عربية بشير الغرياني، أمي من ولدت مع تباشير الحرب الأوروبية الكبرى الثانية، بمدينة غريان بالجبل الغربي في ليبيا، وكان ذلك في بيت حفر تحت الأرض، توفي والدها، فكانت المعيل الأم من حصدت نبات الحلفاء، وزرعت التبغ لمصانع المحتل الإيطالي. أمي هذه انصبت على رأس طفولتها الحداثة، كنيران لطائرات، وبوارج، وغواصات... وهلم جرا. هذه الحداثة الصلبة أنهت الحرب بإشعاع نووي، طاول أمي منه الخوف، وأن كل ما هو من صنع الإنسان، يمكن أن يدمره الإنسان، فتطور قدرة الإنسان على التدمير، جعلته لا يخاف من أحد، قدر خوفه من نفسه، حتى صارت حياة الإنسان في هلع.
تزوجت أمي في الثالثة عشرة من عمرها، وأنجبتني في عامها الخامس عشر، ولدت وعشت في عقود الإنشاء والانتشاء ما بعد الحرب، في زمن الحداثة فيه تتنقل في قارب سكران، منتشٍ بالفوز على النازية، ولكن البشرية فيه تحمل بين يديها قنبلة "توازن الرعب"، وكانت في طفولتي قد عمّت الحداثة جل العالم أو حتى كله.
كنت أتسرب من البيت أو دكان أبي، إلى مقهى سي جبران المحاذي، حيث هناك لعبة "الجتوني – كرة قدم الطاولة" الحديثة، وازدحام الصبية حولها، أما المراهقون والشباب، فيحلقون حول غادة حسناء، ابنة صاحب المقهى من تساعد أباها كنادل. هذه الفتاة الجذابة، بين الفينة والأخرى وفي المقهى، تمارس لعبة جديدة أيضاً، هي عبارة عن رقصة أو لعبة هيلا هوب، حيث تقوم بلف طوق بلاستيكي بلون مشع وقطره 71سم، ليظل يدور حول خصرها، حتى يصاب المشاهد بدوار ولا تصاب، كانت مدهشة طفولتي.
هيلا هوب انتشرت في أميركا ثم العالم منذ عام 1958، هذه اللعبة إلى جانب أفلام الكاوبوي أيقونات الحداثة في وجهها الأميركي، ما هي هوس شباب جيل ما بعد الحرب، هذا الجيل وصف بالميوعة، وأمي كثيراً ما استنكرت ميوعة فتاة المقهى، ومن يتحلقون حولها، من اعتبر منهم، حتى وإن كنت طفلاً في السادسة أو السابعة من العمر، أما أبي فقد ضربني أكثر من مرة صارخاً في وجهي: فرخ مائع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هيلا هوب علامة الميوعة تلك، ما دوختني منذ الطفولة، سألتقيها مع الزمان وفي المكان حيث وليت وجهي، وسأشاهد مع الوقت أن الحداثة لا تطرق الأبواب، كذلك سأعيش في عالم ألعاب بلا حدود! وسأطارد من السلطة الغاشمة في مراهقتي، باعتباري من "الخنافس" كنية الشباب من يطلقون شعورهم كالنساء. وخلال عقود الازدهار الغربي منذ الخمسينيات، غب الحرب، أخذ العالم يتحول إلى سوق، حشر فيها كل البشر باعتبارهم كائنات مستهلكة، وعليه فإن ما تبقى من بشر في أدغال غابات أفريقيا حتى الأمازون، مستهدف كمستهلك.
لقد تداعت على ذهني هذه الأفكار، في صور ومسرودات، لمقاربات تمس العالم اليوم، فالحداثة إذا كانت قلب أوروبا والغرب فإن هذا الغرب مركز العالم، وعليه فهي قدر ومشيئة أكثر منها إرادة في هذه المرحلة. إذابة المواد الصلبة مهمة الحداثة، التي وكأنها علاء الدين الذي يخرج الجن من الفانوس، بومان يطلق على الحداثة في مرحلتها البعدية، أي بعد إذابة المواد الصلبة الحداثة السائلة. وما تقدم أثاره في النفس كتاب زيجمونت بومان "الحداثة السائلة".
القراءة والاطلاع لا متعة فيهما ولا جدوى، من دون أن يتمازجا مع الذات تمازج الواقع معها، فكأني بالفكرة ما نطالع، نابعة منا كما الفن قريب الروح. هكذا فإن "حاجتنا إلى التفكير هي ما تجعلنا نفكر"، على رأي فيلسوف الفكر الناقد تيودور أدرنو، من عنده "ما من فكر محصن من التواصل"، هذا ما انتابني، عند مطالعتي لكتاب "الحداثة السائلة" لزيجمونت بومان، من له مؤلفات عدة عن هذه الحداثة المائعة.
وفي تعليل أطروحاته النقدية للحداثة، ومفاهيمها خاصة في ما بعد الحداثة، كتب: "ليس من الحكمة، أن ننكر التغير العميق، الذي أحدثه مجيء الحداثة المائعة في الوضع الإنساني، أو حتى نستهين به. فالبنية النظامية انتبذت مكاناً قصياً، يتعذر الوصول إليه، والوضع الراهن لسياسة الحياة، يفتقر إلى بنية محددة وتطغى عليه السيولة. كل ذلك يغير الوضع الإنساني على نحو جذري، كما يدعو إلى إعادة النظر في المفاهيم القديمة، التي طالما كانت تؤطر لسرديات الوضع الإنساني. إن هذه المفاهيم مثل الزومبي، ميتة حية في آن، والقضية العملية التي نحن بصددها، تتمثل في إمكانية بعث هذه المفاهيم بعد موتها، وإن أخذت شكلاً جديداً أو تجسدت في صورة جديدة، وأن تعذر كل ذلك، فكيف نستعد لسقوطها ودفنها على الوجه اللائق؟".