يحضر الفيلسوف الفرنسي الروماني الأصل إميل سيوران في المكتبة العربية عبر كتبه المترجمة التي تصدر تباعاً والتي باتت تملك قراء كثراً، وأحدثها كتاب "السقوط في الزمن" في ترجمة للشاعر التونسي آدم فتحي (دار الجمل)، وهو يعد من أبرز مؤلفاته في الشأن الوجودي. ولعل أهم ما يميز فلسفة المفكر الفرنسي الروماني الأصل إميل سيوران هو البعد التشاؤمي المرير الذي قاده إلى اليأس منذ الولادة، باعتبارها عبثاً لا لزوم له ما دامت حياة الإنسان تنتهي بالموت، وما يتخللها من مكابدة لا معنى لها وجدوى. وهي عكس الفلسفة الوجودية التي أعلت من قيمة الإنسان، فبات هو المعيار الأساسي لفشل أو نجاح الحياة والنظم والأدب والفنون عموماً، بينما قلل سيوران من قيمة الإنسان، بل اعتبره تائهاً في عالم الأوهام، مذ اختار في الفردوس أن يأكل من شجرة المعرفة عوضاً عن شجرة الحياة التي يمكنها أن تمنحه الخلود- في كتابه "السقوط في الزمن" يشرح نظريته الفلسفية تلك في فصل "شجرة الحياة"، وكيف تم هذا الاختيار- الذاهب في المجهول- معتقداً أن المعرفة ستمنحه القوة والسيطرة، عوض عيش الطمأنينة كباقي المخلوقات .
يقارن سيوران بين مأزق الشعوب المتقدمة التي تعيش تعاسة هذا الاختيار وتحاول أن تجر وراءها الشعوب المتخلفة التي تفتقر إلى التقدم العلمي. ومن هنا يعتبر أن الإنسان أخطأ في الاختيار الذي قاده ليصبح كائناً مدمراً لذاته ولباقي مخلوقات الطبيعة، بل هو أكثر منها توحشاً وتخريباً. كل ذلك ليسلك دروب الغموض والمجهول ويسقط في الزمن الذي هرب منه بذريعة البحث عن المعرفة، وإذا به يزداد ضياعاً وتعاسة.
المياه والغرق
اشتهر سيوران بوصفه فيلسوفاً رومانياً نظراً لولادته في مدينة رازيناري الرومانية في 8 أبريل (نيسان) 1911، ما لبث أن انتقل إلى برلين وتعلم الألمانية ثم أمضى الشطر المتبقي من حياته في باريس وعلم في جامعاتها وتوفي فيها في 20 يونيو (حزيران) 1995. كتب باللغتين الرومانية والفرنسية، ومن أهم كتبه التي تعبر عن فلسفته "على قمم اليأس"، وهو أول كتبه ونشره بالرومانية فضلاً عن "المياه بلون الغرق" و"مثالب الولادة"، لكن أكثرها انتشاراً بعد تجاهل كتاباته الذي دام عقوداً، "دراسة في التحلل"- كتبه بالفرنسية- فيما يعتبر كتابه "السقوط في الزمن" من أكثر كتبه التي يظهر فيها تأثره بالمعتقدات الدينية ونقدها في آن واحد. فوالده كان أسقفاً كنسياً، فيما والدته تمقت الأديان. تربى بين والدين على طرفي نقيض. وربما لهذا نراه في" السقوط في الزمن" يستند إلى الرواية الدينية عن الفردوس ليشرح فلسفته. يرى سقوط آدم من الجنة بعد أن أغرته الأفعى بأكل ثمرة شجرة المعرفة المحرمة، اختياراً غير موفق. وكان بإمكانه أن يختار شجرة الحياة ويعيش قدره مطمئناً كباقي المخلوقات. ولهذا أخطأ "آدم" كما في التوراة، برأي سيوران، حين اختار أن ينافس الإله بدلاً من أن يسعى للخلود متغذياً من "شجرة الحياة" ويعيش قدر إلهه، خالداً لا يحتاج إلى أن يسعى ويخوض غمار المجهول .
