ليس أكثر من الأجوبة سوى الأسئلة عما يبدو نوعاً من عجز العالم عن مواجهة التحدي الإيراني. ليس فقط في المسألة التي يتفق عليها الكبار والصغار، وهي منع طهران من حيازة سلاح نووي، بل أيضاً في قضية النفوذ الإقليمي وزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، حيث تتباين الحسابات. فما تعمل له طهران في السر قبل الاتفاق النووي في فيينا، ومعه في العلن بعد خروج أميركا منه، هو رفع النسبة في تخصيب اليورانيوم للوصول إلى "دولة - حافة" ومعرفة كل الأمور التي يتطلبها صنع قنبلة نووية. وما تمارسه في العراق وسوريا ولبنان واليمن هو إنشاء أو رعاية ميليشيات أيديولوجية مذهبية مسلحة تشكل "جبهة مقاومة" دفاعاً عن طهران، وتحضيراً للمشروع الإقليمي الذي عنوانه "ولاية الفقيه". وهي تعلن أن هدفها المباشر في المرحلة الحالية هو إخراج أميركا من الشرق الأوسط، لتكون لها "اليد العليا" في المنطقة، بحسب المرشد الأعلى علي خامنئي.
فضلاً عن أنها تهزأ بالعالم كله، لا فقط بالغرب. فالرد السريع على قرار في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ينتقد مماطلة إيران في تقديم "إجابات ذات صدقية" عن أسئلة الوكالة حول "آثار اليورانيوم المخصب في ثلاثة مواقع غير معلنة"، كان وقف كاميرات المراقبة المنصوبة في المنشآت النووية بموجب اتفاق فيينا. وما كان المطلوب منها سوى التعاون مع وكالة الطاقة الذرية، ومرحباً بتعاون على المزاج بحماية روسيا والصين.
لكن الامتحان الأهم كان بعد الخروج الأميركي من الاتفاق النووي. امتحان أميركا. وامتحان القوى الدولية الأخرى الخمس التي وقعت الاتفاق إلى جانب أميركا، وهي بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا. طهران سخرت من القوى الخمس حين تصرفت كأن الاتفاق بينها وبين واشنطن، بحيث بدأت تتخلى عن التزاماتها بموجب الاتفاق غير عابئة بالشركاء الآخرين. وسخرت من أميركا التي بدت عاجزة عن رسم استراتيجية فعلية للمواجهة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك أن الرئيس دونالد ترمب الذي أعلن الخروج مما سماه "أسوأ اتفاق في التاريخ، مارس سياسة "العقوبات القصوى" على إيران من دون بديل، إن لم تدفعها العقوبات إلى التفاوض على اتفاق "أفضل" في نظر أميركا. وكان الفشل مدوياً في غياب البديل العسكري لمنع طهران من صنع قنبلة، والبديل السياسي لوقف النفوذ الإيراني المتصاعد في المنطقة.
والرئيس جو بايدن، المتحمس للعودة إلى الاتفاق النووي، رضخ لكل مطالب النظام الإيراني وشروطه، من فرض المفاوضات غير المباشرة على القوة العظمى، إلى رفض أي حديث عن البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي، والاكتفاء بما في بنود الاتفاق كما جرى توقيعه عام 2015. ولولا المصاعب الداخلية التي منعت إدارة بايدن من تنفيذ مطلب طهران رفع الحرس الثوري من لائحة الإرهاب، لتمت العودة إلى الاتفاق. ولا شيء يوحي بأن الإدارة تعمل على بديل، لا عسكري لمنع طهران من الحصول على قنبلة نووية. ولا سياسي - أمني لمواجهة نفوذها الإقليمي.
ويقول الخبير الأميركي من أصل إيراني كريم سادجادبور من مؤسسة "كارتيغي" في مقال نشرته "فورين أفيرز" تحت عنوان "نصر إيران الفارغ: الثمن الكبير للهيمنة الإقليمية"، إنه "لا قوة لديها الرغبة في تحدي إيران في المنطقة، لكن أميركا تستطيع احتواءها بمساعدة بلدان أخرى إلى أن تصير لطهران حكومة تصنع الخير لشعبها". فما يراه هو أن "إيران تحاول إقامة إمبريالية عبر إنشاء ميليشيات لمقاومة إمبريالية". وهي تبني "قوة على أراض 85 من شعوبها تحت خط الفقر في العراق وسوريا ولبنان"، لكنه يتصور "أن التهديد الكبير للاستراتيجية الإيرانية الكبرى يأتي من الداخل، حيث الفقر وغضب الناس والتظاهرات الرافعة شعار: انسوا سوريا، فكروا فينا، إنهم يكذبون بالقول إن عدونا أميركا، عدونا هنا".
والمفارقة أن إيران تتصرف كأن روسيا والصين صارتا في حاجة أكبر إليها بعد حرب أوكرانيا، وأن نفوذها الإقليمي مرشح لمزيد من التوسع، لكن من الوهم أن تتمكن أقلية في المنطقة من حكم الأكثرية.