يعود المخرج لؤي شانا إلى مسرحة القصص الأدبية في عرضه الجديد "موت موظف" عن قصة بالعنوان نفسه للكاتب أنطون تشيخوف، مكملاً مسيرة عديد من المسرحيين السوريين الذين اقتبسوا عروضهم من نصوص لزكريا تامر ومحمد الماغوط وغابرييل غارسيا ماركيز، وسواهم. إلا أن النسخة الجديدة من قصة الكاتب الروسي حفلت بمعالجة مختلفة عن تلك التي قدمها مخرجون آخرون في المسرح القومي. ولعل أبرزها كانت عام 1992 بتوقيع المخرج الأرمني- السوري مانويل جيجي، إضافة إلى المخرجين الذين حققوها ضمن عروضهم إلى جانب قصص ومسرحيات أخرى لصاحب "النورس" كان من بينها قصة "العنبر رقم ستة".
لؤي شانا كان قد قدم هو الآخر "موت موظف" عام 2003 في المسرح القومي في اللاذقية، ونال عليها حينذاك جائزة أفضل عرض في مهرجان أصفهان للكوميديا، وها هو اليوم يقدم نسخة استعادية من عرضه مع ممثلين وفنيين جدد، لكن من دون أي تغيير في الخطة الإخراجية، أو حتى على صعيد المفارقات والمواقف التي قدمها ممثلو النسخة الأولى من العرض الذي لاقى ترحيباً من جمهور مسرح الحمراء الدمشقي، لا سيما أن العرض يقدم إدانة للعبودية المتجذرة في نفس الإنسان المسحوق، واستلابه للسلطة وخضوعه الأعمى لها.
الموظف الخائف
تروي مسرحية "موت موظف" حكاية يوسف (علي القاسم) الموظف البسيط الذي يعطس بلا قصد على رقبة مسؤول كبير (محمد سالم) يجلس أمامه في أثناء حضوره لفيلم سينمائي، فيتطاير الرذاذ على قفا هذا المسؤول. حينها يعتذر يوسف منه، يعود ويكرر الاعتذار، ليعود في اليوم التالي ويذهب إلى مكتبه، ويقدم له الورود ويعتذر منه مجدداً. يثير استغراب المسؤول الذي يتفهم وضع الموظف البسيط، ويخبره أن الأمر بسيط ولا يستدعي كل هذه الاعتذارات، لكن تكرار الاعتذار يجعله يشعر أن يوسف يسخر منه، فيطرده غاضباً من سلوكه، ليخرج يوسف عائداً إلى بيته. وهناك يرمي بجسده الضئيل على الأريكة وهو لا يزال مرتدياً بدلته الرسمية، ويموت.
القصة التي لا تتجاوز الصفحتين ونصف الصفحة حاول مخرج العرض ومعده تمديدها زمنياً على مشاهد متتالية، فافتتحها بظهور الممثلين تباعاً على مستوى مرتفع من الخشبة، حيث يجلسون كجمهور في صالة سينما، ويبدأ كل منهم بأخذ مكانه قبالة الشاشة الافتراضية. وبعد تمهيد بسيط لعامل تنظيفات (ماجد عيسى) يطالب مهندس الصوت في الصالة بالثبات على أغنية محددة من الزمن الجميل، وعدم بث أغنيات هابطة، فنشاهد انطباع الممثلين وتفاعلهم مع ما يعرض أمامهم على شاشة وهمية، ليصبح كل منهم بمثابة جمهور سينمائي متخيل قبالة جمهور المسرحية، فيتابع ردود فعلهم، وضحكاتهم، وخجلهم من مشاهدة لقطات حميمية وأخرى مثيرة للرعب والإثارة.
جمهوران في صالة
بداية موفقة لعرض جمع بين جمهورين في لحظة واحدة، لتندلع بعدها أحداث المسرحية وتظهر مجاميع إلى جانب الممثلين الرئيسين في دعوة يوسف لعدم الخوف، والذهاب إلى مكتب المسؤول، والاعتذار منه، لكن يوسف يظل خائفاً ومرتبكاً حتى في أثناء الحديث مع زوجته (لميس عباس) التي تنصحه هي الأخرى بتقديم الورد للمسؤول الكبير، وعدم التردد في الذهاب إلى مكتبه، وتقديم الاعتذار له رسمياً. نصل معاً إلى مشهد الحلم الذي يتبدى فيه المسؤول وهو واقف بكامل أناقته يلوم ويقرع يوسف على فعلته النكراء.