يستعيد سيوران مجمل أفكاره الفلسفية المغرقة في العدمية والتشاؤم بما يشبه التكرار في جميع كتبه. استغل الأرق الذي عانى منه طوال حياته في الكتابة والانكباب على المعرفة. ساعدته العزلة والانقطاع عن العالم في التركيز على بلورة آرائه الفلسفية المترعة بالسوداوية والتشاؤم واليأس، لذلك يرى سيوران أن من غير اللائق علينا ونحن قريبون من الإله أن نعامله كغريب، علماً أن عزلتنا تستحضر عزلته، وإن كان ذلك في مستوى أكثر تواضعاً، ولكن مهما كان تواضعها- برأيه- فإنها تسحقنا مع ذلك. وحين تهبط علينا تلك العزلة كالعقوبة كما يقول، وتطالبنا، مقابل مكابدتها، بمقدرات ومواهب خارقة، فبمن نلوذ إن لم يكن بذاك الذي كان دائماً، باستثناء حلقة الخلق، مقطوعاً عن كل شيء: الله. الوحيد يمضي باتجاه الوحيد أكثر. في اتجاه ذاك الذي ظلت جوانبه السلبية نصيبنا الوحيد من العلم، ما كان الأمر ليكون كذلك لو أننا ملنا في اتجاه الحياة. لو حصل لنا ذلك لعرفنا إذن وجهاً آخر من وجوه الألوهية، ولأمكننا اليوم أن نكون مثل الملائكة في عدم فضولنا إلى الموت واستثنائنا منه، وقد التففنا بنور قوي لا أثر فيه من ظلمة أو عنصر شيطاني. لم نكن في المستوى عند بداياتنا، فأخذنا نجري بل نهرب باتجاه المستقبل.
البراءة الحقيقية
لا يمكن في رأي سيوران، لجشع الإنسان أن ينجم إلا عن ندم البشر على العبور إلى جانب البراءة الحقيقية التي لا يمكن لذكراها ألا تستحوذ علينا. فمهما كانت العجلة والمزاحمة التي نتعامل بهما مع الزمن، فإننا لن نخمد النداءات الناجمة عن أعماق ذاكرتنا التي طبعتها صورة الفردوس، الحقيقية، التي هي ليست "شجرة المعرفة" بل هي صورة "شجرة الحياة"، تلك التي سيوضع الطريق إليها تحت حراسة ذوي "سيوف ذات حدين"، اقتصاصاً من انتهاكات آدم. وحدها شجرة الحياة تستحق أن تستعاد. وحدها تستحق عبء ندمنا. وهي دائماً الشجرة التي تذكرها القيامة كي تعد بها الغالبين الذين لم يترنح ورعهم أبداً. هكذا لا توجد إلا في السفر الأول وفي السفر الأخير من الكتاب المقدس، وكأنها رمز في وقت واحد على بداية الأزمنة وعلى نهايتها.
لعل اختيار الإنسان الأول وسلالته من البشر لشجرة المعرفة هي خطيئته الكبرى. وما لم يكن البشر مستعدين للتخلي عن وضعهم أو لإعادة النظر فيه "فما ذلك إلا لأن البشر لم يستخلصوا آخر عبر العلم والسلطة". فالإنسان مقتنع بأن لحظته مقبلة كي يلتحق بالإله، لذلك "هو متعلق كالحسود بفكرة الارتقاء التي ستقوده إلى أعلى درجة من الكمال". ولذلك يرى سيوران أن من شأن رغبة "الإنسان" أن يكون "آخر" وأن تنتهي به إلى ألا يكون "أحداً"، بل لعله لم يعد أحداً. وليس من شك في أنه يرتقي، لكن ضد نفسه وعلى حسابه في اتجاه "تعقد" يدمره.
