قبل سنوات، شكك متحف اللوفر- أبو ظبي في أصل عدد من القطع الأثرية المصرية التي اشتراها عن طريق متحف اللوفر- باريس، وفتح تحقيقاً داخلياً في أصل القطع، وطريقة الحصول عليها. مضى أكثر من أربع سنوات على تلك الشكوك التي تضافرت مع تحقيق دولي في بيع قطع بقيمة 56 مليون دولار لمتحفي متروبوليتان للفنون في نيويورك واللوفر أبو ظبي بين عامي 2013 و2017، مما تسبب بصدمة في عالم الآثار والهيئات المعنية.
النيابة الفرنسية وجهت اتهامات مباشرة إلى جان لوك مارتينيز، المدير السابق لمتحف اللوفر- باريس، بالتواطؤ في الاحتيال مع عصابة من المهربين، وإخفاء أصل أعمال القطع الأثرية التي يعتقد أنه جرت سرقتها من مصر خلال احتجاجات ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، حيث عمت فوضى أمنية أنحاء البلاد، على الرغم من نفيه ارتكاب أي مخالفة.
ويعمل مارتينيز، الذي استقال من منصب رئيس متحف اللوفر العام الماضي، سفيراً للتعاون الدولي في مجال التراث، مما قد يسبب إحراجاً لباريس.
ومطلع يونيو (حزيران) الجاري، قرر مكتب النيابة العامة في نيويورك مصادرة خمس قطع أثرية مصرية، بينها لوحة من مجموعة "وجوه الفيوم" الشهيرة التي تعود إلى عامي 54 و68 ميلادياً، وتبلغ قيمتها نحو 1.2 مليون دولار، كانت بحوزة متحف ميتروبوليتان.
تواضروس ولوحة توت عنخ آمون
بدأ خيط الشكوك بشأن عدد من القطع التي باعها متحف اللوفر- باريس لميتروبوليتان واللوفر- أبو ظبي، من لوحة جدارية من الجرانيت الوردي للفرعون الشاب توت عنخ آمون تعود لعام 1318 قبل الميلاد، اشتراها الأخير من اللوفر- باريس ووكالة متاحف فرنسا التي تدير أكبر المتاحف العامة في فرنسا، وذلك مقابل 8.5 مليون يورو. ففي النصف الأول من عام 2018، أبلغ مارك غابولد، العالم الفرنسي المتخصص في مصر القديمة والأستاذ في جامعة بول فاليري في مونبلييه، متحف اللوفر عن غموض مصدر اللوحة الجدارية. في ذلك الوقت، كان مارتينيز يدير متحف اللوفر، وكان رئيساً للجنة العلمية لوكالة متاحف فرنسا، التي كانت مكلفة مصادقة مصدر الأعمال الفنية المعروضة للاستحواذ عليها من قبل متحف اللوفر- أبو ظبي.
وفيما جرى فتح تحقيق دولي في أصل القطع في يوليو (تموز) عام 2018، واصل غابولد جمع عديد من الإشارات الحمراء التي تشكك في أصل اللوحة الجدارية. كان المؤشر الأساسي هو أن القطعة كانت بحوزة التاجر المصري حبيب تواضروس في ثلاثينيات القرن الماضي. ويرتبط اسم تواضروس بالتابوت الذهبي للكاهن المصري نجم عنخ، الذي اشتراه متحف المتروبوليتان في عام 2017، ويقدر سعره بـ3.5 مليون يورو، الذي ثبت في ما بعد أنه جرى بيعه للمتحف الأميركي بطريقة غير شرعية، وقامت السلطات الأميركية بإعادته إلى مصر في عام 2019.
وقال غابولد للمكتب المركزي لمكافحة الاتجار في الممتلكات الثقافية في فرنسا، في عام 2021، "لقد أثار ذلك انزعاجي"، وفقاً لصحيفة "ليبراسيون" الفرنسية اليومية، التي حصلت على نسخة من شهادة العالم الفرنسي.
حلقة تهريب وأسماء عدة
الأسماء تكثر في حلقة تهريب الآثار المصرية، إذ ذكرت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية في 26 مايو (أيار) الماضي، أنه جرى استخدام ما لا يقل عن سبع وثائق مزورة لبيع لوحة الجرانيت الخاصة بتوت عنخ آمون، إضافة إلى ذلك، وجدت أن اللوحة وعديداً من التحف المصرية الأخرى التي اشتراها متحف اللوفر- أبو ظبي ومتروبوليتان جرى بيعها من قبل التاجر الفرنسي كريستوف كونيكي، الخبير الذي ترأس قسم الآثار في دار المزادات المرموقة في باريس بيير بيرجي وشركاه.
