أثار مشروع القانون الذي اقترحه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي حول منح البولنديين "وضعية خاصة" في أوكرانيا ضجة واسعة النطاق، لما له من تبعات سيكون لها شديد الأثر على إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة، بما في ذلك ما يتعلق من تحرك حدود الناتو التي كانت تنتهي عند الحدود الأوكرانية، لتصير على مقربة من نظيرتها المتاخمة لروسيا، وبما يزيد من توغلها في العمق الأوكراني إلى ما يقدر بخمسمئة كيلومتر. جاء ذلك على ما يبدو رداً على توغل القوات الروسية في الأراضي "الأوكرانية"، في إطار ما سبق وقاله الرئيس فلاديمير بوتين حول الأراضي التاريخية الروسية التي سبق وأهدتها روسيا إلى عدد من الجمهوريات السوفياتية ومنها أوكرانيا وكازاخستان وإستونيا. كما أنه تزامن مع قبيل موعد الزيارة التي قام بها الرئيس البولندي أندريه دودا إلى كييف، وأعلن خلالها من على منصة مجلس الرادا (البرلمان الأوكراني) عن اقتراحه بشأن إبرام "اتفاق جديد بين بولندا وأوكرانيا حول حسن الجوار"، بكل تبعاته ومنها فتح الحدود بين البلدين.
ما وراء "اتفاق حسن الجوار" بين بولندا وأوكرانيا
أما عن هذه التبعات فلن تقتصر بطبيعة الحال على البلدين، وهو ما أكده مراقبون في موسكو بتأكيدهم أن ذلك سيكون مبرراً لما عقدت روسيا العزم عليه بشأن انضمام جمهوريتي "دونيتسك" و"لوغانسك" وما جاورهما من أراض تاريخية، كانت تحمل حتى الأمس القريب اسم "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة) التي تمتد إلى مقاطعتي خيرسون وأوديسا على ضفاف البحر الاسود.
ويتوقف كثير من المراقبين في موسكو حول مضمون وتبعات "اتفاق حسن الجوار والحدود المفتوحة بين بولندا وأوكرانيا"، الذي طرح الرئيس البولندي فكرته على البرلمان الأوكراني، وما اتخذه الرئيس زيلينسكي من قرار حول الوضعية الخاصة التي يقترحها للمواطنين البولنديين في أوكرانيا، بكل ما تعنيه الوثيقتان من بنود هي أقرب إلى أسس تشكيل الدولة الاتحادية.
وثمة مؤشرات كثيرة تقول إن ما يجرى طرحه من أفكار ومبادرات لا يعدو كونه محاولة "مكتملة الأركان عميقة المغزى ومتعددة الدلالات"، تقول ضمنا إن البلدين في سبيلهما إلى "كونفيدرالية" توفر المقدمات اللازمة لتقنين محاولة الالتفاف حول "الفيتو" الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد انضمام أوكرانيا إلى الناتو واستعادة وضعيتها النووية، ونشر الأسلحة الاستراتيجية في أراضيها، وغير ذلك من الشروط والتحفظات التي أودعها مذكرته التي أرسلها إلى كل من الرئيس الأميركي جو بايدن، وإلى الناتو في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، حول الضمانات اللازمة لحماية أمن ومصالح بلاده ضد استمرار مخطط توسع الناتو شرقاً على مقربة مباشرة من الحدود الروسية.
وتلقف المراقبون في موسكو هاتين "المبادرتين"، الأوكرانية والبولندية اللتين أعلنهما الرئيسان فلاديمير زيلينسكي واندريه دودا، ليخلصوا إلى أنهما تعنيان عمليا "وضع أوكرانيا تحت الوصاية البولندية"، على حد تعبير رفائيل فخرالدينوف المعلق السياسي لصحيفة "فزغلياد" الالكترونية الروسية، مستشهدا بما قاله زيلينسكي حول أن "كييف ووارسو تعملان على إنشاء ما يشبه الدولة الاتحادية، مع بنية تحتية مشتركة للنقل، ومراقبة مشتركة للحدود والجمارك، والمساواة في حقوق المواطنين في كلا البلدين الشقيقين".
الطريق إلى دولة اتحادية
ونقلت "فزغلياد" عن مراد بشيروف المتخصص في الشؤون السياسية، ما قاله بشأن "أن أوكرانيا وبولندا في سبيلهما إلى تأسيس نموذج أولي لدولة اتحادية. لكن ينبغي إدراك أن دستور كلا البلدين لا يمكن تعديله بقانون واحد، وأن كل شيء سيعتمد على القيود الدستورية في أوكرانيا وبولندا". وأشار إلى "أن بولندا تحتاج من أجل تحقيق ذلك إلى القيام بأنشطة اقتصادية على أراضي أوكرانيا، وكذلك لاستخدام ممرات النقل البري لأغراض تجارية. أما بالنسبة للأغراض العسكرية، فخلال الشهرين الماضيين، تُظهر جميع الاستطلاعات الاجتماعية في بولندا أن أكثر من 60 في المئة من مواطني البلاد على يقين من ضرورة إجراء عمليات عسكرية ضد روسيا، بشكل أو بآخر".