مفارقات كوميدية عديدة نمر بها أثناء هذه الأحداث، وصولاً إلى مشهد وصول يوسف إلى مكتب المسؤول، ومقابلته لسكرتيرته (نجاة محمد) واكتشافه أنه ليس الشخص الوحيد الذي جاء لتقديم الاعتذار، بل إن هناك أشخاصاً آخرين جاؤوا من أجل الغاية ذاتها. فهذا لوث سيارة المسؤول باللبن، وذاك تجشأ في وجهه، وثالث اصطدم به من غير قصد وهو في طريقه إلى وظيفته، مما يجعل يوسف أكثر توتراً وخوفاً من المواجهة، ويدفعه إلى الاعتذار بنبرة توسل واستجداء تغيظ المسؤول، وتجعله يطرده شر طردة. يلي ذلك مشهد موت الموظف في بيته، وإقامة مراسم العزاء على روحه.
ومع أن قصة تشيخوف تنتهي عند وفاة الموظف، إلا أن مخرج العرض قام بإضافة مشاهد أخرى لعل أبرزها مشهد العزاء، والخلاف الذي ينشب بين شقيقين حضرا لأداء التعزية، وتدخل الشيخ بينهما للحيلولة دون اقتتالهما أمام المعزين. ومن ثم الانتقال إلى مشهد عزاء النسوة لزوجة يوسف، والتي تتحول في المشهد التالي إلى ساقية في حانة شراب، ويرتادها شاعر يقوم بتدبيج قصائد الرثاء لزوجها الراحل، وتمرير حكمة مفادها أن من يحني ظهره للآخرين سيلقى مصير المرحوم ذاته. يبرز هنا أداء لافت للممثلين الرئيسين وعلى رأسهم الفنان باسل حيدر الذي لعب أكثر من دور في العرض، وتمكن بطاقة عضلية وصوتية من الانتقال السلس بين أدوار المتفرج والأخ، والموظف المذنب، والشاعر، محققاً تفاعلاً كبيراً مع الجمهور، ومؤكداً نموذج من تلك الشخصيات الانتهازية التي تركب الموجة، وتكيل المديح والنفاق بغية الوصول إلى مآربها الدنيئة.
الإنسان وسيده
المشهد الأخير كان في تعليم الناس على العطاس بعد أن فقدوا مهارته، وتدريبهم على إنشاد سيمفونية من مقطعين هما: "ها" و"تشي"، في دلالة على نزع الخوف من قلوب العامة، وعدم الخجل من أفعالهم اليومية، وترويضهم على التعامل مع أسيادهم من غير شعورهم الدفين بالدونية والاحتقار لأنفسهم. القالب الكوميدي للعرض جاء في توليفة حركية وصوتية عكست طاقة لافتة لجيل من الممثلين الشباب الذين شاركوا في "موت موظف"، وذلك ضمن صيغة بريختية ملحمية تخطت وظيفة الجوقة اليونانية. وأكدت بطولة الأداء الجماعي لكل من زين شعبان، وبراء سمكري، وأليسار صقور، وملاك خطيب، وصلاح طوبجي، وأحمد العبود، مع كل من باسل كربوج، وخالد القصير، وعماد يوسف، ومصطفى خطيب، وزينب عيد، ومرح إسماعيل، ونور كباريتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتمكن لؤي شانا في نسخته الاستعادية للعرض من إدارة قرابة عشرين ممثلاً وممثلة على الخشبة، وقام بتوظيف المناخ الضوئي الملائم (بسام حميدي) وفق مستويين من الفرجة، أسهم الديكور (سنان إسبر) في صياغتهما على هيئة منصة متحركة. ولعبت موسيقى (إياد اسمندر) دوراً في الانتقال من مشهد إلى آخر حسب الظرف العام للشخصيات، مما حقق فرجة متواصلة، وأبرز إمكانات الممثل بأدائه بنمط وآخر من دون تغيير حاد في الأزياء والمكياج (خولة ونوس)، وبالاعتماد على تقشف في الأكسسوار والابتعاد عن مسرح الأغراض نحو مسرح قوامه طاقة الممثل، ولعبه على الألفاظ والأكروبات والقفشات الضاحكة.
ولعل السخرية كانت مفتاحا رئيساً لبناء مسرحية "موت موظف" بحيث تمكن العرض من التحايل على الرقابة بتمرير انتقادات لاذعة للواقع السوري اليوم، وتصوير مجتمع يسوسه الخوف، والرهبة من الآخر، وتشريح لواقع الخائفين ورعبهم من السلطة وجبروتها، وصولاً إلى تقديم رسم كاريكاتيري هزلي لإنسان يموت من الخوف، ويجزع لأقل مواجهة ولو عابرة بينه وبين أصحاب النفوذ. كأن البشر أمسوا ظلالاً ومسوخاً تتمرن على تفادي أي صدام مع الآخر، حتى ولو كان عطاساً عابراً على رقبة أحدهم.