يرى سيوران أنه على الرغم من مما يبدو أن مفهومي الصيرورة والتقدم متقاربان، فهما، في الحقيقة متباعدان. كل شيء يتغير، هذا متفق عليه إلا أنه من النادر بل المحال أن يكون التغيير نحو الأفضل. وهنا يبلغ سيوران قمة اليأس من المخلوق الذي هو الإنسان. يفسر ذلك أنه انعطاف مبتهج بالمأزق الأصلي والبراءة الزائفة التي أيقظت في سلفنا شهوة الجديد، الإيمان بالارتقاء، وبهوية الصيرورة والتقدم. ولن ينهار ذلك الانعطاف إلا حين ينهار البشر، وقد بلغ البشر النهاية وأمسك "الإنسان" بأطراف ضلالته والتفت أخيراً، إلى العلم الذي يؤدي للخلاص وليس إلى القوة. فإذا هو قادر على إطلاق "لا" نهائية في وجه منجزاته وعمله.
ليس من شك برأي سيوران في أنه لو واصل الإنسان تشبثه بعمله ومنجزاته لدخل مسيرة إله مضحك أو حيوان من طراز قديم. حل يريح بقدر ما يحط من القدر، وهو أقصى مراحل خيانة الذات.
ما العمل؟
ما العمل إذاً– يتساءل سيوران- ما دام كل ما تصورناه وشرعنا في إنجازه منذ الإنسان الأول مريباً أو خطراً أو لا مجدياً؟ أنتخلى عن تضامننا مع النوع؟ سيعني ذلك- برأيه- أننا نسينا كوننا لسنا بشراً إلا بمقدار ما نندم على أننا كذلك. ولا مجال برأيه لتحاشي هذا الندم إذا استولى علينا: إنه يصبح محتوماً وثقيلاً كالهواء... فمعظمنا يتنفس طبعاً من دون أن يعي ذلك ومن دون أن يفكر فيه. وهنا يحذر سيوران بالويل لمن يعلمون أنهم يتنفسون، والويل أكثر لمن يعلمون أنهم بشر. إنهم يفكرون طيلة حياتهم في ذلك كمهووسين مضطهدين خارج نطاق التفكير في أي شيء آخر. إلا أنهم ـوالكلام لسيوران- يستحقون عذابهم، لأنهم كمولعين بما لا حل له، بحثوا عن موضوع معذب لا نهاية له. لن يمنحهم لحظة راحة واحدة، فالطريق أمامه ما زالت طويلة... ولما كان يتقدم وفق الوهم المكتسب، فإنه يحتاج كي يتوقف إلى أن يتفتت الوهم ويتلاشى، لكن الوهم غير قابل للتحطيم ما دام البشر شريكاً للزمن.
يتمادى سيوران في انتقاد سلوك البشر في الارتقاء عبر العلم والمعرفة، الذي برأيه يجب أن يقودا البشر للبس الحداد على الإنسان ما إن يتوارى آخر أمي. فالأهمية التي يوليها الإنسان المتحضر (يتحدث عن أوروبا) للشعوب التي تسمى متخلفة "هي أكثر ما يثير الريبة". فهو يعجز عن تحمل نفسه أكثر فيعمد- برأي سيوران- إلى التنفيس في تلك الشعوب عن فائض الأمراض التي تتكالب عليه، ويدعوها إلى معاناة مآسيه، ويناشدها كي تواجه مصيراً لم يعد قادراً على الاستهتار به وحده. فالإنسان المتحضر تبدو الحضارة له عمله وجنونه، شبيهة بعقوبة حكم بها على نفسه وبات راغباً بإنزالها بكل من ظل ناجياً حتى الآن. كمن يقول لتلك الشعوب: "تعالوا تقاسموا مصائبي وتضامنوا معي في جحيمي"، فقد أنهكته عيوبه وأنهكته أكثر منها "أنواره"، حتى بات لا ينفك يسعى إلى تسليطها على كل الذين ظلوا لحسن الحظ خالين منها.