ومن اللافت بهذا الصدد أن بولندا، وعلى عكس الكثير من بلدان الناتو والاتحاد الأوروبي، لم تقتصر في دعمها وتأييدها لأوكرانيا على إرسال الأسلحة والمعدات، وعلى كونها كانت ولا تزال المحطة الرئيسة للخروج منها والدخول إليها سواء للمهاجرين النازحين من أوكرانيا منذ اندلاع العمليات القتالية، أو للزعماء والمسؤولين الأوروبيين والأميركيين في اتصالاتهم مع نظرائهم الأوكرانيين. فضلاً عما قامت وتقوم به من إرسال للمرتزقة والخبراء العسكريين والمتطوعين للقتال ضد القوات الروسية وفصائل الحرس الوطني التي وصلت لمساعدة القوات الأوكرانية التي تواصل للشهر الثالث على التوالي "حربها التي تقوم بها بالوكالة"، ضد القوات الروسية المسلحة، وفصائل الميليشيات والقوات الأمنية التابعة لكل من جمهوريتي "دونيتسك"، و"لوغانسك".
وكشفت الأشهر القليلة الماضية عن مؤشرات تقول إن بولندا في سبيلها إلى زيادة عدد المتطوعين بحلول نهاية عام 2022 بمقدار 15000 شخص، بحسب تصريحات وزير الدفاع البولندي ماريوس بلاشتشاك. كما أشارت وسائل الإعلام البولندية إلى إعداد وزارة الدفاع البولندية لمشروع "مهمة حفظ السلام" للناتو في أوكرانيا، بكل ما يتعلق من تبعات "توسعية" في معرض تناول التجاذبات السياسية بين كل من روسيا وبولندا التي يعود تاريخ بعضها إلى سنوات ما بعد ثورة 1917 في روسيا، وما قبل الحرب العالمية الثانية في عام 1939.
إزالة الحدود
وكان الرئيس البولندي أندريه دودا أعلن اتفاقه في الرأي مع نظيره الأوكراني زيلينسكي حول ضرورة إزالة الحدود بين البلدين، وهو ما صار أساسا لإعلان الرئيس الأوكراني حول أنه، "يجب ألا تكون هناك حدود أو حواجز بين البلدين". ومضى زيلينسكي يقول، "عقلياً، لم تفصل بين الشعبين الأوكراني والبولندي لفترة طويلة (فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية). لذلك، توصلنا إلى اتفاق لترجمة ذلك إلى اتفاق ثنائي مناسب في المستقبل القريب. أولاً، في ما يتعلق بالرقابة المشتركة على الحدود والجمارك، وبعد ذلك على حدود مشروطة واحدة، عندما تصبح أوكرانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي". وذلك يعنى عمليا محاولة سحب البساط من تحت أقدام الجانب الروسي الذي لا يتوقف عن تكرار الحديث عن سابق التاريخ والأصول المشتركة بين الشعبين الروسي والأوكراني، وهو ما سجله الرئيس بوتين في مقاله الأكاديمي التاريخي حول هذا الموضوع، الذي سبق ونشره في يوليو (تموز) من العام الماضي.
ولعل ما نشهده اليوم من تطورات ثمة ما يشير إلى محاولات كل الأطراف إسنادها إلى الماضي القريب منه والبعيد، ومنها تاريخ ضم بولندا لمساحات هائلة من تشيكوسلوفاكيا قبل الحرب العالمية الثانية تبلغ مساحتها 805 كيلومترات مربعة من الأراضي يسكنها 227400 نسمة، يقول باحتمالات تكرار التجربة البولندية التي كان الاتحاد السوفياتي نجح في تصحيح تبعاتها مع نهاية الحرب العالمية الثانية بما فرضه من حدود استعادتها أوكرانيا. كل ما فقدته روسيا بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية في عام 1917 من أراض تقع اليوم في الجزء الغربي من أراضيها إلى جانب إعادة ما اقتطعته بولندا من أراضي تشيكوسلوفاكيا. وذلك ما سبق وتوقف عنده ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق عندما وصف بولندا بأنها "ضبع أوروبا الجشع"، لدى استعراض ما قامت به من ضمها للأراضي "الروسية" الواقعة الآن في غرب أوكرانيا خلال فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، بحسب ما أشارت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" الروسية.
