذ حجج في كل مرة.
وعليه، فإن الفرصة سانحة أمام مجلس السيادة بعد انتهاء الفترة المقرر لها في يونيو المقبل، أن يكون إصلاح البعثة هو الأولوية، إن لم يكن بإنهاء عملها نهائياً، وهو شيء غير منطقي، فيمكن تغيير هيكل البعثة، إذ إن رئيسها غير مرضي عنه في الأوساط السودانية، ولم يستطع كسب رضا العسكريين ولا المدنيين. ولعل مكمن الخطورة في أن يكون التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد هو نهج البعثة عموماً، وليس مرتبطاً بشخص فولكر تحديداً.