تم اتهام كونيكي بالتآمر الإجرامي والاحتيال الجماعي وغسل الأموال في عام 2020، على الرغم من أنه تمسك ببراءته. ومع ذلك، تقول صحيفة "أرت نيوز"، إنه جرى توجيه اتهامات لبيير بيرجي وشركاه في مارس (آذار) الماضي، بـ"التواطؤ في الاحتيال كجزء من مجموعة منظمة" و"غسل الأموال" للسماح بتوثيق وبيع عديد من الأعمال الأثرية المسروقة، في حين لم يتم أي اتهامات لرئيس بيرجي، أنطوان غودو، الذي استجوبته الشرطة في يونيو 2020.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لما يقرب من 15 عاماً، عمل كونيكي خبيراً معتمداً للأعمال الأثرية في بيير بيرجي، إضافة إلى كونه مورداً للأعمال القديمة، التي حصل على عمولة عنها، كما أنه هو نفسه المسؤول عن بيع التابوت الذهبي لنجم عنخ، وفقاً لصحيفة "ذا أرت". واشترى كونيكي عديداً من الأعمال الفنية المشبوهة من التاجر الألماني اللبناني روبن ديب، في هامبورغ، الذي يعتبر الآن "عضواً بارزاً في هذه المنظمة الإجرامية"، وفقاً لتقرير المكتب المركزي لمكافحة الاتجار في الممتلكات الثقافية في فرنسا.
وفي مارس الماضي، اعتقلت السلطات الألمانية ديب، وهو مدير معرض ديونيسوس، لتوسطه في عملية بيع القطع، وجرى تسليمه إلى باريس للاستجواب في القضية، بينما مالك المعرض سيروب سيمونيان، تمكن من الهروب والاختفاء.
وفي تعليقات لـ"اندبندنت عربية"، أشارت مونيكا حنا، عميدة كلية الآثار والتراث الحضاري بالأكاديمية العربية للعلوم البحرية، إلى أنه لم يتم التعرف حتى الآن على الوسيط، الذي أخرج القطع من مصر، لكن تحقيقات الإنتربول ما زالت جارية بالتعاون مع جهات التحقيق المصرية.
عودة القطع لمصر
في حين جرت مصادرة خمسة تحف مصرية من متحف ميتروبوليتان، بقيمة تزيد على 3 ملايين يورو، لكن من غير الواضح مصير باقي القطع التي جرى الكشف عنها، أو تلك التي لم يتم الكشف عنها بعد. وفيما لم يرد متحف اللوفر - أبو ظبي على طلب "اندبندنت عربية" بالتعليق، أوضحت حنا أنه طبقاً للكود الأخلاقي لمتحف اللوفر ولقانون عام 1983 المصري الذي يحظر الاتجار في الآثار، فسوف تعاد القطع الخمس الموجودة لدى متحف اللوفر- أبو ظبي، لمصر بعد انتهاء التحقيقات.
وأوضحت أن الإمارات ليست طرفاً في شراء هذه القطع، بل هناك اتفاق مع هيئة المتاحف في باريس لإدارة متحف اللوفر- أبو ظبي، الذي بموجبه يكون متحف اللوفر- باريس مسؤولاً عن شراء القطع الأثرية. وأضافت أنه عندما تسلمت إدارة اللوفر- أبو ظبي، الوثائق الخاصة بالقطع كانت هناك شكوك بشأن صحة الوثائق الخاصة بالقطع، وقام بإجراء تحقيق داخلي أثبت أن القطع مسروقة بالفعل، وهو التحقيق الذي جرى ضمه ضمن التحقيق الدولي. وفقاً لحنا فإن المسؤولية القانونية بشأن القطع العشرة تقع على متحف اللوفر- باريس، الذي أعلن، الأسبوع الماضي، تقديم التماس للانضمام إلى التحقيق الجنائي بصفته طرفاً مدنياً، مما قد يسمح له بتلقي تعويضات مالية إذا كان هناك حكم لصالحه بتضرره بشكل مباشر من عصابة الاتجار المزعومة.