وكان سيرغي ناريشكين رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية أشار أيضا في حديث له في أبريل (نيسان) الماضي، إلى احتمالات تكرار بولندا للتجربة نفسها في إطار ما تصفه وارسو بعملية "حفظ السلام في أوكرانيا"، من دون تفويض من الأمم المتحدة. وعلى الرغم من ان وارسو سارعت آنذاك إلى إعلان عدم صحة مثل هذه التوقعات، فقد أعلنت وزارة الدفاع البولندية فجأة عن "نقل عدد كبير من القوات والمعدات إلى شرق البلاد نهاية مايو (أيار) ضمن تدريبات واسعة النطاق".
مباركة أميركية وبريطانية
وتقول المصادر الروسية إن ذلك لم يكن ليحدث بغير موافقة الولايات المتحدة وبريطانيا، وهو ما علقت عليه صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" باستشهادها بما قاله ماتيوش بيسكورسكي، الباحث السياسي البولندي، الذي أعرب عن يقينه من "أن الأميركيين والبريطانيين يخاطرون بشكل كبير من خلال إغراق وارسو في رغبة استعادة ممتلكاتها السابقة"، وأضاف، "أن أوكرانيا يمكن أن تفقد في هذه الحالة دورها الحالي كورقة تستخدم في مناطحة روسيا؛ لأنها مع وصول البولنديين إلى غاليتشينا (غرب أوكرانيا)، لا بد من طرح، عاجلاً أم آجلاً، مسألة تطهيرها من جماعة بانديرا (الفاشية)، إنما هذه المرة بأيد غربية".
وتقول المصادر الروسية "إن تطور الأمور في هذا السياق لا بد أن يكون مبررا منطقيا لتصفية اي عقبات يمكن ان تظهر على طريق ما يتردد اليوم في الأوساط الروسية، بل والاوكرانية والغربية حول تزايد احتمالات تنفيذ مشروع نوفوروسيا إلى واقع، بما يتبعه من اتحاده مع جنوب شرقي أوكرانيا".
أثر "الوضعية الخاصة" في أوكرانيا
ونأتي إلى ما أعلن عنه الرئيس الاوكراني زيلينسكي حول منح البولنديين وضعية خاصة في أوكرانيا بما يتيح لهم شغل المناصب الانتخابية، والتعيين في الأجهزة القيادية للدولة وإدارة مؤسساتها الدفاعية، بما يتبع ذلك من حقوق سيادية تكفل لهم الاطلاع على البيانات السرية، وشغل مناصب القضاة، وأيضا بما يكفل مساواة الشرطة البولندية في الحقوق والسلطات مع الشرطة الأوكرانية على أراضي أوكرانيا.
وذلك ما توقفت عنده صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" فيما نقلته عن مراد باشيروف، أستاذ العلوم السياسية الذي قال إن "زيلينسكي سيكون قادرا على تشكيل وحدة عسكرية جديدة من المواطنين البولنديين وتعيين البولنديين كقادة هناك". وخلص خبير الشؤون السياسية الروسي إلى "أن مثل هذه الوحدة ستكون وحدة عسكرية أوكرانية من جانب، لكنها ستكون بولندية بالكامل من آخر"، بكل تبعات مثل هذه الوضعية الجديدة التي يمكن أن تكون هذه الوحدة معها، وبطبيعة الحال مخولة باستخدام أسلحة الناتو، التي يعرف أفرادها كيفية استخدامها، على عكس الجنود الأوكرانيين، وبما يعنى في نهاية المطاف "الاحتلال غير المعلن" على حد قول مراد بشيروف.
ومضت الصحيفة الروسية واسعة الانتشار في استطلاعها لآراء الكثيرين من الخبراء الروس حول ما يقال إن الرئيس زيلينسكي بادر إلى طرح ما أقرب إلى مشروع الاندماج، "ليضع غرب أوكرانيا تحت الحماية البولندية قبل فوات الأوان، تداركا من جانبه لما هو أقرب من الاعتراف بأن جنوب البلاد قد ضاع"، على حد قول ألكسندر بيرينجييف الأستاذ المساعد في قسم علوم السياسية والاجتماع بالجامعة الروسية للاقتصاد، الذي مضى في تقديراته إلى استذكار ما سبق وأعربت عنه وارسو من "أحلام" حول إنشاء دولة بولندية من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. وقال إن ذلك يمكن أن "يتسبب في رد فعل عنيف من جانب جزء من سكان أوكرانيا، لا تقتصر على منطقة خيرسون (في جنوب أوكرانيا على ضفاف البحر الأسود). فلن يرغب الجميع في كييف أن يكونوا (خدما للبولنديين) على حد تعبيره، وهذا ما قد يهدد بخروج قوي في المناطق الغربية من الجمهورية"، على حد توقعاته. وذلك من واقع ما طرحه الرئيس البولندي أندريه دودا في مجلس الرادا الأوكراني من اقتراح حول توقيع "اتفاق جديد بين بولندا وأوكرانيا حول حسن الجوار بكل تبعاته بشأن فتح الحدود بين البلدين".