حال البشر
ولا بد للقراء والمهتمين بالفلسفة عموماً من أن يدركوا أن سيوران كان على حق عموماً في تشخيصه لحال البشر، لا سيما إن نظرنا بعمق إلى سيل الأزمات التي تحاصر البشرية، وإن بدا يوتوبياً أحياناً، لكنه يملك وجهة نظر فلسفية قابلة للتفكير والقياس على مستوى الواقع وعلى مستوى ميتافيزيقي، على الرغم من عدميته المفرطة في السوداوية، لكن عظمة سيوران هي شجاعته في مجابهته لفلاسفة عظام مثل كارل ماركس ونيتشه وشوبنهاور الذي تأثر بهما بداية. وهو ما كان يبرر نزوعه نحو الفاشية إلى حد السخط على بلاده ومواطنيه الرومانيين لاستعصائهم عن بلوغ مرتبة عظيمة بين الأمم كما فعلت فرنسا وألمانيا، لكنه برر في ما بعد إعجابه بزعيم النازية أدولف هتلر بأنه كان مجرد طيش شباب. وجابه الفلسفة الوجودية على الرغم من تبوئها مركزاً مرموقاً ليس كفلسفة فحسب، بل بتأثيرها الذي امتد إلى الأدب والفنون والعلوم الاجتماعية كما السياسة والقيم الإنسانية العليا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وربما هذا ما دفعه للانخراط في الكتابات الأدبية وإثارة الجدل حول الكتابة من منطلق فلسفته العدمية وارتباطاً بها. وصل به الأمر إلى نبذ الحكمة "السقوط في الزمن" بوصفها تقتل الموهبة وتقلل من فرص الإنسان من عيش أناه في طمأنينة زائفة تبتعد بالكتاب عن معايشة المعيش، كي يتلافوا الشعور بالمتعة، كما بالألم، وهم ينشدون السكينة. يمجد غريزة الغضب وفضيلة الصراخ على الكلام، وتوابع الغضب من نميمة وافتراء على آخرين يكرههم بوصف الغضب وتوابعه، مصدر الحيوية التي تمنح الكاتب الموهبة في رؤية الحياة من منظار مخلوق لا يسعى إلى الكمال.
قد نتفق أو نختلف في هذه العجالة التي لن تغطي مجمل أفكار سيوران الفلسفية، لكننا لو اقتفينا بعض أقواله التي وردت في كتبه ومقالاته لتبين لنا أن كثيراً منا يشاطره الرأي فيها أو تعبر فعلاً عن محاكاة لمشاعر أو أفكار الملايين من البشر في لحظتنا الزمنية هذه، التي يترنحون فيها تحت سيل من الأزمات التي لا تجد طريقها للحل. وإن حلت ينشأ غيرها مجدداً. إما الأزمات الاقتصادية التي تداخلت أخيراً وتفاقمت على وقع جائحة كورونا، ولم يكد العالم يبدأ في التعافي منها والتقاط الأنفاس، حتى أطلت الحروب بتهديداتها النووية التي لم تكن لتدمر ما بناه الإنسان عبر التطور العلمي لو أنه لم يقع في غفلة الزمن ويسقط فيه، ويتوهم أنه يمكنه بالارتقاء والتطور العلمي والحضاري أن يفعل شيئا.
ولعل إميل سيوران على حق حين قال: لا وجود إلا لعلامة واحدة تشهد أننا فهمنا كل شيء: أن نبكي بلا سبب.
يثور الإنسان على الآلهة وينكرها معترفاً لها في الوقت نفسه بصفتها كأشباح. إلا أنه ما إن يلقى إلى ما فوق الزمن حتى يجد نفسه قد ابتعد عن تلك الآلهة حد نسيان فكرتها. وسيكون مروره بمحنة السقوط التام عقوبته على ذلك النسيان.