فورة في عمليات تهريب الآثار
يعتقد المحققون الفرنسيون أن مئات القطع الأثرية تعرضت للنهب خلال احتجاجات الربيع العربي التي اجتاحت عديداً من دول الشرق الأوسط في أواخر عام 2010. ويعتقد أنه جرى بيعها إلى صالات العرض والمتاحف التي لم تطرح كثيراً من الأسئلة حول الملكية السابقة لتلك القطع، ولم تبحث بما فيه الكفاية في التناقضات المحتملة في شهادات منشأها.
وتنص قوانين "يونيسكو" على أن أي قطعة هربت بعد عام 1972 من حق الدولة استرجاعها. وما يسهل عملية تعقب القطع المسروقة في هذه الحالة هو السجل الخاص بها لدى الدولة، إذ إن كل قطعة آثار في المتاحف لديها سجل ورقم يسهل تعقبها في حال السرقة، على الرغم من قدرة المهربين على تزوير أوراق جديدة. ومع ذلك، تشير حنا إلى أن المشكلة تتعلق بشكل رئيس بتلك القطع التي يجري تهريبها جراء عمليات الحفر غير القانونية أو تلك التي توجد في المخازن أحياناً من دون سجل لها.
وتقول السلطات المصرية إن عدد عمليات الحفر غير القانونية قفز بشكل كبير في السنوات الأخيرة ليبلغ 8960 في عام 2020. وفي عام 2019، أثار إعلان دار المزادات العالمية الشهيرة "كريستيز" عزمها بيع رأس تمثال الملك المصري توت عنخ آمون، في مزاد بالعاصمة البريطانية (لندن)، غضباً مصرياً واسعاً، بشأن كيفية تهريب واحدة من القطع الأثرية لأحد أهم الملوك الفراعنة، الذين يهتم علماء الآثار على مدار العقود بكشف أسراره. وفي حين جرى وقف عرض القطعة في المزاد بناءً على طلب من وزارة الخارجية المصرية لنظيرتها البريطانية ودار المزادات و"يونيسكو"، التي طالبت بعرض المستندات الخاصة بملكية القطعة وإثبات أن التمثال غادر البلاد بشكل قانوني، لكن لم يتم استرداد القطعة حتى الآن.
وقالت ألكسندرا ديازيك، مديرة الاتصالات لمنطقة جنوب أوروبا لدى الدار، لـ"اندبندنت عربية"، عبر البريد الإلكتروني، إن "القطع الأثرية القديمة يصعب تتبعها عبر آلاف السنين". وأوضحت أنه "من المهم للغاية تأسيس ملكية حديثة، وحق قانوني في البيع، وهو ما فعلناه بوضوح". وأكدت آنذاك أنهم "لن يطرحوا للبيع أي قطعة، بينما هناك قلق بشأن ملكيتها أو طريقة الحصول عليها"، ما دفع وزير الآثار المصري الأسبق وعضو اللجنة القومية لاستعادة الآثار المسروقة الدكتور زاهي حواس، لاتهام دار المزادات البريطانية بـ"الكذب"، نافياً بشكل قاطع أن يكون لديهم أي أوراق قانونية تتعلق بالتمثال.
ويشير فينسينت ميشيل، أستاذ علم الآثار في جامعة بواتييه في فرنسا، في تعليقات للوكالة الفرنسية، إلى أن المقابر القديمة حول العالم أصبحت على نحو متزايد "محلات سوبر ماركت في الهواء الطلق" للجميع من لصوص صغار إلى مجرمين منظمين. ووصف "سلسلة معقدة" من التهريب تمتد من مواقع في أماكن غير مستقرة مثل العراق وسوريا وليبيا، وأجزاء أخرى كثيرة حول العالم، عبر بلدان العبور إلى دور المزادات وجامعي التحف من القطاع الخاص في أوروبا والولايات المتحدة، وبشكل متزايد من آسيا والخليج.
وبحسب ميشيل، فإن التحقيقات الخاصة بالقطع المصرية المسروقة في ميتروبوليتان واللوفر ليست نادرة في عالم الآثار، حيث يعتقد أن قيمة الآثار المنهوبة تصل إلى "عشرات أو حتى مئات الملايين من اليورو" سنوياً. ويضيف أن المزورين "بارعون بشكل لا يصدق" عندما يتعلق الأمر بإخفاء المصدر غير المشروع للقطع، وتلفيق مستندات بمزيج دقيق من المعلومات الكاذبة والحقيقية، وتلفيق تصاريح التصدير أو فواتير الشراء المزيفة، حتى شهادات "يونيسكو".